الباحث القرآني

ثم قال تعالى: (﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ أي: يأتي بكلٍّ منهما بدل الآخر ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ التقليب ﴿لَعِبْرَةً﴾ دلالةً ﴿لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور: ٤٤] لأصحاب البصائر على قدرة الله تعالى). قوله: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ التقليب معناه تغيير الشيء مِن جهةٍ إلى جهةٍ. وهذا التقليب هل المراد به التقليب الحسِّيُّ الذي أشار إليه المؤلِّف؛ بمعنى أنه يأتي بهذا بدل هذا، وهذا بدل هذا، أو المراد ما هو أَشْمَل؛ التقليب الحسِّيُّ والمعنويُّ؟ الجواب: نعم، المراد ما هو أعَمُّ مِن التقليب الحسِّي. والتقليبُ الحسِّي: أنَّ الله يَقْلِب الأرضَ بَدَلًا مِن أنْ كانتْ ضياءً ونهارًا إلى ليلٍ، ثم إلى نهارٍ، وهكذا. والتقليب المعنوي ما يَحصُل في هذه الأيام مِن الحوادثِ والتغيُّرات، والعِزِّ والنَّصْر والإذلال والخذلان؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران ١٤٠]. الصواب في التقليب هنا أنه ليس خاصًّا بالتقليب الحسِّي الذي هو جَعْل الليلِ مكانَ النهارِ والنهارِ مكانَ الليلِ، بلْ هو أعَمَّ من ذلك، يشمل الحسِّيَّ والمعنويَّ. ومِن التقليب أيضًا تقليبُ الفصول؛ حيث يطول اللَّيلُ والنَّهارُ مَرَّةً في وقت الشتاء ومَرَّةً في وقت الصيف، كل هذا من التقليب، المهمُّ أنه يجب أن تعرف أن هذا التقليب عامٌّ في كلِّ ما يَحصُل من تغييرٍ في اللَّيل والنَّهار مِن الأمور الحسِّية والأمور المعنوية، وهذا هو وجْه العِبرة: إنَّ في ذلك التقليبِ لعِبرةً لأولي الأبصار؛ فصاحب البصيرة -الأبصار: البصائر، لا المراد بالأبصار بَصَر العَيْن- فكلُّ ذي بصيرةٍ يعرف ما في تقليب اللَّيلِ والنَّهارِ من قدرة الله عز وجل؛ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ﴾ [القصص ٧١] لو اجتمع الخلْق كُلُّهم على أن تَخْرج الشمس في نصف الليل مثلًا يستطيعون ولَّا لا؟ ما يستطيعون، ولو اجتمعوا كُلُّهم على أن يأتي الليلُ في نصف النهار ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولو أنَّ الله تعالى جَعَل الوقتَ دائمًا ليلًا أو نهارًا ما استطاع الخلْق كُلُّهم أن يُغَيِّروا هذا الوضع، ولهذا بيَّن الله مِنَّتَه على عباده؛ ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ [القصص ٧٣]. كذلك ما يَحصُل في اللَّيل والنَّهار من الحوادث وتقلُّبات الأمور فهذا أيضًا فيه عِبرةٌ، تَجِدُ مثلًا هذا الْمُلْكَ لهذا الرَّجل؛ ملكٌ تامٌّ وافٍ ونِعَمٌ وافرةٌ، ثم ينقلب ذلك الْمُلْكُ إلى ذُلٍّ وأَسْرٍ، وتَجِدُ هؤلاء القومَ في عِزٍّ ونَصْرٍ وتمكينٍ وإذا الأمرُ بالعكس، كُلُّ هذا مما يَستدِلُّ به الإنسان العاقل ذو البصيرة على ما لله تعالى مِن قُدرةٍ في تقليب الأمور ومن حِكْمةٍ في تدبيرها. قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ إذا كنْتَ لا تتَّخذ مِن ذلك عِبرة، ولَمْ تَجِدْ في نفْسك حركةً لهذا التقلُّب وهذا التغيُّر فاعلمْ أنك لسْتَ مِن ذوي البصائر؛ لأنَّ كلام الله سبحانه وتعالى مُحْكَمٌ ما يتغيَّر، وقد أَخْبَرَ أنَّ في ذلك التقليب، ويش فيه؟ عِبرة لأولي الأبصار، فإذا لَمْ يكُنْ في ذلك لك عِبرة فاعلمْ أنك لسْتَ مِن ذوي البصائر، إذَنْ لا بد أن تعالج نفسك حتى تتأمَّل ما في هذا التقليب من العِبَر وتَعتبر به، لا تَظُنّ هذه مجرَّد كلمة أُطْلِقَتْ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ وبَسْ، ويش يكون الإنسان صاحب البصيرة؟ يَعرِف ما لله تعالى في ذلك من القُدرة والحِكْمة، ولكنْ يجب أن تَعتبر، فإذا لم تَعتبر أنت فإنك لسْتَ مِن ذوي البصائر.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب