قال الله تبارك وتعالى: (﴿تَبَارَكَ﴾ تكاثَرَ خير، ﴿الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ﴾ [الفرقان ١٠]).
نشوف المؤلف في أول السورة فسَّر ﴿تَبَارَكَ﴾ [الفرقان ١] بأي شيء؟
* طالب: (تعالى).
* الشيخ: بـ(تعالى)، وهنا: (تكاثَرَ خيرُه)، فهل معنى ذلك أن هذه الكلمة خاضعة للسياق وأنها تفسر في سياق بمعنى (تعالى) وفي سياق بمعنى (تكاثر خيره)؟
ظاهر صنيع المؤلف أنها كذلك؛ أن هذه الكلمة (تَبَارَكَ) إن جاءت في سياق فُسِّرت بمقتضاه، وإن جاءت في سياق فُسِّرت بمقتضاه. ولكننا أشرنا فيما سبق إلى أنها وإن دلت على التعالي فهي دالة أيضًا على كثرة الخير؛ لأنها من البركة، والبركة هي كثرة الخير مع دوامه، مأخوذة من البِركة التي هي مجمع الماء، ففيها ماءٌ ثابتٌ وكثيرٌ.
﴿تَبَارَكَ الَّذِي﴾ أي: تعالى مع كثرة الخيرات، ﴿الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾ إلى آخره.
جملة صلة الموصول هنا شرطية، أو لا؟ الجملة التي وصل بها الموصول شرطية، وهي ﴿إِنْ شَاءَ جَعَلَ﴾، فنستفيد من ذلك أن صلة الموصول تأتي شرطية، وإذا أتت شرطية فلا بُدَّ من وجود فعل الشرط وجواب الشرط، ثم نقول: الجملة من فعل الشرط وجوابه صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
﴿تَبَارَكَ الَّذِي﴾ والمراد به الله سبحانه وتعالى، (﴿إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾ الذي قالوه من الكنز والبستان). ما هو الخير؟ أبدل منه قوله: (﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي: في الدنيا؛ لأنه شاء أن يعطيه إياها في الآخرة، ﴿وَيَجْعَلْ﴾ بالجزم، ﴿لَكَ قُصُورًا﴾ أيضًا، وفي قراءة بالرفع استئنافًا) (...) كذلك.
وقول المؤلف: (أي: في الدنيا؛ لأنه شاء أن يعطيه إياها في الآخرة) ما له داعٍ؛ لأن السياق يغني عن هذا القيد؛ إذ إن هؤلاء يقترحون أن تكون الأمور السابقة لهم في الآخرة ولَّا في الدنيا؟
* طالب: في الدنيا.
* الشيخ: في الدنيا، فيقول الله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا﴾، فالقيد الذي ذكر المؤلف كأنه يقول: جوابًا على الإيراد الذي يرد علينا -وهو أن الله تعالى قد شاء أن يعطي رسوله جنة الآخرة- نقيد الآية بالدنيا، نقول: ما حاجة إلى هذا القيد؛ لأنهم هم لا يريدون أن الله يجعل له كنزًا وجنة في الآخرة، يريدون أن تكون له في الدنيا، فيقول الله: لو شاء الله أن يجعل لك ذلك لجعل لك خيرًا منه، وهي هذه البساتين، وهم يقولون: ﴿أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾، واللي بيجعل الله بدلًا عنها لو شاء: ﴿جَنَّاتٍ﴾، ما هي جنة واحدة.
أيضًا ﴿يَأْكُلُ مِنْهَا﴾، الجنة ربما يُؤْكَل منها وهي ليس فيها أنهار، يمكن تشرب النخيل والأشجار بعروقها. لكن هنا ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أبلغ وأتم؛ لأن لجريان الماء في أنهاره شهوةً بصريةً يتلذذ بها الإنسان عند رؤيته إياه، زيادة على كثرة الماء على البستان الذي يكون سببًا لكثرة نمائه وقوته.
وقوله: ﴿وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ فيها قراءتان: ﴿وَيَجْعَلْ﴾ بالسكون، ﴿وَيَجْعَلُ﴾ بالرفع.
على قراءة السكون ويش تكون معطوفة عليه؟ على جواب الشرط: ﴿إِنْ شَاءَ جَعَلَ﴾ ﴿وَيَجْعَلْ﴾، وعلى قراءة الرفع يقول المؤلف: (استئنافًا). ولكنه ليس متعينًا حتى على قراءة الرفع، يعني كأنه يقول: وهو يجعل لك قصورًا، وليس كذلك، يعني لا تفهموا منه هذا الأمر، (استئنافًا) من حيث الإعراب لا من حيث المعنى؛ لأن المعنى مضافًا إلى ما سبق، لكنه من حيث الإعراب يجوز فيه الجزم اتباعًا للفظ، ويجوز الرفع (استئنافًا)، ويكون عطف جملة على جملة.
يقول ابن مالك في ألفيته:
؎وَبَعْدَ مَاضٍ رَفْعُكَ الْجَزَا حَسَنْ ∗∗∗ ...........................
يعني: إذا كان فعل الشرط ماضيًا، فرفع (الجزاء) إذا كان مضارعًا.
؎......رَفْعُكَ الْجَزَا حَسَنْ ∗∗∗ وَرَفْعُهُ بَعْدَ مُضَارِعٍ وَهَنْ
يعني: ضعف، وهو جائز لكنه ضعيف.
يستفاد من هذه الآيات: عناية الله سبحانه وتعالى بالرسول ﷺ بالدفاع عنه، وعناية الله بالرسول بالدفاع عنه ليست عناية به وحده، بل حتى في الأمة؛ لأن ذلك يزيل الشبه التي يحتج بها المبطلون، وإزالة الشبه عن الأمة هذه من رحمة الله تعالى بهم، والله الموفق. (...)
* * *
﴿كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا﴾ [الفرقان ١١] لمَّا ذكر الله سبحانه وتعالى ما جنى به هؤلاء عليه وعلى وحيه وعلى رسوله والجوابَ على ذلك ذكَرَ أمرًا آخر وهو تكذيبهم بالساعة، وأتى بـ(بَل) الدالة على الانتقال، وهذا الانتقال ليس إبطالًا لما سبق، بل إضافة شيء آخر إليه، وهو قوله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ﴾.
والمراد ﴿بِالسَّاعَةِ﴾ يوم القيامة، وكلمة (الساعة) تُطْلَق في اللغة على كل أمر هامٍّ، كأنه لا يوجد إلا هذه الساعة التي يشار إليها بهذا الزمن، وإلا فهي في الأصل لكل مدة من الزمان قليلة كانت أم كثيرة، لكنها تُطْلَق كثيرًا على ما يحدث فيه أمر هامٍّ، وذلك كما هنا.
﴿كَذَّبُوا﴾ بها، التكذيب بالساعة يشمل التكذيب بوقوعها رأسًا؛ بأن يقول: لا بعث، أو التكذيب بما يقع فيها من الأمور؛ كالحساب والكتب والصراط والحوض والشفاعة، وما أشبه ذلك؛ لأن الإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان بوقوعه وبما يقع فيه، فإذا كذَّب به الإنسان رأسًا فقد كذَّب به، وإذا صدَّق به ولكن كذَّب بما يقع فيه فهو أيضًا مكذِّب به.
قال الله عز وجل: (﴿وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا﴾ نارا مُسَعَّرَة؛ أي: مُشْتَدَّة).
﴿أَعْتَدْنَا﴾ بمعنى هيَّأنا، و﴿لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ﴾ منهم ومن غيرهم؛ ولهذا أتى بـ(مَن) الدَّالة على العموم، ولم يقل: وأعتدنا لهم، وهذا إظهار في موضع الإضمار، وقد سبق أمس أن من فوائد الإظهار في موضع الإضمار العمومَ، والتصريح بالعلة؛ علة الحكم.
فقوله: ﴿لِمَنْ كَذَّبَ﴾ ﴿سَعِيرًا﴾، كأن هذا تعليل للحكم الذي هو قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ ﴿سَعِيرًا﴾ لأنهم كذبوا بالساعة.
وقوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ﴾ * يستفاد منه: أن النار مخلوقة الآن، وهو كذلك، وقد دلَّت على ذلك نصوص الكتاب والسُّنة، قال الله تعالى عن آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر ٤٦]، وهذا نص صريح بأنها مخلوقة. وفي الأحاديث الصحيحة ما يدل على ذلك مثل: «اشْتَكَتِ النَّارَ إِلَى رَبِّهَا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسًا فِي الشِّتَاءَ، وَنَفَسًا فِي الصِّيْفِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٣٦)، ومسلم (٦١٧ / ١٨٦) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]].
وقوله: ﴿سَعِيرًا﴾ قال المؤلف: (نارًا مُسَّعرة)، فجعل (فعيلًا) بمعنى مفعولٍ؛ أي: مُسَّعرة. ويحتمل أن تكون بمعنى فاعلٍ؛ أي: حارقة تُحْرِق مَن دخل فيها. والمعنى لا يتنافى؛ لأنها إذا كانت مُسَّعرةً -يعني: مُشتدَّة الحرارة- أو كانت هي بنفسها تسْعَرُ بالناس وتأكلهم، فهذا وهذا متلازمان.
(﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا﴾ [الفرقان ١٢] غليانًا كالغَضْبان إذا غلى صَدْره من الغضب، ﴿وَزَفِيرًا﴾ صوتًا شديدًا، أو سماعُ التَّغَيُّظِ رؤيتُه وعلْمُه).
يقول: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾، الفاعل هي السعير، وفيه دليل على أنها ترى، وهذه الرؤية يجب أن نحملها على المعنى الحقيقي. ولا يمكن أن نقول: إن هذا من باب الاستعارة، وإنه معنى مجازي؛ لأنه من الجائز أن يخلق الله تعالى فيها إدراك الرؤية، وإن كانت هي ليست من ذوات الرؤية في العادة، ولكن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، كما أن الأرض تسمع وتُحَدِّث ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ [الزلزلة ٤]، والمؤذِّنُ لا يسمع صوتَه شجرٌ ولا مَدَرٌ إلا شهِدَ له يوم القيامة[[أخرج ابن خزيمة (٣٨٩) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالنداء؛ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يسمع صوته شجر، ولا مدر، ولا حجر، ولا جن، ولا إنس إلا شهد له».]].
فنحن نقول: ليس في هذه الآية استعارة، بل هي على المعنى الحقيقي، وأن النار تَرَى؛ لأن الله أخبر أنها ترى ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ﴾. وما المانع من أن الله يخلق بها هذه الحاسة؟
بدليل أيضًا ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا﴾، التغيَّظ من المعروف أنه لا يكون إلا من ذوات الشعور، ولكن مع هذا يجب أن نقول: إنه في هذه الآية على ظاهره، وإنها تتغيَّظ ويُسْمَع لتغيُّظها صوتٌ مثل تغيظ الإنسان الغضبان، إذا امتلأ صدره غضبًا فإنك تسمع له صوتًا من الغضب.
وهذا دليل على شدة حَنَقِها -والعياذ بالله- على أهلها، وأنها كما قال الله تعالى في سورة تبارك: ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [الملك ٧، ٨]، فما ظنُّك بشيءٍ يُلْقَى فيه الإنسان في جوفه وهو ممتلئ عليه غيظًا وحَنَقًا، ماذا يصنع به؟ هذا دليل على شدة عذابها -والعياذ بالله- وأنها لا ترحمهم، ولا تألوا فيهم أي شيء؛ إلًّا ولا ذمَّة.
(﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا﴾ غليانًا كالغَضْبان إذا غلى صدْرُه من الغضب ﴿وَزَفِيرًا﴾ ) هذا وهو مِن مكانٍ بعيدٍ، مما يدل على أن هذا التغيُّظ والزفير شديد أو هيِّنٌ؟ شديد، ما دام يُسْمَع من محَلٍّ بعيد فإنه شديد.
المؤلف يقول: (أو سَمَاعُ التَّغَيُّظ رؤيتُه وعلْمُه) هذا ليس بصحيح وإن كان محتملًا، لكن المعنى الأول أن تُحْمَلَ الرؤية على الحقيقة، هذا هو الواجب. وقد مرَّ علينا من قواعد التفسير، بل من قواعد كل كلام: أنه يجب أن يُحْمَل على ظاهره وعلى حقيقته ما لم يوجد دليل يصرف عن الحقيقة أو الظاهر، وليس دليلًا أيَّ دليل، يوجد دليل صحيح، وأما ما يظنه الإنسان دليلًا وليس بدليل فهذا غير مقبول.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: يعني إذا رأوها.
* الطالب: يعني اللفظ ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ﴾، إذا رآهم زبائنها يعني؟
* الشيخ: لا، ما هو بصحيح، هذا من التحريف في الواقع؛ لأنا قلنا: جائز أن الله تعالى يخلق فيها حاسة الرؤية.
* طالب: فيه أحاديث ضعيفة مقيِّدة للآية (...)؟
* الشيخ: على أيش؟
* الطالب: أحاديث ضعيفة، يعني قيل: لها عينان[[أخرج الطبراني في الكبير (٧٥٩٩) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: «من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من بين عيني جهنم». فشق ذلك على أصحابه، فقالوا: يا رسول الله، نحدث عنك بالحديث نزيد وننقص؟ قال: «ليس ذا أعنيكم إنما أعني الذي يكذب علي متحدثًا، يطلب به شين الإسلام». قالوا: يا رسول الله، إنك قلت: بين عيني جهنم وهل لجهنم عين؟ قال: «نعم»، أما سمعته يقول: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: ١٢] فهل تراهم إلا بعينين؟]] (...).
* الشيخ: نحن ما، هذه الأحاديث ضعيفة..
* الطالب: تؤيدنا يعني (...)؟
* الشيخ: لا، ما نحتاج إلى تأييدها، التأييد ما دام عندنا اللفظ صريح ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة ٢٨٤]. الذي خلق العين في الإنسان يمتنع عليه أن يخلقها في النار؟
* طالب: لا يمتنع.
* الشيخ: لا يمتنع، لكن بعض الناس إذا لم يدرك عقلُه الشيءَ ذهب يحرفه إلى ما يدركه.
ثم إنه يجب أيضًا أن نعرف أن أحوال الآخرة لا يمكن أن تُقاس بأحوال الدنيا، نحن نعلم أن الناس يُحْشَرون؛ منهم من يسعى نوره بين يديه، ومنهم من هو في ظلمة، وهم في مكان واحد مُسْتَوٍ يُسْمِعُهم الداعي وينفذهم البصر. ونعلم أن من الناس من يعرق، فيَصِلُ العَرَق إلى كعبيه، ورُكبتيه، وحِقْويه، ومنهم من يلجمه إلجامًا، ومع ذلك فهم في مكان واحد، ولا يمكن أن تُقاس أحوال الآخرة بأحوال الدنيا أبدًا.
قال: (﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا﴾ [الفرقان ١٣] بالتشديد والتخفيف) يعني: قراءتان سبعيتان، (بأن يُضَيَّق عليهم، و﴿مِنْهَا﴾ حالٌ مِنْ ﴿مَكَانًا﴾؛ لأنه في الأصل صفةٌ له ﴿مُقَرَّنِينَ﴾ ) إلى آخره.
﴿إِذَا أُلْقُوا﴾، في هذا دليل على أنهم -والعياذ بالله- لا يُعَاملون معاملةَ رحمةٍ، بل يُلْقَون إلقاءً ويُطْرَحون طرحًا.
وقوله: ﴿مَكَانًا﴾ ظرف، عامله قوله: ﴿أُلْقُوا﴾. وقوله: ﴿مِنْهَا﴾ في الأصل صفة، ولكن القاعدة عند أهل النحو أن الجار والمجرور إذا تقدم على موصوفة صار حالًا منه؛ لأن الصفة لا تتقدَّم على الموصوف، تقول مثلًا: جاء رجلٌ على بعيرٍ راكبًا، فتُعْرِب (راكبًا) حالًا، لكن لو قدمتها على (رجل): جاء راكبٌ، لوجب أن تكون صفة بالمعنى.
كذلك الجار والمجرور؛ إذا قلت: جاء رجل على بعير، (على بعير) صفةٌ لـ(رجُل)، فإذا قدمت (على بعير): جاء على بعيرٍ رجلٌ، وجب أن تكون الصفة هذه حالًا. لماذا؟ نقول: لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف، ولهذا قال: (و﴿مِنْهَا﴾ حَالٌ مِنْ ﴿مَكَانًا﴾ )؛ لأنه في الأصل صفة له.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: إي نعم، ضيقًا.
* وفي هذا أيضًا ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا﴾: دليل على أن هذا المكان الذي يُلْقَون منه لا يكون واسعًا، بل يُضَيَّق عليهم، وهذا قبل دخولها فكيف إذا دخلوها؟!
ويحتمل أن نفس الأمكنة التي هم فيها في نفس النار تكون ضيقة؛ إذا ألقوا مكانًا منها ضيقًا، فتكون (مِن) هذه قريبة من معنى (فيها).
(﴿مُقَرَّنِينَ﴾ مُصَفَّدِينَ قد قُرِنَتْ -أي: جُمِعَتْ- أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، والتشديد للتكثير) التشديد في قوله: ﴿مُقَرَّنِينَ﴾؛ لأن أصل (مُقرَّن) أصله: قَرَنَ، يعني مأخوذة مِن: قُرِّن فهو مُقرَّن، وأصله مِن: قرَنَ بالتخفيف؛ قرَنْتُ هذا الرجل أَقْرِنُه فهو مقرونٌ، لكنها أتت بالتشديد للتكثير، أو للمبالغة في هذا القَرْن؛ أنهم يقرنون بشدة، فهم إذا ﴿أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ (هلاكًا، فيقال لهم) ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ [الفرقان ١٤].
هذا في الحقيقة تصوير بيِّنٌ لحال النار وأهلها يوم القيامة؛ أنهم قبل أن يدخلوها يسمعون لها تغيُّظًا وزفيرًا، وهذا بلا شكٍّ يخلع قلوبهم ويرعبهم.
ثم إذا أُلْقُوا فيها ليسوا يُلْقَون على سبيل الكرامة، بل يُلْقَون إلقاء. ثم إنهم لا يُلْقَون هكذا مُطْلَقين، ولكن مُقرَّنين؛ يعني مجموعة أيديهم إلى أعناقهم.
ثم إذا أُلْقُوا على هذا الوصف يدعون بالثبور والعياذ بالله؛ ﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾، يعني يقولون: واهلاكنا، واثُبورنا، وما أشبه ذلك، فيقال لهم: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾، هذا على سبيل التوبيخ؛ لأن العادة أن الرجل إذا دعا بالثُّبور في الدنيا رُحِمَ، ولكنهم هناك لا يُرْحَمون، يقال لهم: إن دعواكم بالثُّبور لا تفيدكم شيئًا، فادعوا ثبورًا كثيرًا، فالعذاب سيستمر ﴿وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾.
كل هذا يُوجِبُ لأهل النار -نسأل الله السلامة منها- أنهم يُعذَّبون عذابًا قلبيًّا وعذابًا جسميًّا، والعذاب القلبي قد يكون في بعض الأحيان أشدَّ مِن العذاب الجسمي -والعياذ بالله- فهم لا يُكرَّمون؛ لا بالفعل، ولا بالاستقبال، ولا بالقول.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: نعم، صحيح أن ما ذُكِرَ عنهم مما سبق يدل على أنهم لا يؤمنون بالبعث؛ لأن من آمن بالبعث لزم أن يعمل له. ولكن هذه في الحقيقة مِن جُملة ما قالوه، مِن جُملة ما قالوه أنهم كذبوا بالبعث، فهو إضافة إلى ما سبق. لكن نعم ينبغي أن نقول: لماذا ذُكِرَ بـ(بَلْ) دون الواو، مع أن المعائب والمساوئ التي سبَقَت كلها ذُكِرَت بالواو، وهذه ذُكِرَت بـ(بَلْ)؟
قد يُوحِي هذا بأن من أسباب أقوالهم السابقة أنهم كذبوا بالساعة؛ يعني أنهم ليس عندهم إيمان بالساعة، ولو آمنوا بها ما قالوا ما سبق.
* طالب: قوله: ﴿مَكَانًا ضَيِّقًا﴾، هل المعنى يدخلون (...)؟
* الشيخ: قلنا: فيها احتمالان؛ إما أن المعنى يلقون من مكان ضيق عند دخولهم، وإما أن المعنى أن المكان نفسه في النار يكون ضيقًا؛ يعني تُضَيَّق عليهم؛ لأن كل واحد منهم -والعياذ بالله- يكون في تابوتٍ كما جاء به الحديث؛ في تابوتٍ مُغْلَقٍ عليه[[أخرج ابن أبي شيبة (٣٥٤١٤) عن سويد بن غفلة قال: إذا أراد الله أن ينسى أهل النار جعل لكل إنسان منهم تابوت من نار على قدره، ثم أقفل عليه بأقفال من نار فلا يضرب منه عرق إلا وفيه مسمار من نار، ثم جعل ذلك التابوت في تابوت آخر من نار، ثم أقفل عليه بأقفال من نار، ثم يضرم بينهما نار، فلا يرى أحد منهم أن في النار أحدًا غيره، فذلك قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ [الزمر: ١٦]، وذلك قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: ٤١].]].
* طالب: ما ورد عن (...) تفخم بعض أجزاء جسمه؟
* الشيخ: إلا هو نفسه يُفَخَّم، ولكن ما يمنع أنه يُفَخَّم وفي مكان ضيقٍ، يمكن أن تفخيمه هذا من أسباب التضييق.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، الظاهر أنه ممكن هذا، يمكن بعضهم يقِرُّ بهذا لكنه يشرك بالله.
ولكنه يذكُرُ الله سبحانه وتعالى الأفعال منسوبة إلى الأمة جميعًا، حتى إنه أحيانًا يُخاطِبُ آخر الأمة بما فعل أولُها؛ لأنها ترضى به وتقِرُّه، انظروا مثلًا يخاطب الله بني إسرائيل في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام بما فعل أولُهم: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة ٧٢]، و﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة ٥٤]، مع أن هذا الخطاب لا يتأتَّى لهؤلاء؛ لأنهم ليسوا هم الذين فعلوا، لكن الأمة الواحدة يكون فعل بعضها فعلًا للجميع؛ لأنها ترضى به.
قال الله تعالى: (﴿قُلْ أَذَلِكَ﴾ المذكور من الوعيد وصفةِ النار، ﴿خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ﴾ ها ﴿الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ﴾ في عِلْمه تعالى، ﴿جَزَاءً﴾ ثوابًا، ﴿وَمَصِيرًا﴾ مَرْجِعًا).
الخطاب في ﴿قُلْ﴾ لمن؟ للرسول ﷺ، وكذلك لغيره، ولهذا يمكن أن نقول: إن الخطاب لكل من يتأتَّى خطابُه؛ يعني الرسول ﷺ وغيره، ولكن الأقرب أنه للنبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك فالخطاب للرسول ﷺ له ولأُمَّته ما لم يدل الدليل على تخصيصه، فنحن يمكن كل واحد أن يقول مثل هذا، فيقول للمكذبين الذين وُعِدُوا بالنار: أذلك المذكور من الوعيد الذي لا بد أن يقع خيرٌ أمْ جنَّة الخلد، ويش الجواب؟ بل جنة الخلد، بلا شك.
وهنا فيه إشكال؛ وهو أنه قال: ﴿خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾ مع أن ذلك لا خيرَ فيه إطلاقًا، فكيف يمكن أن يُقارَن بما فيه الخير المطلَقُ؟
الجواب: أن هذا من باب التنزُّل مع الخصم، وباب التنزُّل مع الخصم لا بأس أن تأتي مثْلُ هذه المقارنة، وقد قارن الله تعالى بين شيئين بينهما من التباين أعظم من التباين في وعيد أهل النار ووعد أهل الجنة، فقال تعالى: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل ٥٩]، معلوم أن الله خيرٌ، وأنه لا يمكن لأي عاقل أن يُقارِن بين هذا وهذا، لكنه لما كان المخاطبون يساوون غير الله بالله صار من باب التنزل معهم أن نخاطبهم بهذا ونقول: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾، أضافها إلى ﴿الْخُلْدِ﴾ من باب إضافةِ الموصوفِ إلى صفته؛ يعني الجنة التي هي مكان الخلد، و﴿الْخُلْدِ﴾ معناه: المُكْث، وقد صرَّح الله تعالى كثيرًا بالتأبيد في خُلودهم.
وأما أهل النار فالتأبيد ورد في ثلاث آيات من القرآن: في سورة النساء، وفي سورة الأحزاب، وفي سورة الجن؛ ففي سورة النساء: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء ١٦٨، ١٦٩]، وفي سورة الأحزاب: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [الأحزاب ٦٤، ٦٥]، وفي سورة الجن: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن ٢٣].
وفي هذا ردٌّ واضحٌ على من قال: إن عذاب النار غير مؤبَّدٍ، وممن مال إلى هذا القول -وهو من أغرب ما يكون- ابن القيم رحمه الله، حيث كان يميل إلى أن عذاب النار لا يؤبَّدُ وأنه لا بد أن ينتهي، ولكن ليس يقول: إنه ينتهي، ثم ينتقل أهل النار إلى الجنة، لا، لكن ينتهي بمعنى أنها تفنى ومَن فيها.
والصواب الذي لا شك فيه ما عليه جمهور أهل السنة وحُكِيَ إجماعًا؛ أن النار مؤبَّدة هي وأهلها، وهذا لا ينافي رحمة الله عز وجل؛ لأن الله تعالى قد أعذر إلى هؤلاء وأقام عليهم الحجة، فهم الذين جَنَوا على أنفسهم.
* طالب: الاستثناء -أحسن الله إليكم- في هود؟
* الشيخ: الاستثناء في هود؛ لأنه استثنى من قوله: ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ [هود ١٠٧]، فإنه لو قُيِّدَت بدوام السماوات والأرض لكان لها أمدٌ، فلما قال: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ هذا ما خرج عن دوام السماوات والأرض. هذا معنى الاستثناء.
* طالب: في آية أخرى (...)؟
* الشيخ: نعم، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأنعام ١٢٨]، نقول: هذا الاستثناء ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ دلَّت النصوص على أنه لا يشاء أن لا يخلدوا، فكأن هذا الاستثناء يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لمنَعَ العذاب عنهم، وأنه ليس أمرًا مُحتَّمًا عليه، بل هو في مشيئته. فالاستثناء إذن مُفسَّر بالآيات الصريحة الواضحة؛ أنه تعالى لا يشاء أن يرفع العذاب عنهم؛ لأنه أخبر، والخبر لا يخلِفُ الله خبرَه بأن عذابهم مؤبَّدٌ.
* طالب: ابن القيم (...)؟
* الشيخ: مَن؟
* الطالب: ابن القيم.
* الشيخ: لا، هو في أول كلامه جزم بهذا.
* الطالب: في حادي الأرواح (...).
* الشيخ: لا، هو ذكره في شفاء الغليل، ذكره في ذلك وجزم به في أول الكلام، ثم ساق الآثار في هذا.
* طالب: تعليل أنه ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود ١٠٧] (...)؟
* الشيخ: لا، كأنه يُشْعِر أن أحدًا لو قال: كيف يفعل الله سبحانه وتعالى هذا مع أنه عذاب دائم ورحمته وسعت كل شيء؟ فقال: إنه ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾، مثلما قال: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود ١٠٨].
وفي الحقيقة هذه الأشياء وإن كان قد يكون لها وجه هذه الاحتمالات، لكن ما دام عندنا نصوص صريحة مُحكمَةٌ، فالواجب على المؤمن أن يحمل المتشابه على المحكَمِ، ما دام أن المسائل في الآيات الثلاث هذه احتمال، فإن عندنا شيئًا لا يحتمل، وهو التصريح بالتأبيد، وتعرفون أن هذا خبر، والخبر لا يدخله النفي ولا (...).
* طالب: طيب يا شيخ، (...) إخلاف الوعيد دون إخلاف الوعد.
* الشيخ: نعم، ولو قالوا، الله يتمدح بأنه لا يخلف وأن خبره صدق، والوعيد الذي يتمدح الله به هو ما يدخل تحت المشيئة ما سوى الشرك، فنحن مثلًا فيه وعيد على المعاصي اللي دون الشرك، فإذا عفا الله عنها فهذا طيبٌ ويمدح عليه سبحانه وتعالى.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: من هو عنه؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: إي، لكن عمر وغير عمر يخاطب بقوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: لا، ما علينا منه، حتى لو كان صريحًا، لو قال: سيخرجون، نقول: لا يخرجون، ما دام أن فيه آيات صريحة ما هو المانع؟ و﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا﴾ [النبأ ٢٣، ٢٤] أيضًا هذه ما تدل على التقييد؛ لأن ﴿أَحْقَابًا﴾ يعني: طويلة لا منتهى لها، هذا المعنى، والإنسان إذا تصور أنه بيبقى في النار ما هو بأحقاب، يعني ثانية من الزمن وهو عاقل، فسوف يتجنب عمل أهل النار، فكيف بمن يلبثون فيه أحقابًا؟! وهي لا تدل على التقييد، ومن زعم أنها تدل على التقييد وقال: إن الأحقاب هذه مقيدة بما بعدها، يعني: ﴿أَحْقَابًا (٢٣) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا﴾ و﴿أَحْقَابًا﴾ أخرى يذوقون، فهذا ليس بصحيح، بل إن المعنى المبالغة في ذلك وأنهم لابثين فيها دهورًا عظيمة طويلة لا منتهى لها.
(﴿أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ﴾ ها ﴿الْمُتَّقُونَ﴾ ) أتى المؤلف بـ(ها)، ويش هي (ها)؟ مفعولٌ ثانٍ لـ﴿وُعِدَ﴾؛ لأن (وَعَدَ) مما ينصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر؛ فالمفعول الأول محذوف، والمفعول الثاني نائب الفاعل ﴿الْمُتَّقُونَ﴾. وقد سبق لنا كثيرًا أن المتَّقي هو من اتخذ وقاية من عذاب الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وأن هذا أجمع ما قيل في التقوى وأنسب ما يكون للفظها؛ لأنها من (اتَّقى) من الوقاية.
وقوله: ﴿وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾، مَن الذي وعدهم؟ وعدهم الله سبحانه وتعالى، وحُذِفَ الفاعل هنا للعلم به؛ كقوله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء ٢٨]، والخالق هو الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (﴿كَانَتْ لَهُمْ﴾ فِي عِلْمه)، تقييد المؤلف رحمه الله الكينونة في علمه؛ لأن (كان) فعل ماض، والجنة قد كانت مصيرًا ولَّا ستكون مصيرًا؟ ستكون مصيرًا، فلهذا قيَّد الكينونة التي عبَّر عنها بالفعل الماضي، قيدها في علم الله، يعني لا بحسب الواقع؛ لأن الواقع لم تكن وإنما ستكون، ولكن هذا بناء على أن (كان) يُراد بها الزمن، مع أن (كان) إذا تأمل الإنسان مواضعها في القرآن وفي السنة وجدها أنها أحيانًا تدل على مجرد الحدث، لا على الزمن؛ لأن الفعل كما تعرفون يدل على زمنٍ ومعنى، فـ(كان) دائمًا تأتي للدلالة على مجرد المعنى فقط، يعني: ﴿الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ وهي لهم جزاء ومصير. وعلى هذا فلا حاجة إلى التقدير الذي ذكره المؤلف، وهذا هو الأوضح، ﴿الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ يعني: وهي لهم جزاء ومصير، ولا حاجة إلى أن نقدر أنها كانت في علم الله، بل هي ﴿كَانَتْ﴾ أي: هي جزاء، فنجرِّد (كان) من الدلالة على الزمن، وإذا جرَّدناها كما ترد كثيرًا في اللغة العربية سلِمْنا من هذا التقدير الذي جاء به المؤلف.
* طالب: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء ١١]؟
* الشيخ: مثلها، مجردة عن الزمن، هذه مجردة عن الزمن؛ لأن الله ما زال ولا يزال غفورًا رحيمًا.
* الطالب: نحن قلنا: (...)؟
* الشيخ: لا، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء ٢٣]، عندما نأتي بـ(كان) ونقول: المراد بها الزمن والحدث، مثل مغفرة الله ورحمته فيما سبق، أما الآن فليس غفورًا رحيمًا، لكن هذه يراد بها مجرد الحدث؛ يعني أنه متَّصفٌ بالمغفرة والرحمة. ومثلها هذه الآية، و(كان) هذه دائمًا تدل على مجرد الحدث لا على الزمن.
* طالب: (...) رؤوس الآي؟
* الشيخ: ويش لون؟
* الطالب: فيقال: إن الله غفور رحيم (...)؟
* الشيخ: لا، يمكن، ما هو بلازم، يعني أحيانًا تأتي مُتناسِبة وأحيانًا غير مُتناسِبة.
الكلام على إن (كان) يا جماعة، المهم هذا، (كان) تأتي دائمًا في اللغة العربية لا يُراد بها الزمن وإنما يراد بها مُطلَقُ الحدَثِ؛ يعني أن هذا الأمر هو الواقع، فهنا ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾، من المعلوم أن المتَّقين الآن ما دخلوا الجنة ولا صاروا إليها، ولكنهم سيصيرون، لذلك احتاج المؤلف أن يقدر: (في علمه)، يعني: كانت في علم الله. ولكننا نقول: لا حاجة لهذا التقدير؛ لأن (كان) مسلوبةُ الدلالة عن الزمن.
وقوله: ﴿جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾، يقول: (ثوابًا)، والذي جعل هذا الثواب لهم هو الله سبحانه وتعالى، (﴿وَمَصِيرًا﴾ مَرْجِعًا). من متى تكون مصيرًا؟ من يوم القيامة أو من موته؟
* طالب: من موته.
* الشيخ: من حين ما يموتون، ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ [النحل ٣٢]، لكنها طبعًا ما هي دخول الجنة التي في السماء، ولهذا يُفْتَح له باب إلى الجنة، ويُفْرَش له فراشٌ من الجنة، ويلبس بلباس من الجنة. فالمتَّقون من حين ما يموتون يدخلون الجنة، كما أن أهل الجحيم من حين ما يموتون يذوقون عذاب الجحيم.
ولهذا في كُتُبِ المواعظ، أنا البارحة سمعت واحدًا يقرأ في كتب المواعظ يأتون بالموت والدود والأشياء هذه وأكله الدود والصديد، وما أشبه ذلك، هذا في الحقيقة إنما يكون على الجسم فقط، والناس إذا شعروا بهذا الشيء ما يفرحون بالموت، ينفرون منه كثيرًا، الذي ينبغي أن يوعظ الإنسان بما يكون على روحه، فيقال مثلًا: إنه إذا مات وليس من أهل التقوى يكون له من العذاب كذا وكذا.. إلى آخره، وإذا كان من أهل التقوى يكون في نعيم ومن أهل الجنة؛ لأجل أن المؤمن يفرح. أما أننا نذهب ونوجه الناس إلى التخويف من الأمر الحسي المادي فقط فهذا في الحقيقة مما يسيء إلى الناس، عندما يسمع الإنسان هذا الشيء، هل يكون مطمئنًّا للموت؟ لا، أبدًا، ينفر منه، لكن عندما يسمع أنه إذا كان مؤمنًا دخل الجنة من حين ما يموت، نعم، تجده يمكن لا أقول: يفرح بالموت، لكنه يستبشر بهذا الوعد الذي يكون له.
فهذا هو الذي ينبغي أن ينشأ الناس عليه، ما ينبغي أنهم يذكر لهم الأمور المادية فقط، ولذلك لو تأملت القرآن كله لوجدت أن هذه الأمور المادية ما لها ذكر في القرآن، إنما يذكر في القرآن ما يكون على الروح من النعيم والعذاب، حتى إن الإنسان يستبشر ويفرح ويعمل لهذا النعيم، نعم، ويخاف ويرهب ويهرب من هذا الجحيم.
هذه المسألة أنا أحببنا أننا ننبه عليها؛ لأنها توجد كثيرًا في كتب الوعظ، مثل ما يوجد في كتب الوعظ أشياء كثيرة ترغب فيما نهى عنه الشرع، مثل ما يذكرون عن بعض العباد الذين يعذرون بجهلهم أنهم كانوا يقومون الليل كله في جميع أعمارهم، وقالوا: إن فلانًا بقي أربعين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء. ويش قصدهم بهذا؟ الترغيب. هذا ضد ما أمر به الرسول عليه الصلاة والسلام، فيكون هذا من المحادة لله ورسوله، فهم يأتون بأمور منكرة لا يعرفونها، وأنا أبين لكم ذلك؛ لأنكم تسمعون مثل ما أسمع، فإذا حصل مثلًا قارئ من الأئمة يقرأ بمثل هذه الكتب فإنه يجب علينا أن نتكلم معه، ما هو بأمام الناس هكذا، لا؛ لأن العوام -كما تعرفون- عوام، ويكونون مع إمامهم، يمكن تكون بحق وهم يقومون عليك، لكن من الممكن إذا خلص تقول له: يا أخي، تجيبه بالطمأنينة تقول: أنت إمام يُقْتَدى بك، والعوام يقولون: ما قيل في المحراب فهو صواب، فأنت يجب أن تعرف أن هذا خلاف الشرع، وتبين له ما استطعتم من البيان، حتى يكون الأئمة اللي يقتضى بهم الآن على صواب.
* طالب: أحاديث ضغطة القبر صحيحة[[منها ما أخرجه ابن حبان (٢٤٦٦٤) عن عائشة، عن النبي ﷺ قال: «للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ».]] (...)؟
* الشيخ: إي نعم، لكن ضغطة القبر ما أعرف عن صحته، وردت في قصة سعد بن معاذ، ولكن ما يحضرني الآن هل هو صحيح، هو قطعًا ليس في الصحيحين، لكن ما أدري هل يصل إلى درجة الصحة أم لا، لكنه مهما كان ضغطة القبر ليست بشيء بالنسبة لما يقولون وما يصفون من حال الميت، وهم يركزون على مسألة الجسم، حتى إن الناس مهما كانت أعمالهم الصالحة يقعون في القنوط.
* طالب: يا شيخ، فناء الجسم أو بقاؤه دليل على الصلاح أو كذا؟
* الشيخ: واللهِ هو الظاهر أن بقاءه يدل على الصلاح؛ لأنه ما يقع إلا كرامة؛ لأن الأصل أن الأجسام تأكلها الأرض، إلا الأنبياء فإنهم لا تأكلهم الأرض[[أخرج أبو داود (١٠٤٧) عن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي» قال: قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت -يقولون: بليت-؟ فقال: «إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء».]].
* طالب: والشهداء؟
* الشيخ: لا، الشهداء ما ثبت، المسألة في الأنبياء.
* طالب: طيب وذهابهم؟
* الشيخ: نعم.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: ما يدل على أن الإنسان ليس من أهل الخير، ما يدل، لكنه قد يقع كرامة لبعض أهل الخير.
* طالب: لكن الحديث ما هو بصحيح؟
* الشيخ: الشهداء، لا.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا، أن تأكل أجساد الأنبياء فقط.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: إي، هو من باب الكرامة، وكذلك قصة عمر لما حفروا القبور، إي نعم. لكن في شهداء أحد من وجدت الأرض قد أكلته.
* طالب: سبحان الله!
* الشيخ: أكلت بعض جسمه، ما هو كل جسمه. (...)
(﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾ مرجِعًا، ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ﴾ [الفرقان ١٦] حالٌ لازِمَةٌ) أيها الحال اللازمة؟
* طالب: ﴿خَالِدِينَ﴾.
* الشيخ: ﴿خَالِدِينَ﴾.
وقوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ﴾، هذه الآية تدل على أن كل ما يشاءون فهو لهم، وفي سورة (ق) أن الله قال: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق ٣٥]؛ يعني: عند الله مزيد على ما يشاؤه الإنسان؛ لأن الإنسان مهما بلغ فإن تصوره وإرادته قاصرة، فقد يشاء أشياء ويخفى عليه من النعيم أشياء، فيكملها الله سبحانه وتعالى له، ولهذا قال: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ﴾.
وقوله: ﴿خَالِدِينَ﴾، ويش معنى (حال لازمة)؟ يعني هل هناك حال لازمة وحال عارضة؟
الجواب: نعم، إذا كانت الحال ليست لازمة لصاحبها فهي حال عارضة (...) أقبل الرجل راكبًا، هذه حال عارضة؛ لأنه قد يقبل غير راكب؛ ماشيًا. وإذا كانت لازمة..
كانت الملائكة أكثر، وكلُّ سماء فإنَّها أكثر ملائكةً من السماء التي تحتها.
كذلك أيضًا هؤلاء الملائكة الذين يحيطون بالعالم، كل دائرة أكثر عددًا من الدائرة التي قبلها، وإنما يُنَزَّلون بيانًا لعظمة الله عز وجل وإحاطةً بالخلق، وحينئذ يصدُق قول الله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن ٣٣]؛ لأنهم ما يستطيعون مع إحاطة الملائكة بهم أن يهربوا من أهوال هذا اليوم.
وقوله تعالى: ﴿تَنْزِيلًا﴾ مصدر (نُزِّل)، وهو كما أسلفنا يدلُّ على أنهم يَنْزِلون شيئًا فشيئًا، لا ينزلون جملة، فتنزل ملائكة السماء الدنيا أولًا، ثم الثانية ثم الثالثة إلى السابعة.
وأشرنا إلى الآية التي في سورة الرحمن دفعًا لقول بعض الناس الذين يفسِّرونها بهذه الأقمار الصناعية أو المراكبِ الفضائية التي صعد الناس بها إلى الفضاء، ويزعمون أن قول الله تعالى: ﴿لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ إلا بعلمٍ، وأنَّ هذا العلم أوصلهم إلى النفوذ، وهذا لا شك تحريف للقرآن، ولا حاجة إلى أن نتكلَّف فنقول: كل ما يحدث فإن في القرآن له شاهدًا. ما حاجة لهذا التكلف؛ لأن هذه الحوادث شواهدها حصولُها، متى حصلت فإننا نؤمن بهذا، سواء دلَّ عليها القرآن أو سكت عنها القرآن، إلا إذا دلَّ القرآن على نفيها فإنه لا يجوز لنا أن نصدقها.
وكل ما يحدث من هذه الاختراعات وهذه الصناعات فإنه داخل في قوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل ٨]، بعد أن قال: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل ٨] قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، هذه الآية يدخل فيها كل ما حدث وكلُّ ما يحدث من مثل هذه الأمور. وأما أن نحرِّف القرآن إلى ما يوافق هذا الواقع، فهذا حرام علينا ولا يجوز.
وأما قوله: ﴿إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن ٣٣] فليس المراد به العلم، المراد به السلطة التي تتمكنون بها من النفوذ؛ لأن السلطان في كل موضعٍ بحسبه، وأصلُه: السلطة التي يتمكن بها الإنسان من الوصول إلى ما يريد؛ فمثلًا إذا كانت في دعوى مدعٍ، نقول: لا سلطان لك في هذا يعني: لا حُجَّة لك، كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا﴾ [يونس ٦٨]؛ يعني: ما عندكم من حجة؛ لأن الحجة سلطة يتمكن بها المدَّعِي من إثبات دعواه.
ثم إن الآية: ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الرحمن ٣٣]، وهؤلاء لم ينفذوا من أقطار السماوات، حتى لو قلنا: إنهم نفذوا من أقطار الأرض أو خرجوا عن محيط الأرض، فإنهم لا يستطيعون أن ينفُذوا من أقطار السماوات.
ثم إن الآية ظاهرة في التحدي: ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾، والتحدي بما يمكن صحيح ولّا لا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: التحدي بما يمكن غير صحيح؛ لأنه يبطل التحدي.
ثم إن قوله: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ﴾ [الرحمن ٣٥] يكذِّبه الواقع، يكذب دعوى هؤلاء الواقع؛ لأنهم طاروا إلى الفضاء ووصلوا إلى ما وصلوا إليه، ولم يرسل عليهم شواظ من نار ولا نحاس.
فالمهم أنا قصدي بذلك أن بعض الناس أهل العلم بالطبيعة يحاولون أن يوجدوا لكل حادث دليلًا خاصًّا من القرآن، وهذا لا يجوز؛ لأنه يصرِفُ القرآن عما أراد الله به، ويقتضي أن يتلاعب الناس في القرآن.
ثم إنهم مثلًا قد يستدلون بالآيات الكريمة على ما رأوا من النظريات، وتأتي بعد ذلك نظريات أخرى تُبْطِلها، فيكون القرآن حينئذ باطلًا حسب ما استدلَّ به الأولون، ونحن ولله الحمد في غنى عن هذا الأمر؛ هذه الأمور الحوادث التي تحدث من صنائع الإنسان أمر لا حاجة إلى إقامة الدليل عليه من القرآن؛ لأن واقعَها يُثْبِتُها.
* طالب: هم يريدون إثبات إعجاز القرآن، (...)؟
* الشيخ: إعجاز القرآن يكفي أن نقول: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل ٨]؟
* طالب: طيب، والحقائق (...)؟
* الشيخ: إذا دلَّ عليها القرآن لا بأس، لكن كوننا نُحرِّف القرآن من أجل أن نخضِعه للدلالة على هذا الأمر، لا.
أما مثلًا لو استُدِلَّ بتطور الجنين في خِلْقَتِه، فاستدل أحد بالآية الكريمة وبالحديث الصحيح هذا لا بأس، الشيء اللِّي يدلُّ عليه القرآن يدل عليه القرآن، لكن شيء يُحرَّف القرآن من أجله، لا.
* طالب: قال مثلًا: (...)؟
* الشيخ: هذا أيضًا غير صحيح؛ لأنَّ أحوال الآخرة ما تقاس بأحوال الدنيا، والإنسان مثلًا لو احترق الآن جلده وانكشط، وأحرقنا اللحم ما يخالف، أحرقْنا اللَّحم، يتعذَّب الإنسان بلا شك، يتعذَّب الإنسانُ به يقينًا، ولا (...) نجربه.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: صحيح، هذا معقول، وكل الداخل في الغالب ما فيه إحساس؛ ولهذا ما يحس الإنسان بنزول الطعام في بطنه.
* طالب: بعض (...)؟
* الشيخ: إي، ما يخالف، ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام ٣٨]، ما المراد بـ﴿الْكِتَابِ﴾؟
* طالب: اللوح المحفوظ.
* الشيخ: اللوح المحفوظ، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام ٣٨]، لكن ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل ٨٩] هذه أوضح إن أرادوا يستدلون، ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، لكننا نعلم أن التبيان إما مجمل وإما مفصَّل، والقضية المشهورة عن الشيخ محمد عبده مع الرجل النصراني حينما سأله عن كيفية صنع الطعام الذي قُدِّم له في المطعم، قال: القرآن تبيان لكل شيء، فكيف يُصْنَع هذا الطعام؟ أين يوجد في القرآن كيف يصنع؟ فقال: هذا موجود في القرآن، فدعا الطباخ وقال له: كيف تصنع هذا الطعام؟ قال: أصنعه بكذا وكذا، فقال: هكذا الطريق في القرآن، فإن الله يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل ٤٣]، وكل قوم ذكرهم خاص بهم، فأنا سألت هذا الرجل؛ لأني ما أعلم. فالقرآن قد يدلنا على الشيء مباشرة أو بالوسيلة والطريقة.
* طالب: قوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل ٨] ما المقصود بها؟ (...)؟
* الشيخ: كل ما لا نعلمه، يعني أن الله سبحانه وتعالى يخلق كل شيء لا نعلمه، في وقتنا نحن..
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: على كل هذه الحوادث، إي نعم.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: لا ما يعلم الإنسان، قبل أن تقع ما يعلم الإنسان.
* الطالب: بعد وقوعها يعلمها.
* الشيخ: بعد وقوعها يعلمها؛ لأنه قال: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل ٨]، وهذا شيء معلوم، ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل ٨]؛ يعني أشياء لا تعلمونها، وفعلًا خلَق الله تعالى أشياء ما كانوا يعلمونها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وسيخلُق أشياء ما نعلمها نحن في وقتها.
* الطالب: يعني مثلًا (...)؟
* الشيخ: إلى آخر الدهر، يخلق الله سبحانه وتعالى إلى آخر الدهر شيئًا لا يعلمه مَنْ سبق، لكن يعلمه مَن أدركه؛ لأن كونه يخلق معناه يوجد، نعم، الموجود لا بد أن يُعْلَم؛ لأن الله يتحدث عن أمر سيكون لنا: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل ٨]، فإذا كان يتحدث عن أمر سيكون لنا فمعناه سنعلمه إذا خلقه الله.
* طالب: قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء ٧] (...)؟
* الشيخ: إي نعم، كل شيء ما تعلمه فالطريق إلى الوصول إليه أن تسأل أهل ذكره.
* الطالب: لكن أهل الذكر ما المقصود بهم؟
* الشيخ: أهل العلم، لكن هل المراد أهل العلم الشرعي أو كل علم بحسبِه؟ افرض أنك خصصته بالعلم الشرعي، لنفرض أننا خصصناه بالعلم الشرعي، أفلا يقاس غيرُه عليه؟
* الطالب: بلى.
* الشيخ: (...)، فهي إما أن تدل على العموم، وتكون شاملة لمثل هذه القضية بدلالة التضمُّن، وإما بدلالة الشمول المعنوي لا اللفظي، وهو القياس.
* طالب: بس السياق ما يدل على أنه (...)؟
* الشيخ: هي الآية ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ [النحل ٤٣، ٤٤]، هذه آية، هذه تدلُّ على أن المراد العلم الشرعي؛ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ [النحل ٤٣] لا.
وفي الآية الثانية ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء ٧] وهو عام، ما قال: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾. ومثل ما قلت لك: إن كان أنها شاملة لكل شيء وأن أهل كل ذكر بحسبه فهي شاملة، وإلا فهي شاملة شمولًا معنويًّا وهو القياس. فنقول: إذا كان الله أحالَنا على أهل الذكر الشرعيِّ لمعرفة الحكم الشرعي، فكذلك نحن نتحول إلى أهل العلم غير الشرعي لمعرفة هذا العلم.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: إي نعم، لكن مثل ما ذكرنا لك الآن: إن العموم قد يكون شمولًا لفظيًّا، وقد يكون شمولًا معنويًّا، فهم لا يستوون، لكن من الذي يُثْنَى عليه؟ أهل العلم الشرعي.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: الشمول اللفظي معناه أن هذا اللفظ يدل على هذا بخصوصه؛ يعني من جملة الأفراد الدالة، والعموم المعنوي معناه أن هذا اللفظ لا يدخل فيه ما ذُكِرَ، لكنه يقاس على ما ذُكِرَ فيه، فيكون هذا عمومًا معنويًّا؛ لأن العلة في الجميع واحدة.
{"ayahs_start":10,"ayahs":["تَبَارَكَ ٱلَّذِیۤ إِن شَاۤءَ جَعَلَ لَكَ خَیۡرࣰا مِّن ذَ ٰلِكَ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ وَیَجۡعَل لَّكَ قُصُورَۢا","بَلۡ كَذَّبُوا۟ بِٱلسَّاعَةِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِیرًا","إِذَا رَأَتۡهُم مِّن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ سَمِعُوا۟ لَهَا تَغَیُّظࣰا وَزَفِیرࣰا","وَإِذَاۤ أُلۡقُوا۟ مِنۡهَا مَكَانࣰا ضَیِّقࣰا مُّقَرَّنِینَ دَعَوۡا۟ هُنَالِكَ ثُبُورࣰا","لَّا تَدۡعُوا۟ ٱلۡیَوۡمَ ثُبُورࣰا وَ ٰحِدࣰا وَٱدۡعُوا۟ ثُبُورࣰا كَثِیرࣰا","قُلۡ أَذَ ٰلِكَ خَیۡرٌ أَمۡ جَنَّةُ ٱلۡخُلۡدِ ٱلَّتِی وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۚ كَانَتۡ لَهُمۡ جَزَاۤءࣰ وَمَصِیرࣰا","لَّهُمۡ فِیهَا مَا یَشَاۤءُونَ خَـٰلِدِینَۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعۡدࣰا مَّسۡـُٔولࣰا","وَیَوۡمَ یَحۡشُرُهُمۡ وَمَا یَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَیَقُولُ ءَأَنتُمۡ أَضۡلَلۡتُمۡ عِبَادِی هَـٰۤؤُلَاۤءِ أَمۡ هُمۡ ضَلُّوا۟ ٱلسَّبِیلَ","قَالُوا۟ سُبۡحَـٰنَكَ مَا كَانَ یَنۢبَغِی لَنَاۤ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِیَاۤءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَاۤءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُوا۟ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُوا۟ قَوۡمَۢا بُورࣰا","فَقَدۡ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسۡتَطِیعُونَ صَرۡفࣰا وَلَا نَصۡرࣰاۚ وَمَن یَظۡلِم مِّنكُمۡ نُذِقۡهُ عَذَابࣰا كَبِیرࣰا","وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ إِلَّاۤ إِنَّهُمۡ لَیَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَیَمۡشُونَ فِی ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضࣲ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِیرࣰا","۞ وَقَالَ ٱلَّذِینَ لَا یَرۡجُونَ لِقَاۤءَنَا لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡنَا ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَوۡ نَرَىٰ رَبَّنَاۗ لَقَدِ ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ وَعَتَوۡ عُتُوࣰّا كَبِیرࣰا","یَوۡمَ یَرَوۡنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ لَا بُشۡرَىٰ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُجۡرِمِینَ وَیَقُولُونَ حِجۡرࣰا مَّحۡجُورࣰا","وَقَدِمۡنَاۤ إِلَىٰ مَا عَمِلُوا۟ مِنۡ عَمَلࣲ فَجَعَلۡنَـٰهُ هَبَاۤءࣰ مَّنثُورًا","أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِ یَوۡمَىِٕذٍ خَیۡرࣱ مُّسۡتَقَرࣰّا وَأَحۡسَنُ مَقِیلࣰا"],"ayah":"لَّهُمۡ فِیهَا مَا یَشَاۤءُونَ خَـٰلِدِینَۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعۡدࣰا مَّسۡـُٔولࣰا"}