الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ القراءات: قوله: ﴿وَصِيَّةً﴾ فيها قراءتان: ﴿وَصِيَّةً﴾ و﴿وَصِيَّةٌ﴾ ، ويأتي إن شاء الله توجيهما في الإعراب.
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ﴾ الإعراب ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ﴾ مبتدأ. وقوله: ﴿وَصِيَّةً﴾ أو ﴿وَصِيَّةٌ﴾ من هذا يؤخذ خبر المبتدأ، فإن كانت بالنصب فإن خبر المبتدأ جملة فعلية؛ التقدير: يوصون وصية، أو يوصيهم وصية، على خلاف في ذلك هل الوصية من الله أو منهم، فإن كانت من الله فالتقدير: نوصيهم وصية، وإن كانت منهم فالتقدير: يوصون وصية، وأما على قراءة الرفع ﴿وَصِيَّةٌ﴾ فإن الخبر تقديره: عليهم وصية لأزواجهم، أفهمتم الآن؟ أين الرابط؟ الرابط الضمير في الجملة المحذوفة سواء قلنا: عليهم وصية، أو قلنا: نوصيهم وصية، أو: يوصون وصية هو الضمير المحذوف.
وقوله: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ ﴿مَتَاعًا﴾ هذه مصدر لفعل محذوف، التقدير: يمتعونهن متاعًا إلى الحول. وقوله: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ هذه إما صفة لمصدر محذوف؛ يعني متاعًا غير إخراج؛ يعني: متعة غير مخرجين فيها، أو أنها حال من الفاعل في الفعل المحذوف.
وقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ هذه لا النافية للجنس واسمها وخبرها. وقوله: ﴿مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ متعلق بـ ﴿فَعَلْنَ﴾، إلى آخره، والباقي واضح. يقول الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ﴾ أي: يقبضون، والمراد قبض الموت؛ لأن الوفاة وفاتان: وفاة نوم، ووفاة موت، فمن وفاة النوم قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ [الأنعام ٦٠]، فهذه وفاة النوم طبعًا، ومن وفاة الموت قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [السجدة ١١]. ومن الوفاة الجامعة لهما قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر ٤٢] يعني ويتوفى التي لم تمت من منامها، ومن أي الأقسام قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران ٥٥]؟
* طالب: وفاة النوم.
* الشيخ: وفاة النوم على القول الصحيح، وإن كان بعضهم ذكر أنها وفاة موت، لكن الصواب أنها وفاة نوم.
* طالب: كيف نعرف يا شيخ أنها وفاة موت؟
* الشيخ: وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ أي: يقبضون أيش؟ وفاة الموت ولَّا وفاة النوم؟
* الطلبة: الموت.
* الشيخ: طيب ومن الذي يتوفى؟ جاءت في القرآن على ثلاثة وجوه: مضافة إلى الله، ومضافة إلى ملك الموت، ومضافة إلى رسل الله، فمن ورودها مضافة إلى الله؟
* الطالب: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام ٦٠].
* الشيخ: أي وفاة النوم.
* طالب: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر ٤٢].
* الشيخ: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾. ومن ورودها مضافة إلى ملك الموت؟
* الطالب: يتوفاكم يعني ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة ١١].
* الشيخ: نعم، ومن ورودها مضافة إلى الرسل الملائكة؟
* طالب: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام ٦١]
* الشيخ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾، فهل في هذا تناقض؟
الجواب: لا؛ لأنه لا تناقض في كلام الله وكلام رسوله ﷺ، ولكنها تُحمل على وجوه، فإضافتها إلى الله؛ لأنها وقعت بأمره، فهو الذي يأمر بها سبحانه وتعالى، وإذا كان الأمر يتوقف على أمر، إذا كان الشيء يتوقف على أمر آمِر فإنه ينسب إليه، ولهذا نقول: بنى فلان قصره، أي: أمر ببنائه، وقال: بنى عمرو بن العاص مدينة الفسطاط أي: أمر ببنائها، وأما إضافتها إلى ملك الموت؛ فلأنه هو الذي يقبض الروح، وأما إضافتها إلى الملائكة فلأنهم أعوان ملك الموت، فإما أن يكون المراد بالملائكة الذين يعالجون الروح حتى تخرج وتبلغ الحلقوم ثم يقبضها ملك الموت، أو أن المراد بهم الملائكة الذين يقبضونها من ملك الموت؛ لأنها تنزل عند الاحتضار ملائكة إلى الميت؛ ملائكة رحمة وملائكة عذاب، ثم يقبض ملك الموت الروح ويعطيها هؤلاء الملائكة الذين نزلوا؛ إذن الآية هنا مبنية للمجهول ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ فتعم كل هذه الوجوه.
وقوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ الخطاب لعموم الأمة، وليس خاصًّا بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأن القرآن نزل للجميع إلى يوم القيامة، فالخطاب الموجود فيه عام لكل الأمة.
وقوله: ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ معطوف على قوله: ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ ومعنى ﴿يَذَرُونَ﴾ يتركون. وقوله: ﴿أَزْوَاجًا﴾ يعني أزواجا لهم، وهو جمع (زَوْج)، والزوج للشيء ما كان مزدوجًا معه مختلطًا معه، وكذلك يقال للشفع: زوجًا؛ لأنه يجعل الواحد اثنين.
وقوله: ﴿وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ اختلف فيها العلماء، هل المعنى وصية منهم لأزواجهم، أو وصية من الله لهم يوصون لأزواجهم؟
وبينهما فرق، فإذا قلنا: وصية لأزواجهم أي: أنهم هم يوصون لأزواجهم صار المعنى أنه يلزمهم أن يوصوا لأزواجهم إذا قلنا التقدير: عليهم وصية، يكون عليهم وصية لأزواجهم.
(يوصون وصية) جملة خبرية بمعنى الأمر، وإذا قلنا: وصية من الله للأزواج؛ فالمعنى أن الله أوصاهم بذلك، والله تعالى يوصي كما قال الله تبارك وتعالى في آيات الفرائض ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء ١٢] و﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء ١١].
وقوله: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ لأزواجه من الزوجات. ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ يعني: أنهم يوصون بأن يُمتعون إلى الحول بالنفقة والكسوة، وأما السكنى فأفادها قوله: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾. وقوله: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ من أين؟ الميت قد مات ولكن ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ من الورثة الذي يرثون المال بعده، ومنه البيت الذي تسكنه المرأة؛ الزوجة. وقوله: ﴿مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ أي: إلى السنة من موته إلى أن يأتي عليه الحول، والمراد بالسنة هنا السنة الهلالية؛ لأنها هي المواقيت الشرعية كما قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة ١٨٩] ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ يعني أنتم لا تخرجوهن، لكن هل يلزمهن البقاء في هذا؟
* طالب: لا يلزمهن.
* الشيخ: لا، ولهذا قال: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾. إن خرجن قبل الحول فلا إثم عليكم؛ لأن الخيار لهن، ولكن لا بد أن يكون ما تفعله هؤلاء النساء بالمعروف الذي يقره الشرع وتقره العادة، فلو خرجت من البيت على وجه منكر كما لو خرجت متبرجة متطيبة تتعرض للفتن، فهل علينا جناح لَّا لا؟ نعم، لأن الله قيدها بالمعروف.
﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿عَزِيزٌ﴾ أي: ذو عزة، والعزيز من أسماء الله سبحانه وتعالى، ومعناه: أنه عزيز في مُلكه، عزيز في قدْره، عزيز في امتناعه، عزيز في ملكه غالب لا يُغلب، عزيز في قدره؛ يعني عظيم القدر، وعزيز في امتناعه أي: يمتنع أن يناله السوء، وأما الأول فإن منه قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون ٨] يعني الأعز في ماذا؟ في الغلبة، في الغلبة والقهر، قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ﴾ [المنافقون ٨]، وأما الثاني -الذي هو عزة القدر- فمثل أن تقول لصاحبك: أنت عزيز عليَّ؛ يعني غالٍ عليَّ وذو قدر في نفسي، وأما الثالث وهو الامتناع فإن منه قولهم: هذه أرض عزَازٌ، عزاز يعني شديدة قوية، وعندنا في اللغة العامية يقولون: هذه أرض عزا، عزا بالألف أي: قوية، فالله سبحانه وتعالى ممتنع أن يناله السوء، هذا هو معنى العزة كما أشار إليها ابن القيم رحمه الله في النونية وقال: ؎........................ ∗∗∗ فَالْعِزُّ حِيَنئِذٍ ثَلَاثُ مَعَانِ وأما الحكيم فقد تقدم لنا أنه مأخوذ من الحُكم والحِكمة، فعلى أنه مأخوذ من الحُكم يكون حكيم بمعنى (حاكِم)، وعلى أنه مأخوذ من الحِكمة يكون حكيم بمعنى (مُحْكِم).
أما حكيم بمعنى (حاكِم) فهي كثيرة في اللغة العربية ولا تحتاج إلى شواهد؛ لأنها معروفة، وأما حكيم بمعنى (مُحْكِم) فإن (فَعِيلًا) تأتي بمعنى (مُفْعِل) كما في قول الشاعر: ؎أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَــــــــــــــــابِيهُجُـــــــــوعُ فالسميع هنا بمعنى (الْمُسْمِع)، إذن فالحكيم بمعنى (الْمُحْكِم) يعني الذي أحكم كل شيء، أحكم كل شيء حكم به أي: أتقنه ووضعه بحيث لا يكون فيه نقص ولا خلل، ولهذا قيل: إن الحكمة هي وضع الشيء في مواضعه مع الإتقان والإجادة.
نحن قلنا الآن إن حكيم بمعنى (حاكِم) وبمعنى (مُحكِم)، والحكم، حكم الله عز وجل كوني وشرعي، فمن الشرعي قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة ٥٠] هذا أيش؟ هذا شرعي، وكذلك قوله تعالى في سورة الممتحنة لما ذكر ما يجب نحو المهاجرات قال: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة ١٠] هذا حكم شرعي.
ومن الحكم الكوني قول أحد إخوة يوسف: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ [يوسف ٨٠]. يعني حكم شرعي ولَّا قدري؟ حكم قدري؛ لأن الحكم الشرعي هو غير ممنوع شرعًا محكوم له بأن يبرح الأرض، لكنه يريد حكمًا كونيًّا.
وقوله ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين ٨] ما المراد به؟ يشملهما، يشملهما جميعًا فهو أحكم الحاكمين كونًا، وأحكم الحاكمين شرعًا.
ثم نعود فنقول: إن الحكمة تتعلق بكل من النوعين، أي: من الحكم الكوني والشرعي، فحكمة الله تعالى ملازِمة لحكم الكوني والشرعي، ثم نقول مرة ثانية في الحكمة: إن الحكمة لها صورة ولها غاية، فالصورة معناها أن يكون هذا الشيء على هذا الوجه المعين، والغاية أن يكون الغاية منه غاية حميدة يحمد عليها الحاكم، وهذا ثابت لله عز وجل في الحكمين ولَّا لا؟ ثابت في الحكمين، فخلق الأشياء والحكم عليها وعلى أفعالها كله موافق للحكمة، ثم الغاية من هذا الخلق أيضًا موافقة للحِكمة، هذا هو تفسير الآية الكريمة وإعرابها وقراءاتها.
أما فوائدها: فيستفاد منها عدة أمور: من فوائد الآية الكريمة: أن الزوجة تبقى زوجيتها حتى بعد الموت؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: نعم، من أين تؤخذ؟
* الطلبة: من قوله: ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾.
* الشيخ: من قوله: ﴿أَزْوَاجًا﴾ ألا يقول قائل: إن المراد باعتبار ما كان؟
* طالب: إنه خلاف الأصل.
* الشيخ: خلاف الأصل؟ إذا قلتم: تبقى زوجة يرد علينا إشكال أنها لا تحل لأحد بعده؟
* طالب: مقيدة.
* الشيخ: مقيدة لأيش؟
* الطلبة: إلى الحول.
* طالب: إلى انتهاء العدة.
* الشيخ: أو بانتهاء العدة. ويدل لذلك أن المرأة إذا مات زوجها جاز أن تُغسله ولو كانت أحكام الزوجية يعني منقطعة ما جاز لها أن تغسل زوجها.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الزوج يوصي بوصية من الله لزوجته بعد موته أن تبقى في بيته سنة كاملة وينفق عليها من تركته، أو لا؟ أن الزوج يوصي لزوجته بوصية من الله -أنا قلت هكذا علشان تشمل القراءتين- يوصي بوصية من الله، قصدي علشان يشمل المعنيين، يوصي لزوجته بوصية من الله أن تبقى في بيته لمدة سنة كاملة وينفق عليها من أيش؟ من تركته، هذا ما تفيده الآية، فهل هذا الحكم منسوخ؟ لأن لدينا الآن حكمين؛ الحكم الأول: أنها تأخذ شيئًا من ماله إلى مدة سنة، والحكم الثاني: أنها تتربص بمقتضى وصيته لمدة سنة.
اختلف العلماء في هذه الآية؛ فمنهم من قال: إنها منسوخة في الأمرين، ومنهم من قال: إنها منسوخة في وصية المال، ومنهم من قال: إنها غير منسوخة فيهما، فهذه ثلاثة أقوال: منسوخة في الأمرين، غير منسوخة فيهما، منسوخة في المال دون غيره، نشوف، الذين قالوا: إنها منسوخة فيهما قالوا: أما البقاء في البيت مدة سنة فقد نُسخ بقوله تعالى فيما سبق: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة ٢٣٤]. وهذا قول جمهور المفسرين، وعليه يدل حديث الذي في البخاري «حين سئل عثمان بن عفان رضي الله عنه: لماذا أبقيت هذه الآية وهي منسوخة؟ ».ولماذا وضعتها بعد الآية الناسخة؟ وكان الأولى أن تكون المنسوخة قبل الآية الناسخة لمراعاة الترتيب،« فأجاب عثمان رضي الله عنه بأنه لا يغير شيئًا كان سبقه من قبل »[[أخرجه البخاري (٤٥٣٠، ٤٥٣٦) من عثمان بن عفان رضي الله عنه.]]. يعني لأن الترتيب بين الآيات توقيفي ما يمكن يغيره، فالآيات هذه باقية توفي الرسول عليه الصلاة والسلام وهي تتلى في القرآن، وبما كانت ولا يمكن أن نغير، وعلى هذا فتكون هذه الآية منسوخة بالآية السابقة بالنسبة لأيش؟ للعدة، وأما بالنسبة للمال فقالوا: إنها منسوخة بآيات المواريث لقوله: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ﴾ [النساء ١٢] ﴿فَلَهُنَّ الثُّمُنُ﴾ [النساء ١٢] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»[[أخرجه أبو داود (٢٨٧٠، ٣٥٦٥) والترمذي (٢١٢٠) وابن ماجه (٢٧١٣) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.]]. فعلى هذا تكون منسوخة بالنسبة للحُكمين جميعًا، وقال بعض أهل العلم: إنه لا نسخ في الموضعين؛ أما الأول العدة فإن هذه الآية لا تعني العدة؛ لأن العدة يجب أن تبقى المرأة في بيت زوجها، ولكن الآية هذه تعني أن الإنسان مأمور بأن يُوصي لزوجته أن تبقى في بيته لمدة سنة جبرًا لخاطرها وحتى لا يجتمع عليها مفارقة الزوج ومفارقة البيت لمدة سنة، وكانوا في الجاهلية تبقى المرأة بعد الوفاة سنة كاملة ما تتزوج ولا تخرج من بيتها وليست في بيتها أيضًا، وإنما تكون في حفش صغير كوخ صغير في وسط البيت، وتبقى لا تتطهر ولا تأخذ فضلاتها؛ شعورها وأظافرها وأوساخها ونتن حيضها، كل ذلك يبقى لمدة سنة، وإذا انتهت السنة وخرجت جاؤوا لها بشيء من الحيوان، طير عصفور أي شيء من الحيوان وقالوا: تمحشي به، يقول في الحديث: «فَقَلَّ مَا تَمَحَّشَتْ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ »[[حديث متفق عليه؛ البخاري (٥٣٣٧)، ومسلم (١٤٨٩) من حديث زينب بنت أبي سلمة موقوفًا بلفظ قال حميد: فقلت لزينب، وما تَرمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالتْ زينبُ: كانتِ المرأةُ إذا تُوفّي عنها زوجُها دخلتْ حِفْشًا، ولبستْ شرّ ثيابِها، ولم تمسّ طِيبًا، ولا شيئًا حتى تمرّ بها سنةٌ، ثم تُؤتَى بدابّة؛ حمار أو شاة أو طير، فتفتضّ به، فقلما تفتضُّ بشيءٍ إلا مات، ثم تخرجُ، فتُعطَى بعرةً، فتَرمي بها، ثم تراجع بعدُ ما شاءت من طِيبٍ أو غيرِهِ.]] وأيش السبب؟
* الطلبة: الرائحة الكريهة.
* الشيخ: الرائحة الكريهة، ثم تخرج وتأخذ بعرة البعير تأخذها وترمي بها، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ»[[حديث متفق عليه؛ البخاري (٥٣٣٦)، ومسلم (١٤٨٨) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.]]. إشارة إلى أي شيء؟ إلى أن جميع هذه الأشياء التي جرت عليها هي أهون عليَّ من رمي هذه البعرة (...).
* طالب: بعد الموت قوله: ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾.
* الشيخ: لكن هذه يجب أن نعلق عليها، وهذا ليس عامًّا في جميع الأحكام؟ هذه الفائدة الأولى، وهذه آخرها وهذا ليس عامًّا في جميع الأحكام، وتنقطع أيضًا وتنقطع الصلة بتمام العدة.
الفائدة الثانية قلتم؟
* طالب: أن الزوج يوصي بوصية من الله لزوجته بعد موته، وأن تبقى في بيته سنة كاملة وينفق عليها من تركته.
* الشيخ: نعم بعده؟
* طالب: ونحن قلنا: يوصي بوصية من الله قلت: هذا لأجل أن تشمل المعنيين، إحنا ذكرنا قلنا: هذا ما تفيده الآية، فهل هذا الحكم منسوخ حكمين؟ الحكم الأول: أنها تأخذ شيئًا من ماله إلى مدة سنة، والحكم الثاني: أنها تتربص بمقتضى وصيته لمدة سنة.
* الشيخ: هل هذا الحكم منسوخ بالحكمين؟
* طالب: (...) إذا كانت تبقى (...) ما تتزوج (...) طفل صغير في وسط البيت وقد سبق لها.
* الشيخ: وسط البيت.
* الطالب: نعم، وسط البيت.
* الشيخ: ونعلق على بقيتها، الآن فهمنا أن من أهل العلم من يقول: إن الآية ليست منسوخة في الموضعين لا بالنسبة للوصية بأن تبقى في البيت، ولا بالنسبة لإبقائها مدة الحول، أما بالنسبة لبقائها في البيت فقالوا: إن هذا مما جرت العادة بالتسامح فيه، فإذا أوصى الزوج زوجته أن تبقى في بيته فهذا أمر يسير، وليس وصية بمال يقتطع من ماله لها، وأما بقاؤها هي لمدة حول كامل فليس هذا على سبيل الوجوب حتى نقول: إنه نُسخ بآية العدة؛ لأن آية العدة تدل على أنه يجب على المرأة أن تبقى في بيت زوجها لمدة العدة، إن كانت حاملًا حتى تضع وإن كانت غير حامل فأربعة أشهر وعشرًا، أما هذه الآية فإن الله تعالى قال: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ ولا يمكن أن يُنسخ شيء مستحب بشيء واجب؛ لأنه لا تعارض، وقد علمنا مما سبق أن من شرط النسخ أن لا يمكن الجمع، فإذا أمكن الجمع فلا نسخ، وعندي أن القول بالنسخ في مسألة الوصية بالمال وهو السكنى والمتاع قول قوي، وأما بالنسبة للعدة فلا نسخ لإمكان الجمع، ومتى أمكن الجمع فإنه لا نسخ.
يستفاد من الآية الكريمة: أن الله عز وجل ذو رحمة واسعة حتى أوصى الزوج بأن يوصي لزوجته مع أن الزوج قد جعل الله فيه رحمة لزوجته كما قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم ٢١] فكانت رحمة الله عز وجل أعظم من رحمة الزوج بزوجته.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المرأة يحل لها إذا أوصى زوجها بأن تبقى في البيت يحل لها أن تخرج ولا تنفذ وصيته لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة ٢٤٠] لأن هذا شيء يتعلق بها وليس لزوجها مصلحة فيه، وعليه يتفرع عنها فائدة أخرى: لو أوصى زوجته أن لا تتزوج من بعده فهل يلزمها أن تنفذ وصيته؟ لا، لا يلزمها؛ لأنه إذا كان لا يلزمها أن تبقى في البيت في مدة حول فلا أن لا يلزمها أن تبقى غير متزوجة من باب أولى.
وهكذا أيضًا يؤخذ منه قياسًا كل من أوصى شخصًا بأمر يتعلق به بنفسه -بنفس الموصى له- فإن الحق له في تنفيذ الوصية وعدم تنفيذها.
يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن المسؤولين عن النساء هم الرجال من قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ يخاطب الرجال مع أن السياق للنساء.
ويستفاد منه: أن على الرجال الإثم فيما إذا خرجت المرأة عن المعروف شرعًا لقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ فدل ذلك على أنهن لو فعلن ما ليس بمعروف فعلينا الإثم.
يتفرع على هذا فائدة أخرى: أن كل مسؤول عن شخص إذا تمكن من إقامته ومنعه من المنكر فإنه يأثم، هل هذا يعارض قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام ١٦٤]؟ يعني مثلًا أنا ولي على ولدي وفعَل أمرًا منكرًا وباستطاعتي أن أمنعه منه، فهل آثم؟ نعم آثم، أفلا يعارض هذا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام ١٦٤]؟ لا؛ لأني ما دمت مسؤولًا فإنني إذا فرطت في مسؤوليتي كنت وازرًا، ووزري على نفسي.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج عن المعروف في جميع أحوالها، والمعروف هو ما أقره الشرع والعرف جميعًا، فلو خرجت في لباسها أو مشيتها أو صوتها عن المعروف شرعًا فهي آثمة ولا يحل لها أن تخرج، وعلينا إذا خرجت، أو حاولت الخروج علينا أن نردعها.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العزيز والحكيم، وإثبات ما تضمناه من صفات سواء كان ذلك عن طريق اللزوم أو المطابقة أو التضمن.
وقد مر علينا قاعدة مهمة في ذلك وهي: (أن كل اسم من أسماء الله فهو متضمن لصفة ولا عكس)، فليس كل صفة متضمنة لاسم، وذلك لأن أسماء الله وأسماء رسوله وأسماء كلامه كلها أسماء مشتقة من معانيها بخلاف أسماء الإنسان مثلًا فإنها ليست مشتقة من معانيها، قد نسمي رجلًا بعبد الله وهو عبد للشيطان مِن أكفر عباد الله، وقد نسمي هذا الرجل محمدًا وهو مُذمَّم ليس فيه خصلة حميدة، لكن أسماء الله ورسوله والقرآن كلها أسماء ذات تحمل معانيها، وحينئذٍ نقول: كل اسم فهو متضمن لصفة، وقد تكون صفة واحدة أو صفتان أو أكثر كما مر علينا.
* ومن فوائد الآية: إثبات العزة والحكمة على سبيل الإطلاق؛ لأن الله أطلق قال: ﴿عَزِيزٌ﴾ وقال: ﴿حَكِيمٌ﴾، فيكون عزيزًا في كل حال وحكيمًا كذلك في كل حال.
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ یُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَیَذَرُونَ أَزۡوَ ٰجࣰا وَصِیَّةࣰ لِّأَزۡوَ ٰجِهِم مَّتَـٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَیۡرَ إِخۡرَاجࣲۚ فَإِنۡ خَرَجۡنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ فِی مَا فَعَلۡنَ فِیۤ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعۡرُوفࣲۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق