﴿وَدَّ كَثِیرࣱ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَوۡ یَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِیمَـٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدࣰا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُوا۟ وَٱصۡفَحُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ ١٠٩ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُوا۟ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَیۡرࣲ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ ١١٠ وَقَالُوا۟ لَن یَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَـٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِیُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُوا۟ بُرۡهَـٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ١١١ بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ فَلَهُۥۤ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ ١١٢ وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ لَیۡسَتِ ٱلنَّصَـٰرَىٰ عَلَىٰ شَیۡءࣲ وَقَالَتِ ٱلنَّصَـٰرَىٰ لَیۡسَتِ ٱلۡیَهُودُ عَلَىٰ شَیۡءࣲ وَهُمۡ یَتۡلُونَ ٱلۡكِتَـٰبَۗ كَذَ ٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ یَحۡكُمُ بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ فِیمَا كَانُوا۟ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ ١١٣ وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ أَن یُذۡكَرَ فِیهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِی خَرَابِهَاۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن یَدۡخُلُوهَاۤ إِلَّا خَاۤىِٕفِینَۚ لَهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا خِزۡیࣱ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمࣱ ١١٤﴾ [البقرة ١٠٩-١١٤]
ثم قال تعالى:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾،
﴿وَدَّ كَثِيرٌ﴾ ﴿وَدَّ﴾، المودة خالص الحب، يعني: أحب، وقوله:
﴿كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والمراد بالكتاب الجنس، أو نقول (أل) للعهد، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل، وقوله:
﴿كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، يعني: لا كلهم، فإن بعض أهل الكتاب لا يودون أن ترتدوا كفارًا بل يحبون أن تبقوا مسلمين ويسلمون أيضًا هم، ولكن كثير منهم يودون هذا.
وقوله:
﴿كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ﴾، (لو) هذه شرطية ولّا مصدرية؟
* الطلبة: مصدرية.
* الشيخ: مصدرية، والغالب أن (لو) التي تأتي بعد (ود) تكون مصدرية، ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم ٩]، ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة ٢]، ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا﴾ [النساء ٨٩]، وغير ذلك، فالغالب أن (لو) إذا جاءت بعد (ود) فهي مصدرية، وقوله: ﴿لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾، الكاف مفعول أول لـ(يردون)، و(كفارًا) مفعول ثان، يعني: لو يُرجعونكم كفارًا، وهذان المفعولان أصلهما المبتدأ والخبر، نعم أصلهما المبتدأ والخبر؛ لأنك لو حذفت الفعل وقلت: أنتم كفار، استقام الكلام، فعلى هذا يكون أصلهما المبتدأ والخبر. وقوله:
﴿مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ﴾،
﴿لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ﴾؛ لأن الارتداد ما يكون إلا بعد إيمان، أما الكافر فهو كافر، لكن بعد أن صح إيمانكم وخلص وتبين هم يودون أن يغيّروكم ويحولوكم إلى الكفر كفارًا، وقوله:
﴿حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾،
﴿حَسَدًا﴾ مفعول لأجله عامله قوله:
﴿وَدَّ﴾،
﴿وَدَّ كَثِيرٌ﴾ أي: ودوا حسدًا، أي: من أجل الحسد؛ لأن ما أنتم عليه نعمة عظيمة، وهؤلاء الكفار أعداء، والعدو يحسد عدوه على ما أصابه من نعمة الله، وقوله:
﴿حَسَدًا﴾، ما معنى الحسد؟ الحسد هو تمني زوال نعمة الغير، سواء تمنى أن تكون له أو لغيره أو لا لأحد، المهم الإنسان اللي يتمنى أن تزول نعمة غيره، يعني نعمة الله على غيره، هذا هو الحاسد، والواجب على المرء إذا رأى أن الله أنعم على غيره نعمة أن يسأل الله من فضله الذي أعطاه يعطيه، قال الله تعالى:
﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء ٣٢]، خل نعمة الله على أخيك له، ولكن الذي أعطاه قادر على أن يعطيك وأكثر، ولا تحسد؛ لأنك مهما حسدت فلن ترد نعمة الله على غيرك، مهما حسدت ما يمكن تردها، الحاسد في الحقيقة ما يزداد بحسده إلا نارًا تتلظى في جوفه، وكلما ازدادت نعمة الله على عباده ازداد حسرة، فهو في الحقيقة مع أنه كاره لنعمة الله على هذا الغير هو مضاد لله في حكمه وقدره؛ لأنه يكره أن ينعم الله على هذا الشخص والله تعالى قد أنعم وقدر عليه النعمة، فيكون مضادًّا لله في حكمه، ثم إن الحاسد الحسود أو الحاسد مهما أعطاه الله من نعمة ما يرى لله فضلًا فيها؛ لأنه يرى أن غيره أفضل منه، يعني حتى لو فرضنا إنه تميز بأموال كثيرة، وجاء إنسان تاجر وربح، كسب مكسب في سلعة معينة، مكسبًا كبير في سلعة معينة، تجد هذا الحاسد يحسده على هذا المكسب، بينما إن عنده هو ملايين عظيمة، وكذلك أيضًا بالنسبة للعلم، بعض الحاسدين مثلًا إذا برز أحد في مسألة من مسائل العلم تجد لو أن هذا الرجل أعلم منه وأنفع للناس منه مثلًا تجده يحسده على هذه المسألة التي برز بها أو صارت حديث الناس من أجل أنه كتب فيها مثلًا أو ما أشبه ذلك أو قالها، هذا أيضًا معناه أنه ما رأى نعمة الله عليه بهذا الذي أعطاه، فالحسد يا إخواننا أمره عظيم، وعاقبته وخيمة، والناس في خير والحسود في شر، الناس مطمئنون مستريحون، لكن هذا الحسود - والعياذ بالله - يتتبع النعم، نعم الله على العباد، وكلما رأى نعمة صارت جمرة في قلبه، فلهذا يجب أن الإنسان يقول: هذا من فضل الله على هذا الرجل، أسأل الله أن يعطيني مثل ما أعطاه، فيسأل الله من فضله، والله أرشدنا إلى هذا،
﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء ٣٢]، ولو لم يكن من خُلُق الحسد إلا أنه من صفات اليهود لكان كافيًا في التنفير منه، هم الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فالحاصل إن هؤلاء اليهود والنصارى يودون أن يردوا المؤمنين بعد إيمانهم كفارًا، واعلم أن من أحب شيئًا سعى في تحصيله، سعى في تحصيله، ولّا لا؟ إذن هؤلاء اليهود والنصارى يسعون بكل ما يستطيعون من قوة مادية أو أخلاقية أو غيرهما، وأيش يبغوا؟ ليردوا المسلمين بعد الإيمان كفارًا، شوف، ولم يقل الله: يردوكم يهودًا أو نصارى،
﴿كُفَّارًا﴾؛ لأنهم النصارى الآن واليهود يعرفون أن المسلم بعيد أن يتهود أو يتنصر، لكن يقولون زعماؤهم يقول: فيكم أن تردوا المسلم عن الإيمان، بس أخرجوه من الإيمان بس، ويروح (...)، أخرجوه من الإيمان فقط أو شككوه في الدين لأجل أن يكون مرحلة ثم بعد ذلك ينكرون - والعياذ بالله - فعلينا أن نحذر؛ لأن الله يقول:
﴿وَدَّ﴾، والود خالص المحبة، والمحب للشيء لا بد أن يسعى إلى أيش؟ إلى تحصيله.
وقوله تعالى:
﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾، يعني هذا الحسد الذي أو هذه المودة التي يودونها ليست لله ولا من الله، ولكن من عند أنفسهم، وهو إشارة إلى أن هذا خُبث في أنفسهم، خبث، أنفسهم خبيثة ما تريد الحق، ولا تريد الخير لهذه الأمة، بل إنهم يريدون أن ترتد الأمة حسدًا من عند أنفسهم.
وقوله:
﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾،
﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ﴾، أي: ظهر،
﴿لَهُمُ﴾، لمن؟ لهؤلاء الكثيرين، هم بعد ما تبين لهم الحق وعرفوا أنكم على حق أحبوا أن ترتدوا كفارًا، لو كانوا جاهلين أنكم على حق قالوا: ما ودنا أن يكونوا على دين مشكوك فيه، لكان لهم بعض العذر، لكن هم قد تبين لهم الحق، وعلموا أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق، وأن دينه حق، وأن المؤمنين على حق، ومع ذلك يودون هذه المودة ويسعون في كل سبيل إلى أن يصلوا إلى غايتهم
﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾، والحق ذكرنا فيما سبق أنه الشيء الثابت، وأنه إن وُصف به الحكم فالمراد به العدل، وإن وُصف به الخبر فالمراد به الصدق، فالحق الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام، ودين الإسلام على هذا، وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام على هذا، فإن أخباره صدق وأحكامه عدل.
قال الله تعالى:
﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾،
﴿فَاعْفُوا﴾ الخطاب للمؤمنين عامة، ويدخل فيهم الرسول ﷺ، والعفو بمعنى ترْك المؤاخذة على الذنب، ترك المؤاخذة عليه، كأنه من عفا الأثر إذا زال؛ لتقادمه.
وقوله:
﴿وَاصْفَحُوا﴾ قيل إنه من باب عطف المترادفين، كقول الشاعر:
....................... ∗∗∗ وَأَلْفَى قَوْلَها كَذِبًا وَمَيْنَا
الْمَين والكذب معناهما واحد، فقال بعضهم: إن
﴿اعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾ معناهما واحد، ولكن الصواب أن بينهما فرقًا، فالعفو ترك المؤاخذة على الذنب، والصفح الإعراض عنه، مأخوذ من صفحة العنق، وهو أن الإنسان يلتفت ولا كأن شيئًا صار، يوليه صفحة عنقه، فالصفح معناه الإعراض عن هذا بالكلية، وكأنه لم يكن، فعلى هذا يكون بينهما فرقًا، العفو لا تؤاخذه بذنبه، ولكن لا حرج إن بقي في نفسك شيء أو تذكُّر له، والصفح معناه تعرض عن هذا إطلاقًا ولا كأن شيئًا جرى، وعلى هذا فالصفح أكمل ولّا لا؟ الصفح أكمل، أكمل إذا اقترن بالعفو وهو أكمل، وإن تعفوا
﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾، إلى متى؟
﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾، وهذه إشارة بشرى للمؤمنين، إن المسألة لها منتهى، أنتم الآن اعفوا واصفحوا،
﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ (يأتي) منصوبة بأيش؟ بـ(أن) مضمرة بعد (حتى) أو بـ(حتى) نفسها على خلاف بين الكوفيين والبصريين.
وقوله:
﴿يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾، اعلم أن الإتيان المضاف إلى الله سبحانه وتعالى نوعان: أحدهما مطلق، والثاني مقيد، فأما المطلق مثل قوله تعالى:
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ [الأنعام ١٥٨]، فإذا كان مطلقًا هكذا فإن المراد به إتيان الله حقيقة، إتيانه تعالى بنفسه حقيقة، فإن الله تعالى يأتي على الوجه الذي يليق بجلاله، قال الله تعالى:
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر ٢٢]، فهذا الإتيان عند أهل السنة والجماعة وهم السلف خاصة، وليس أهل السنة والجماعة على مذهبين كما قاله بعض الواهمين إن أهل السنة والجماعة لهم مذهبان؛ مذهب التفويض - كما يقول- ومذهب التأويل، هذا كذب، وليس التأويل بشيء بالنسبة للسنة والجماعة، فإن التأويل تحريف في الحقيقة، تحريف للكلم عن مواضعه، أهل التأويل والأصح أن نقول: أهل التحريف، كما سماهم شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية يقولون:
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر ٢٢] مثلًا، جاء أمر ربك؛ لأن الله ما يمكن يأتي، هو نفسه لا يمكن أن يأتي، وإنما الذي يجيء أمره، وهذا لا شك أنه كذب على الله، فإن الله تعالى خاطبنا بلسان عربي مبين، واللسان العربي يقتضي أنه إذا قيل: جاء فلان، فالمعنى جاء هو بنفسه، هذا مقتضى اللسان العربي، فإذا قالوا: جاء أمر ربك، قلنا: كذبتم على الله، كذبتم من وجهين في الواقع: من جهة أنكم قلتم: ما أراد كذا، وهذا قول على الله بلا علم، من الذي قال لكم إنه ما أراد هذا؟ بأي كتاب أو بأية سنة؟ وكذبتم كذبًا آخر حين قلتم: المراد جاء أمره، إذا صرفتموها عن ظاهرها وأنه ما جاء هو من الذي يقول: جاء أمره؟ قد يكون جاء ملك من ملائكته، نعم، ما هو أمره، فحينئذ يكونون كل مؤول محرِّف فقد قال على الله بلا علم من وجهين: (...) الله بأمره، فالمراد يأتي ذلك الأمر، المراد يأتي ذلك الأمر، والدليل على هذا أن إتيان أمر الله هنا الذي جعله الله غاية هو الأمر بالقتال، ويصح أن أقول: جاء الله بأمره، حيث أمر بالقتال، طيب إذا جاءت المسألة مطلقة من وجه، مقيدة من وجه، مثل:
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة ٢١٠]،
﴿فِي ظُلَلٍ﴾ فهنا نقول: هي كالمطلقة؛ لأن (في) هنا بمعنى (مع)، يعني يأتيهم الله مع ظلل من الغمام، ويمكن أن نجعلها على ظاهرها، لكنها إذا جعلناها على ظاهرها صار فيها معنى لا يصح، وهو إحاطة الغمام بالله، والله سبحانه وتعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته، فالمهم أن هذا الإتيان يأتيهم الله في ظلل، مثل:
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر ٢٢] المراد: يأتي الله بنفسه في ظلل من الغمام، يعني أن الظلل تتقدم مجيء الله، ثم يجيء الله سبحانه وتعالى على الوجه الذي أراد.
قوله:
﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾، ما المراد بالأمر هنا؟ المراد به الأمر بالقتال، مثل قوله تعالى:
﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ [التوبة ٢٩]، قاتلوهم
﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾، هذا من أمر الله سبحانه وتعالى الذي أتى به، فالرسول عليه الصلاة والسلام امتثل وعفا وصفح، ويحتمل أن يكون المراد بالأمر هنا الأمر الكوني، الأمر الكوني، يعني حتى يأتي الله بالسبب الذي من أجله تقاتلونهم، وذلك في مثل نقض العهد من بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة، فإن الرسول ﷺ أول ما قدم المدينة ماذا صنع مع هؤلاء اليهود؟ عاهدهم، ثم نقضوا العهد قبيلةً قبيلة، حتى حصل ولله الحمد النصر عليهم، فقد يكون المراد بالأمر هنا ليس الأمر الشرعي، بل الأمر الكوني القدري الذي به تستحلون قتالهم، طيب، وقوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يعني: أن من تمام قدرته سبحانه وتعالى أنه سينصركم عليهم حتى مع العفو والصفح، فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يغير الأمور، وتكون الدولة لكم، وقد كان الأمر كذلك ولله الحمد، فإن الدولة كانت للمسلمين على كل أعدائهم، على اليهود، وعلى من؟ وعلى النصارى، وعلى المشركين، وعلى المجوس، كل ولله الحمد المخالفين للإسلام كانت الدولة للإسلام، لكن بعد أن تقهقرت الأمة الإسلامية وتغيرت أحوالها وانتكست حصل البلاء، ودالت الدولة للأعداء، وإذا كان الرسول ﷺ في غزوة أحد حصل مخالفة واحدة، مخالفة واحدة بعد أن رأوا النصر، بعد أن رأوا ما يحبون، والنتيجة ما هي؟ الهزيمة،
﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ﴾ [آل عمران ١٥٢] متى؟
﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران ١٥٢]، يعني حصل خلاف ما تحبون، وهي معصية واحدة، وبعد وجود النصر أو بشائر النصر حصلت الهزيمة، كيف هذا في أمة يمكن معاصيها كثيرة جدًّا، والآن نحاول أن ننتصر وبدون أسباب النصر، لا يمكن الانتصار، ما يمكن إلا إذا رجعنا إلى الدين حقيقة، وفي الحقيقة أننا نحمد الله سبحانه وتعالى أنه يوجد الآن في الشباب يقظة، أقول: يقظة، خير من أن أقول: صحوة؛ لأن الصحوة من السَّكَر، واليقظة من النوم، اليقظة من النوم، وإن كان من الهوى والمعاصي نوع من السَّكَر، فالمهم أنه يوجد الآن في الشباب يقظة وانتعاش، لكن تحتاج إلى مثابرة ومصابرة، النبي عليه الصلاة والسلام بقي في مكة كم من سنة؟ ثلاثة عشر سنة وهو يؤيد بالآيات وبالأصحاب المخلصين، وآخر الأمر أنه خرج من مكة، خرج من مكة خائفًا عليه الصلاة والسلام، حتى أعزه الله، كونك أيها الشاب تبغي الانتصار على هذه الأمة وهذا الضلال العارم وهذه الفتن الحالكة تبغي تنتصر عليهم بين عشية وضحاها؟ هذا شيء مستحيل، الدرب طويل؛ لأنك أنت تبني مثلًا لبنة لكن فيه معاول تهدم قصرًا كاملًا، ولا بد من التأني والصبر والمصابرة وعدم الملل، وأنت ما دمت في طريق صحيح فإن أجرك على الله، سواء أدركته ولّا ما أدركته،
﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء ١٠٠]، فأنا أريد منكم الحزم والصبر والمصابرة، وأن لا تظنوا إن الأمر سهل وأننا بين عشية وضحاها سنقلب هذه الشعوب المنجرفة المنحرفة هذا الشيء، غير ممكن، لكن بالصبر والمصابرة، ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم، وكذلك أيضًا نعامل الناس باللين والرفق، وكلٌّ بحسبه،
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾ [النحل ١٢٥]، هذا أحسن، وأنا أقول لكم مثلًا: إننا رأينا تأثير جماعة التبليغ، جماعة التبليغ وإن كان عندهم انحراف في بعض الأمور لكننا رأينا لهم تأثيرًا كبيرًا في المسلمين وفي غير المسلمين؛ لأنهم كانوا يدعون الناس باللطف واللين، باللطف واللين الكامل، ورأينا مثلًا من بعض الناس أو من كثير من الناس نفورًا ممن يريدون من الناس أن يأخذوهم بالعسف والقوة، من الآن يلّا تركبوا السُّنة من الآن، انتظر، أولًا عالج الجرح حتى يندمل، ثم اسع في إزالة أثره، التجميل بعد إزالة العيب، فعلى كل حال شوف تأديب الله للرسول ﷺ وأصحابه،
﴿اعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾، إحنا قلنا الأمر هنا، الأمر أيش؟ يجوز أن يكون الشرعي أو القدري، بالنسبة لنا الأمر الشرعي انتهى، نعفو ونصفح حتى يأتي الله بأمره، الأمر القدري، الأمر القدري ولّا الأمر الشرعي؟ معروف الآن منتهي.
وقوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قلت لكم: إن فائدتها أن لا ييأس المسلمون من تغير الأحوال؛ فإن الله تعالى على كل شيء قدير وتتغير الأحوال وأنت لا (...).
ثم قال تعالى:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة ١١٠] هذا أيضًا من أسباب النصر والعون، كما قال تعالى:
﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة ٤٥]،
﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ يعني: قولوا: قد قامت الصلاة.
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لا؟ وأيش معناها؟
* الطلبة: أدوا الصلاة.
* الشيخ: أدوا الصلاة على وجه الكمال؛ لأن إقامة الشيء جعله قيمًا معتدلًا مستقيمًا، فمعنى ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ يعني ائتوا بها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها ومكملاتها، وقوله: ﴿الصَّلَاةَ﴾ عام يشمل الفريضة والنافلة، ومن إقامة الفرائض كثرة النوافل؛ لأنه جاء في الحديث أن النوافل تكمل بها الفرائض يوم القيامة، ما من إنسان إلا وفي فريضته نقص، لكن هذه النوافل تكملها وترقّعها. وقوله:
﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أي: أعطوها،
﴿آتُوا﴾ بمعنى أعطوا، وهنا حُذف المفعول الثاني؛ لأن الزكاة مفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، يعني مستحقيها، آتوا الزكاة لمستحقيها، ومستحقوها قد بيّنهم الله في سورة (براءة):
﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾ إلى آخره
[التوبة: ٦٠].
وقوله:
﴿آتوا الزكاة﴾ يعني الزكاة في اللغة النماء والزيادة، ومنه قولهم: زكا الزرع إذا نما وزاد، في الشرع عبارة عن دفع مال مخصوص لطائفة مخصوصة تعبّدًا لله عز وجل، هذه الزكاة، وسميت زكاة؛ لأنها تزكي الإنسان، تزكيه، قال الله تعالى:
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة ١٠٣]، فهي تزكي الإنسان في أخلاقه وعقيدته؛ لأنها تخرجه من حظيرة البخلاء إلى حظيرة الأجواد والكرماء، فهي تزكية للإنسان وتطهير له من الرذائل، وقوله:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ بعد أن أمر بالصبر والعفو والصفح يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يتشاغل بمهمات دينه عن غيره مع الدعوة إلى الله، لكنه لكل مقام مقال، إنما كون الإنسان يعرض عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وراء قوم قد لا ينتفعون بالدعوة، فهذا ما ينبغي، ولهذا جاء في الحديث:
«إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوىً مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وِإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَوَامِّ»(١).
* طالب: (...).
* الشيخ: نعم؟ لا بأس به، فهذا ينبغي أن الإنسان ما يتشاغل عما يعود لنفسه بالخير من أجل نفع غيره، ويرتب المصالح والعبادات؛ لأنها مرتبة. وقوله:
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، (ما) هذه شرطية وليست موصولة، والدليل على ذلك أنها جزمت الفعل والجواب، الشرط والجواب،
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا﴾ أصلها (تقدمونه)، و
﴿تَجِدُوهُ﴾ أصلها (تجدونه)، وقوله:
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ قدِّموا لأنفسكم (...)؛ لأن التقديم للنفس يكون بحسب اتباع الشرع.
إذن نأخذ الفوائد الآن، قال الله تعالى:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ إلى آخره.
من فوائد هذه الآية: بيان شدة عداوة اليهود والنصارى للأمة الإسلامية.
ثانيًا: أن من اليهود والنصارى من ليس شديد العداوة لهم؛ لقوله:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ﴾، مفهومه أن بعضهم لا يود هذا.
ومن فوائد الآية أيضًا: أن الكفر بعد الإسلام يسمى ردة؛ لقوله:
﴿لَوْ يَرُدُّونَكُمْ﴾، ولهذا المرتد اللي يكفر بعد الإسلام ما يسمى كافر فقط، يسمى مرتد؛ لأنه رجع عن دين خير مما رجع إليه.
* طالب: (....).
* الشيخ: أيهم؟
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: إي نعم، لا نقول بعضهم، وها البعض هذا قد يكون مؤمن وقد لا يؤمن. ومن فوائد الآية أيضًا: أن الحسد من صفات اليهود والنصارى.
ومن فوائدها أيضًا: علم اليهود والنصارى بأن الإسلام منقبة عظيمة لمتبعه، من أين يؤخذ؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: من الحسد.
* الشيخ: من الحسد؛ لأن الإنسان ما يحسد إلا على شيء يكون خيرًا ومنقبة. ومن فوائدها أيضًا: وجوب الحذر من اليهود والنصارى ما داموا كثير منهم يودون لنا هذا فإنه يجب علينا أن نحذر منهم.
ومن فوائد الآية أيضًا: بيان خبث طوية هؤلاء الذين يودون لنا الكفر، بيان خبث طويتهم؛ لأنه قال:
﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ ليس من كتاب، وليس من إساءة من المسلمين إليهم، ولكنه من عند أنفسهم، أنفس خبيثة تود الكفر للمسلمين حسدًا.
ومن فوائد الآية أيضًا: أن هؤلاء الذين يودون الكفر للمسلمين قد تبيّن لهم الحق، فيستفاد منه فائدة متفرعة وهو: شهادة غير المسلمين للمسلمين على أنهم على حق؛ لأنه قد تبين لهم.
* ومن فوائد الآية: مراعاة الأحوال وتطور الشريعة، حيث قال: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ يعني: وإن كانوا يودون هذا الأمر، ومَن ود شيئا سعى فيه، فإننا نعفو ونصفح حتى يأتي الله بالأمر.
* طالب: الأمر الشرعي؟
* الشيخ: سواء الشرعي ولّا غير الشرعي، حتى الأمر بالعفو والصفح حتى يأتي الله بأمره داخل فيما ذكرت، وهي مراعاة الأحوال وتطور الشريعة. ومنها أيضًا، من فوائد الآية الكريمة: إثبات حكمة الله عز وجل؛ لأن الأمر بالعفو والصفح حتى يأتي أمر الله هذا من الحكمة؛ إذ إن القتال قبل وجود أسبابه وتوفر أسبابه من القوة المادية والبشرية هذا ينافي الحكمة.
ومنها، من فوائد الآية: ثبوت صفة القدرة لله؛ لقوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وأنها عامة شاملة.
ومنها: الرد على المعتزلة القدرية؛ لأنهم يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، وإذا كان مستقلًّا بعمله لزم من ذلك أن الله ما يقدر على تغييره؛ لأنه إن قدر على تغييره صار الإنسان مستقلًّا ولّا غير مستقل؟ صار غير مستقل.
* طالب: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (...).
* الشيخ: المشيئة القدرية.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لأن الله على كل شيء قدير.
* طالب: رد على الأشاعرة؟
* الشيخ: (...) الأشاعرة، القدرية إي نعم، في أنهم يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، وإنه ما يقدر إن الله سبحانه وتعالى يصرفه عنه، فهو مستقل، ما لله علاقة به إطلاقًا، في حين يقول: إذا كان الله قادرًا على كل شيء فمن الشيء صرف الإنسان عما يريد إلى ما يقدر الله عليه. ثم قال تعالى:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾،
﴿مَا﴾ شرطية، و
﴿تُقَدِّمُوا﴾ فعل الشرط، و
﴿تَجِدُوهُ﴾ جواب الشرط، وقوله:
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾، يعني: أن الإنسان إذا قدم خيرًا فإنما يقدمه لنفسه، ولهذا ليس له من ماله إلا ما أنفق، فما أخّره فهو لوارثه، فلما قال:
﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، قال:
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ﴾، فأنت إذا قدمت شيئًا من مالك من زكاة أو صدقة مستحبة أو نفقة واجبة فإنك قدمته لنفسك، وما أخّرته أخرته لمن؟ للوارث، لوارثك، وفي قوله:
﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾ ترغيب وإغراء للتقديم؛ لأنك تقدم لنفسك وما بقي فلوارثك، وقوله:
﴿مِنْ خَيْرٍ﴾، هذه نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، أيّ خير قدمت لإنسان كثيرًا كان أو قليلًا فإنك ستجده، قال رسول الله ﷺ:
«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»(٢)، شق تمرة يعني نصفها، يمكن نصف تمرة تقي الإنسان من النار، وهذا خير عظيم، وقوله سبحانه وتعالى:
﴿تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، مأخوذ من الوجود، يعني أنكم تلقونه عند الله تعالى، متى؟ يوم القيامة، يوم القيامة مدَّخرًا لكم، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، كما قال تعالى:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة ٢٦١]، (...) فيه أيضًا وراء ذلك.
قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾،
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ هذه جملة مؤكدة بـ(إنّ)، مع أن الخطاب ابتدائي؛ إذ إنه لم يوجَّه إلى متردد ولا منكر، والخطاب إذا لم يوجَّه لمنكر ولا متردد فإنه يسمى ابتدائيًّا، والابتدائي ليس يؤكد، ما حاجة تؤكده، لكن ذكرنا عدة مرات أن الخطاب الابتدائي قد يؤكَّد لا باعتبار حال المخاطب، ولكن باعتبار أهمية مدلوله، فهنا له أهمية عظيمة أن الله يخبرنا سبحانه وتعالى أنه بكل ما نعمل بصير، وقوله:
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، (ما) اسم موصول يفيد العموم، بما نعمل قلبيًّا وبدنيًّا، قوليًّا وفعليًّا؛ لأن القلوب لها أعمال، مثل المحبة والخوف والرجاء والرغبة، وما أشبه ذلك، كل ما نعمل قلبيًّا وبدنيًّا، فعليًّا وقوليًّا، فإن الله تعالى بصير به، وقوله:
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، متعلقة بأيش؟ بـ
﴿بَصِيرٌ﴾، فلماذا قُدِّمت عليها؟ لغرضين؛ الغرض الأول: قد يكون مراعاة الفواصل؛ لأن ما قبلها فاصلة بالراء،
﴿قَدِيرٌ﴾، وبعدها
﴿بَصِيرٌ﴾، وقد يكون أن التقديم من أجل الحصر، والحصر هنا وإن كان يقلل من العموم، لكنه يفيد الترهيب، الترهيب والترغيب أيضًا كلها، أرجو الانتباه؛ لأنه إذا قيل: أيما أولى؛ أن نقول: إن الله بصير بكل شيء مما نعمل ومما لا نعلم، أو أنه بصير بما نعمل فقط؟ أيهم أعظم؟ الأول أعظم، فلماذا قُدِّم المعمول، ونحن نقول: إن المعمول تقديمه يفيد الحصر؟ قلنا: فائدة الحصر هنا عظيمة، وهي تحذير الإنسان أو ترغيبه كأنه يقول: لو لم يكن الله بصيرًا إلا بأعمالكم فإنه يكون بصيرًا، مثل ما يقول الإنسان الذي يهدد ابنه: اذهب فأنا أعلم ما تقول، والأب عنده علم بما يقول وبما لا يقول، لكنه يقوله له على سبيل التهديد، وقد يكون على سبيل الترغيب، فهنا نقول: فائدة الحصر مع أنه يقلل من العموم، هو أيش؟ الترغيب أو الترهيب، حتى نرغب، كأن الله تعالى لو لم يكن بصيرًا لكان بصيرًا بأعمالنا ولا بد.
وقوله:
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، هل هو من البصر اللي هو رؤية العين، أو من الإبصار اللي هو العلم؟ الثاني؛ لأننا ذكرنا أن قوله:
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يشمل العمل القلبي والبدني، والعمل القلبي لا تتعلق به الرؤية، فيكون المراد بالبصير هنا أيش؟ البصير يعني: العليم، و
﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾،
﴿قَالُوا﴾ من؟ اليهود والنصارى،
﴿قَالُوا﴾ أي اليهود والنصارى،
﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا﴾، وهذا قول اليهود،
﴿أَوْ نَصَارَى﴾، وهذا قول النصارى، فاليهود قالوا: ما أحد يدخل الجنة إلا نحن، والنصارى قالوا: ما أحد يدخل الجنة إلا نحن، ما يدخل الجنة إلا يهودي، يقوله اليهود، ما يدخل الجنة إلا نصراني، يقوله النصارى، وهود جمع هائد كعوذ جمع عائذ، العوذ المطافيل، فهود أي: هائد، وهائد بمعنى راجع؛ لقوله:
﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف ١٥٦]، أي: رجعنا، وقيل: إن الهود جمع يهود، أي: يهوذا، اسم جدهم الأول اللي ينتمون إليه، اسمه يهوذا بالذال، ولكنه لما عُرِّب صار يهود، والله أعلم، على كل حال هم هؤلاء القبيلة من بني إسرائيل الذين يزعمون أنهم متبعون لمن؟ لموسى، أما النصارى فقيل: إنه مأخوذ من النُّصرة، وقيل: إنه مأخوذ من نسبة إلى بلدة تسمى الناصرة، وأيًّا كان فالمراد بهم من ينتسبون إلى عيسى.
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا﴾، وعلى هذا على رأي اليهود يكون النصارى ما يدخلون الجنة، والمسلمون ما يدخلون الجنة، وقد سبق أنهم قالوا:
﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة ٨٠]، ثم تخلفوننا فيها، النصارى أيضًا على رأيهم ما يدخل اليهود الجنة، وهذا صحيح؟ صحيح بعد ما أن بُعِث عيسى من كفر به فإنه لا يدخل الجنة، ولن يدخل المسلمون الجنة، هذا غير صحيح، بل نقول: إنكم أنتم أيها النصارى، وكذلك اليهود، بعد بعثة الرسول ﷺ لما كفرتم به كنتم من أهل النار، كما قال رسول ﷺ:
«والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِمَا جِئْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»(٣). فالحاصل أن هذا القول كذب، من الطرفين؟ من الطرفين، ولهذا قال الله عز وجل:
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾،
﴿تِلْكَ﴾ أي تلك المقالة،
﴿أَمَانِيُّهُمْ﴾، (أماني) جمع أمنية، وهي ما يتمناه الإنسان بدون سبب يصل به إليه، هذه الأمنية إنك تتمنى شيء لكن بدون أن تأتي بالسبب الذي يوصل إليه، واحد قال: أنا أتمنى أن الله يجيب لي ولد، قلنا له: تزوج. قال: لا ما أنا متزوج، وأيش يكون هذا التمني؟ أمنية ولَّا لا؟ نعم (...)، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام:
«الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ»(٤)، فهؤلاء يتمنون، يقول: نحن مؤمنون، فالجنة لنا، نقول: هذا أمنية كاذبة، اعملوا للجنة تكونوا من أهل الجنة، أما مجرد أماني كاذبة فهذه (...) شيئًا، ولهذا قال:
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾، ثم قضى بالعدل،
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، شوف العدل، يعني: نحن ما نرد كلامكم إلا إذا لم تقيموا عليه الدليل، فإن أقمتم عليه الدليل فهو على العين والرأس،
﴿هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾،
﴿قُلْ﴾ يعني: يا محمد،
﴿هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، و
﴿هَاتُوا﴾ اسم فعل، ولَّا فعل أمر؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: إي، لكن القاعدة أنه يكون فعل أمر؛ لأنه ما دل على الطلب ولحقته العلامة فهو فعل أمر، فهنا يقال: هاتوا، ويقال: هاتي للمرأة، ويقال: هاتيا للاثنين، فإذن هو فعل أمر.
* طالب: العلامة؟
* الشيخ: العلامة أنه إذا قبل اتصال الفاعل به فهو فعل أمر.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: نقول هذا مبني على الكسر.
* الطالب: (...).
* الشيخ: قلنا فعل الأمر إي نعم، هو مبني على كل حال مهما جاء، وعلى ما سُمي. وقوله:
﴿هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾، البرهان هو الدليل، من بَرْهَنَ على الشيء، إذا بيَّنه، أو من بَرِهَ الشيءُ، إذا وضح بالعلامة، فعلى الأول يكون النون أصلية، وعلى الثاني تكون النون زائدة، وعلى القولين جميعًا، فالبرهان هو الدليل الذي يتبين به حجة الخصم، هات دليل تتبين به قولك ونحن نقبله، ثم قال:
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، قال، شوف إذا قيل:
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، معناه أن هذا أمر لا يمكن وقوعه،
﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، ما هو بواقع، تحدي، فإذا كانوا صادقين بأنه ما يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى فليأتوا بالبرهان، وسيأتون به؟ لا، إذن يكونون كاذبين، إن كانوا صادقين فليأتوا بالبرهان، ما جاءوا فيكونون كاذبين، كلمة
﴿هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ فعل أمر يراد به التحدي والتعجيز، إن هذا أمر لا يمكن أن يكون، واعلموا أن من دعايات المنصِّرين الآن، من دعايات المنصرين النصارى أنهم يأتون للشباب في أمريكا وغيرها، يقولون: يا جماعة أنتم ناس مسلمين، أناس تحبون العدل، تحبون العدل تفضلوا اقرؤوا الأناجيل، اقرؤوا الإنجيل شوفوا هو فيه شيء؟ كله دعوة للخير، وكله دعوة للتسامح، وكله دعوة لبذل المعروف، إلى آخره، فالإنسان يغترّ بهم؛ لأنهم إذا قالوا ها الكلام نتبع العدل شوفوا هل نحن مخطئين ولَّا لا؟ الغِرّ ينخدع بذلك، والله صحيح ربما إنهم صادقين، وينسى أن الله تعالى كذَّبهم، ينسى كل اللي في القرآن والسنة؛ لأن دُولَه خدعوه، وهم أيضًا ما عندهم برهان على ما قالوا؛ لأن الأناجيل المعروفة الآن كم هي؟ أربعة، الأناجيل أربعة، هذا المعروف، كل إنجيل منها لا يوافق الآخر في أعظم شيء من شئون النصارى وهو قصة صلب المسيح وقتله، هذا ما هم متفقين عليه إطلاقًا، يقولون الخبراء، أنا ما درست هذه الأناجيل، لكن الذين قرؤوها يقولون: كلها غير متفقة على هذه القصة، مع أنها من أعظم ما يكون عند النصارى، كذلك أيضًا يقولون: إنه من جملة ما فيها إن عيسى عليه الصلاة والسلام لما قُتِل ودُفِن وبقي ثلاثة أيام خرج، خرج من قبره، ويسمون هذا القيامة، هذا كل الأناجيل استندت فيه على قول امرأة مجهولة، العقيدة يمكن تثبت بقول امرأة مجهولة؟ غير ممكن، كذلك يقولون: إن عيسى عليه الصلاة والسلام، هذه المرأة إنها كانت زانية، وأنهم أتوا بها إليه وطلبوا منه أن يرجمها بناء على شريعة التوراة، وقال لهم: أنا أرجمها، لكن ليبدأ بالرجم من لم يعمل خطيئة منكم، يبدأ بالرجم، فتفرقوا؛ لأن كل واحد منهم قد عمل خطيئة، وهو يريد أن يقول: هي عملت خطيئة، وأنتم، فيجب التسامح، ثم لما ما بقي إلا هو قال: أيضًا أنا ما أستطيع أن أرجمك؛ لأني ما أسلم من الخطأ، فعفا عنها وهي زانية، وهي التي شهدت بأنه حينما دُفن قام من قبره، فعلى كل حال، يعني الحقيقة بعض الناس يقول: أنا أرى، لكن أنا لا أوافقه في الرأي، بعض الدكاترة من المدرسين يقول: أنا أرى إن الأناجيل تُنْشَر بين الناس؛ لأجل يعرفون كذب النصارى وتناقض النصارى، ولكن نحن ما نرى هذا؛ لأن هذا فيه مفسدة؛ لأنه ما كل إنسان يبغي يقرأه يكون محيطًا في الأمر، يقرأ الجوانب السليمة الزينة التي جاء الإسلام بمثلها، بل أحسن منها، ثم يدع الأشياء التي تبيّن كذب هؤلاء، فالله تعالى يقول:
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾؛ لأنه لا برهان لهم، فهذه الآن الأناجيل اللي يقولوا هي برهاننا ودليلنا على أن ما نقوله حق، نقول: ليس بصحيح، لأن مَن تأملها وجد أنها ليست بصحيحة، لكن هم يأتون إلى هؤلاء الأغرار اللي ما عندهم علم، ولا عندهم عبادة، ثم يخدعونهم، على الأقل يكون عند الإنسان تردد، هل الإسلام هو الصحيح ولا النصرانية هي الصحيحة؟
* طالب: (...)؟
* الشيخ: إي نعم، بس دوله أغرار مساكين، ما يعرفون، ولا يعرف الإسلام إلا مَن لم يعش في الكفر، كما قال عمر:« إنما ينقض الإسلام عروة عروة من لم يكن على الكفر».
* طالب: (...)؟
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: التحريف وقع فيها لفظًا (...)؟
* الشيخ: لفظًا ومعنى، كلها، فيها تحريف لفظي ومعنوي. ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، قال الله تعالى: ﴿بَلَى﴾ (بلى) هذا إبطال للنفي في قولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ﴾، وهذا واضح، وإن كان بعض المفسرين يقول: (بلى) هنا بمعنى (بل)، بل من أسلم، ولكن نقول: لا، (بلى) هنا حرف جواب، و(بلى) حرف جواب تفيد إبطال النفي، يعني: لما قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ﴾، وأيش قال الله؟ بلى يدخل الجنة من ليس هودًا ولا نصارى، من هم؟ ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ﴾ (مَن) شرطية وهي مبتدأ، وجواب الشرط قوله: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ﴾، وقوله: ﴿مَنْ أَسْلَمَ﴾، ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ المراد: بالوجه القصد والنية والإرادة، أسلمها لله، يعني: جعل اتجاهه وإرادته وقصده إلى الله عز وجل، قالوا: وعبر بالوجه؛ لأنه هو الذي يدل على قصد الإنسان، أنت عندما تقصد الشيء تمشي على قفاك لهذا الشيء؟ ولّا على وجهك؟ على وجهك، إذن عبر بالوجه؛ لأنه به يُعرف القصد، ولهذا يقولون: أين كان وجه فلان؟ يعني: أين كان قصده واتجاهه؟ يقول: إلى الجهة الفلانية مثلًا. وقوله:
﴿وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾، هذا عمل القلب وهو الإخلاص،
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾، الجملة في موضع نصب على الحال من فاعل (أسلم)، يعني: أسلم وهو في حال الإحسان، والحال أنه محسن، والمراد بالإحسان اتباع الرسول ﷺ ظاهرًا وباطنًا، وقد جمعه رسول الله ﷺ في قوله:
«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»(٥)، الفرق بين الجملتين:
«تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»، وهذه عبادة الطلب،
«فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، وهذه عبادة الهرب والخوف؛ لأن الإنسان إما أن تكون عبادته حبًّا لله وشوقًا إليه، فيحمله على ذلك الحب والشوق، وإما أن يكون خائفًا منه، يخاف مراقبة الله سبحانه وتعالى واطلاعه عليه، والحال الأولى أكمل من الحال الثانية، فهذا هو الإحسان، فلا بد من الإحسان، ولا يكفي الإخلاص، ما يكفي الإخلاص، ولهذا فيها الآن أناس من هذه الأمة يقولون: نحن نحب الله، ونريد الله ونسعى للوصول إلى جنته، وهم منحرفون في عبادته، هل يدخلون في الآية هذه؟ ما يدخلون، تيجي للصوفية الآن، الصوفية غالبهم من أزهد الناس في الدنيا، يقولون: نحن ما نقصد إلا وجه الله، ولا نريد إلا وجه الله، وعندهم من البدع والخرافات ما لا يحصيه إلا الله، هل نقول: إن هؤلاء يدخلون في هذه الآية؟ لا، ما يدخلون، لماذا؟ لعدم الإحسان، والإحسان كما قلت لكم: هي المتابعة للرسول ﷺ، فعلى هذا تكون الآية دالة على الشرطين الأساسيين في العبادة، وهما؟ الإخلاص والمتابعة للرسول ﷺ، وهو محسن.
* طالب: بس ذكر الإخلاص.
* الشيخ: نعم، وأين الإخلاص؟
* الطالب: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ هذا إخلاص، وأحسن شمل الأمرين.
* الشيخ: اتباع الرسول، الإحسان اتباع الرسول.
* الطالب: بس قلنا: الإحسان هو الإخلاص والمتابعة.
* الشيخ: لا لا ما قلنا، قلنا أن الآية تتضمن هذا.
* الطالب: يعني كلها.
* الشيخ: كل الآية.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا، ما (...). وقوله:
﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾، الأجر ما يُعطاه الإنسان على عمله، كما لو استأجرت شخصًا يعمل لك بناء فأعطيته، والمراد به هنا الثواب، الثواب، المراد به الثواب، شبّهه الله تعالى بالأجر؛ لأنه حق للإنسان، من أوجبه على الله؟ الله هو الذي أوجبه على نفسه، قال الشاعر:
مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِب ∗∗∗ كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِـــــعُ ؎إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا ∗∗∗ فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِعُولكن ابن القيم في النونية قيد هذا البيت؛ لأنه مطلق، فقال: ؎مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَـــــــــــــــــــــقٌّوَاجِبٌ ∗∗∗ هُوَ أَوْجَبَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ الشَّانِهو أوجب؛ لأن القول الأول، البيت الأول: ؎مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ ∗∗∗ ........................... يفهم الإنسان إن الله لا يجب عليه إثابة الطائعين، أو لا؟ لكن ابن القيم رحمه الله بيّن، واجب أوجبه غيره عليه، فقال: ؎.................... ∗∗∗ هُوَ أَوْجَبَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ الشَّانِ ؎.................... ∗∗∗ كَلَّا وَلَا سَــــــعْيٌ لَـــــــدَيْهِضَائِــــــــــــعُ مطلق في البيت الأول لكن ابن القيم قيّده: ؎.................... ∗∗∗ إِنْ كَانَ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِحْسَانِ وإلا إذا كان السعي ليس بالإخلاص أو ليس بالإحسان فهو ضائع. ؎إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا ∗∗∗ فَبِفَضْلِهِ وَالْفَضْلُلِلْمَنَّــــــــــــــــــانِ يعني: وافق البيت...
﴿أَجْرُهُ﴾ الضمير في
﴿أَجْرُهُ﴾ يعود على من؟ على
﴿مَنْ أَسْلَمَ﴾؟ يعني: فلهذا الذي أسلم وهو محسن أجره، ألا يمكن أن تكون عائدة على العمل، فله أي أجره أي أجر إسلام وجهه وإحسانه؟ يجوز؛ لأن الأجر هو في الحقيقة في مقابلة العمل، فإضافته إلى العمل واضحة، وهو أيضًا للعامل فإضافته إلى العامل واضحة أيضًا.
وقوله:
﴿أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ أضافها إلى العندية لفائدتين:
إحداهما أنه عظيم؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم؛ ولهذا جاء في حديث أبي بكر الذي علمه الرسول ﷺ إياه قال:
«فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ»(٦)، وهذه العندية هامة؛ لأن ما عند العظيم عظيم.
الفائدة الثانية؛ لقوله:
﴿عِنْدَ رَبِّهِ﴾ أن هذا لن يضيع؛ لأنك لا يمكن أن تجد أحدًا أحفظ من الله، أليس كذلك؟ ما فيها إشكال، فإذن لن يضيع هذا العمل، لن يضيع؛ لأنه في أمان غاية الأمان، وهذا بلا شك مما يشجع الإنسان على العمل، يشجعه، أنت الآن لو تؤدي إلى إنسان أمانة، ترى هل أنت على ثقة منها تمام الثقة؟ ما هو على ثقة، ظاهر حال الرجل أنه أمين لكن ربما يأتي أشياء لا طاقة له بها فتضيع أو هو تتغير حاله فيخون.
أما الرب جل وعلا فإن هذا غير ممكن في حقه، الأجر عند الله، فصار الفائدة من هذه العندية أمران:
إحداهما أنه أجر عظيم؛ لأن ما جاء من عند العظيم فهو عظيم.
والثاني أنه محفوظ وأنه في غاية الحفظ؛ لأنه عند الله سبحانه وتعالى.
قال:
﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة 112] لا خوف عليهم في ما يستقبل من أمرهم، ولا هم يحزنون فيما مضى من أمرهم؛ لأنهم إذا حشروا يوم القيامة ووجدوا نتائج أعمالهم - اللهم اجعلنا ممن يجد خيرًا - إذا وجدوا هذا ما حزنوا على ما مضى، الحزن والحسرة لمن؟ لمن فرط وأضاع
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [مريم 39].
لكن المؤمن ما يحزن؛ لأنه استفاد من حياته، أما الكافر فإنه يحزن، ويريهم الله أعمالهم حسرات عليهم
﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر 15].
﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)﴾ [الفرقان 27، 28]. إلى آخره.
فالمهم أنهم لا يحزنون يوم القيامة؛ لأنهم (...) يجدون نتائج أعمالهم وثمراتها خير نتائج وخير ثمرة، فإذن هم آمنون، ولَّا لا؟ آمنون مما يستقبل مغتبطون بما مضى، فلا حزن لديهم ولا خوف
﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ عندما نقرأ هذه الآية ما ينبغي أن نقرأها على أنها مجرد خبر، بل على أن نقرأها؛ لأنها مربية، نقرأها قراءة تربية يعني بمعنى أننا نسلم وجوهنا إلى الله، ونحسن في أعمالنا، أفهمتم؟ وهكذا جميع ما في القرآن ما نقرأه على أن نفهم المعنى فقط، بل على أن نعمل كما كان الصحابة رضي الله عنهم إذا قرؤوا عشر آيات ما يتجاوزونها حتى يتعلموها، وما فيها من العلم والعمل قالوا:
« فتعلّمْنا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعًا »(٧).
ثم قال الله سبحانه وتعالى:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ [البقرة 113].
أعداء بعضهم لبعض من جهة، وأولياء بعضهم لبعض من جهة أخرى، بالنسبة لنا هم بعضهم لبعض ولي، وبالنسبة لما بينهم بعضهم لبعض عدو، لكن بالنسبة لنا يقولون: عدونا هذا مشترك، الإسلام عدو مشترك لليهودية والنصرانية، فيجب أن يتولى بعضنا بعضًا، يقول:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ كلمة
﴿شَيْءٍ﴾ موصوف بصفة محذوفة؛ لأنهم يقينًا على شيء النصارى ولَّا لا؟ هم على شيء على دين، لكن مرادهم على شيء نافع أو على شيء معتد به، يعني معناه إن لا بد من صفة محذوفة، قدِّرها إن شئت على شيء نافع، أو إن شئت فقدر على شيء معتد به، يعني: ما هم على شيء يعتد به وينفعهم، وقوله:
﴿لَيْسَتِ النَّصَارَى﴾ كيف أنث الفعل؟ لماذا أنث الفعل؟
* طالب: (...).
* الشيخ: من أجل الجمع، وابن مالك يقول:
وَالتَّاءُ مَعْ جَمْعٍ سِوَى الْسَّالِمِ مِنْ ∗∗∗ مُذَكَّرٍ كَالْتَّاءِ مَعْ إِحْدَى اللَّبِنْ
(...) وأن النصارى كذلك ادعوا دعوى باطلة، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، وأن الله تعالى أبطل هذه الدعوى بقوله:
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة 111].
وبين سبحانه وتعالى من أهل الجنة بأنهم الذين جمعوا بين أمرين: بين الإخلاص لله سبحانه وتعالى بإسلام وجوههم له، وبين المتابعة لشريعته وهو محسن، وهذا يشمل من أسلم من هذه الأمة وممن قبلها، ومن كل من أسلم لله وهو محسن من هذه الأمة وغيرها، فإنهم أصحاب الجنة، وتقدم أيضًا أنه ليس عليه خوف مما يستقبل ولا حزن مما مضى.
ثم قال الله تعالى مبينًا أن هؤلاء اليهود والنصارى كل منهم ينكر شريعة الآخر:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ يعني: على شيء من الدين، لا من الحياة، فهم أحياء يأكلون ويشربون ويتزوجون ويتمتعون في الدنيا، لكن ليسوا على شيء من الدين؛ لأنهم كما زعموا دينهم باطل فاليهود لم يؤمنوا بعيسى؛ ولهذا أنكروا أن يكون النصارى على شيء، النصارى قابلتهم بالمثل،
﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ﴾ [البقرة 113] يعني: ليست على شيء من الدين أما دعوى اليهود فإنها باطلة على كل تقدير؛ لأن النصارى بلا شك على دين، وأما دعوى النصارى فإنها ليست باطلة على كل تقدير، بل إن اليهود ليسوا على شيء بعد دين النصارى؛ إذ إنه يجب عليهم الإيمان بعيسى فإذا كذبوه لم يكونوا على شيء، كانوا كفارًا، فهنا أيما أقرب إلى الصواب دعوى اليهود أو النصارى؟ دعوى النصارى، فاليهود دعواهم أن النصارى ليسوا على شيء هذا كذب بكل تقدير، وأما النصارى فإن دعواهم أن اليهود على شيء صحيح، متى؟ بعد عيسى أما قبل عيسى فإن دعوى النصارى في ذلك كذب، فإن اليهود كانوا على الدين، وكانوا على شريعة صحيحة مستقيمة، طيب في الإعراب
﴿لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ﴾، و
﴿لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ﴾ اليهود بالأول مضمومة، والنصارى مفتوحة مع أن ليس عامل واحد، لأيش؟ اليهود بالأول مضمومة والنصارى مفتوحة، مع أن العامل وهو ليست واحد؟
* طالب: لأن النصارى ما تظهر عليها العلامات.
* الشيخ: يعني: ما هي مفتوحة؟
* الطالب: لا مضمومة بضمة مقدرة.
* الشيخ: على؟
* الطالب: على الألف.
* الشيخ: على الألف؟ صح؟ نعم، إي، ما تشتبه؟ اليهود ظهرت عليها الضمة؛ لأن آخرها حرف صحيح وهو الدال، والنصارى لم تظهر عليها الضمة؛ لأن آخرها حرف علة وهو الألف. قال الله تعالى:
﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ الجملة هذه حالية، وهم الضمير يعود على اليهود وعلى النصارى، يعني والحال أن هؤلاء المدعين كلهم
﴿يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ أي يقرؤونه، والمراد بالكتاب الجنس، فيشمل التوراة يتلوها اليهود، والإنجيل يتلوه النصارى، والجملة هنا حالية، والغرض منها تقبيح هذه الدعوى، كيف يدعون هذه الدعوى وهم يتلون الكتاب؟ النصارى تتلو التوراة وتعرف أن اليهود تدين بالتوراة فهم كانوا على شيء، والنصارى كذلك أيضًا يتلون التوراة ويتلون الإنجيل ويعرفون أن عيسى حق، لكنهم كفروا استكبارًا، ولا ريب أن الذي ينكر الحق مع تلاوة وثيقته أقبح من الذي ينكر الحق مع الجهل به، ولَّا لا؟ أقول: لاريب أن الذي ينكر الحق مع أن وثيقته بين يديه أعظم قبحًا من الذي ينكره جهلًا به، توافقون على هذا؟
* الطلبة: نوافق.
* الشيخ: نعم، نوافق؛ لأن اللي ينكره مع أن الوثيقة بين يديه معاند، معاند مكابر بخلاف الجاهل، فالجاهل قد ينكر الشيء للجهل به، لكن العالم لا عذر له، ولهذا قال: ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ وتعلمون أن الحال سواء كانت جملة أو مفردًا هي وصف في صاحبها، الحال اللي يسمونها النحويون الحال هي وصف في صاحبها، إذا قلت: جاء زيد راكبًا. فمعناه أن وصفه أيش؟ الركوب، وإذا قلت: جاء زيد وهو على جمله. فمعلوم أن وصفه أيضًا الركوب، والجملة حالية. طيب
﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ قلت: إن الكتاب جنس ولَّا معين؟ جنس، فيشمل التوراة والإنجيل وقوله:
﴿الْكِتَابَ﴾ فعال بمعنى مفعول؛ لأن الكتب المنزلة من السماء تكتب وتقرأ، ولا سيما أن التوراة كتبها الله بيده، كما جاء ذلك في الآثار، وهي لا شك أنها ألواح أعطيها موسى، فإن موسى جاء بها من عند الله كما في قصة
﴿وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ﴾ [الأعراف 150]
﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف 145]
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، كيف يكون؟ لأن قولهم: ﴿عَلَى شَيْء﴾ ما ندري، قلنا لك تو: إن أرادوا قبل بعثة عيسى فهم خاطئون، فاليهود على شيء.
* طالب: النصارى كفروا بموسى؟
* الشيخ: لا ما كفر النصارى بموسى، النصارى يؤمنون بموسى، لكنهم يجحدون دين اليهود، وأنتم (...) على شيء نحن قلنا: فيه تفصيل. قال الله تعالى:
﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ [البقرة 113]
﴿كَذَلِكَ﴾ الكاف المعربون يقولون: إن الكاف في مثل هذا التركيب اسم بمعنى مثل، وأنها منصوبة على المفعولية المطلقة، وأن ذا اللي هو اسم إشارة يشير إلى المصدر، أي: مثل ذلك القول قال الذين من قبلهم، ومنه أيضًا قوله تعالى:
﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل 34] يعني: ومثل ذلك يفعلون، كلما جاء مثل هذا التركيب فإنهم يقولون: إن الكاف اسم بمعنى مثل وأنها مفعول مطلق مضافة إلى اسم الإشارة الذي يشار به إلى مصدر العامل، عامل الفعل اللي بعده، طيب إذا قلت لك أنا مثلًا: قلت كذلك، ويش المعنى؟ قلت: مثل هذا القول، فعلت كذلك، أي: فعلت مثل ذلك الفعل، قرأت مثل ذلك، أي: قرأت مثل ذلك القراءة وهكذا.
وقوله:
﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ نفى الله عنهم العلم، يعني كذلك قال الذين لا يعلمون يعني: لم يقرؤوا كتابا
﴿مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ أي مثل قول هؤلاء، وكلمة:
﴿مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ يقولون: إنها تأكيد لـ
﴿كَذَلِكَ﴾؛ لأننا قلنا لكم: إن
﴿كَذَلِكَ قَالَ﴾ معناها مثل ذلك القول قال، ومعلوم أن العامل الواحد ما ينصب، فقالوا: إن مثل قولهم توكيد لـ
﴿كَذَلِكَ قَالَ﴾.
وقوله:
﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ من الذين لا يعلمون؟ قال بعض المفسرين: لا يعلمون: إنهم أمم سابقة، كقوله في الآية الثانية:
﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [البقرة 118]، فهم أمم سابقة لا يعلمون، وقال بعض المفسرين:
﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي: من هؤلاء يعني أن الذين يتلون الكتاب من اليهود النصارى قالوا: مثل قول الذين لا يعلمون منهم، فاستوى قول عالمهم وجاهلهم، وقال بعض المفسرين: المراد بـ
﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ كفار قريش أهل الجاهلية، فإنهم قالوا: إن محمدا ﷺ ليس على دين، وليس على شيء، والأحسن من هذا الأحسن أن نقول؟
* طالب: كل من لا يعلم.
* الشيخ: إي نعم، نقول بالعموم، الأحسن أن يقال بالعموم مثل ما اختاره ابن جرير وغيره، فإن القرآن إذا تضمنت الآية معاني متعددة لا يتناقض بعضها مع بعض، فالواجب حملها على هذه الاحتمالات كلها، وهذا من سعة كلام الله عز وجل وشمول معناه، وهذه قاعدة مقررة في التفسير ينبغي أن يحتفظ بها الإنسان أنه إذا فسرت الآية بالأقاويل المتعددة، وكان بعضها لا ينافي بعضًا بالنسبة للآية الكريمة، فإنها تحمل عليهما. ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ [البقرة 113] يعني: أنهم أنكروا الحق، فقالوا مثلًا في الرسول عليه الصلاة والسلام: ليسوا على شيء، وقال المكذبون للرسل أيضًا: ليس الرسل على شيء، وقالوا أيضًا لأهل العلم والإيمان: ليسوا على شيء، وهكذا إلى يوم القيامة أيضًا ربما يقال هذا الشيء، وإلى الآن يقول الجاهلون لأهل العلم: إنهم ليسوا على شيء.
قال الله تعالى:
﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [البقرة 113]،
﴿فَاللَّهُ﴾ الفاء حرف عطف، والله مبتدأ، والجملة
﴿يَحْكُمُ﴾، الجملة؟ في محل رفع خبر المبتدأ، فالله يحكم وهذا للمستقبل للمضارع ولَّا للماضي؟ للمستقبل بدليل قوله:
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
قوله:
﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ الحكم معناه القضاء والفصل بين الشيئين، والله تبارك وتعالى يوم القيامة يقضي بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، فيبين لصاحب الحق حقه ويجزيه به، ويبين لصاحب الباطل باطله ويجزيه به، وحكم الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرعي، وكوني، وجزائي، الشرعي مثل قوله تعالى في سورة الممتحنة:
﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة 10].
حكم الله شرعي ولَّا كوني ولَّا جزائي؟ شرعي، والكوني مثل قوله تعالى عن أخي يوسف:
﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [يوسف 80] هذا كوني، والجزائي مثل هذه الآية
﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [النساء 141] الحكم الجزائي هو ثمرة الحكم الشرعي؛ لأنه إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، هذا الحكم يوم القيامة بين الناس، هل هو بالعدل ولَّا بالفضل؟ نقول: لا يخلو إما بالعدل أو بالفضل أو بالظلم، والظلم منتف، الظلم منتف حرمه الله على نفسه، وعلى عباده، كما في الحديث القدسي:
«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا»(٨) بقي أيش؟ بقي العدل والفضل، فنقول: أما بالنسبة لحقوق الناس فيما بينهم فالقضاء بالعدل، وأما بالنسبة لما بين العبد وبين ربه فالقضاء بالعدل بالنسبة للكافرين، وبالفضل بالنسبة للمؤمنين؛ لأن الكافر يجزى بالعدل
﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ [غافر 40] وأما المؤمن فيجزى بالفضل
«الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا أَوْ يَعْفُو عَنْهَا»(٩) كذا ولَّا لا؟ إذن الحكم الجزائي بين الخلائق بالعدل، لا بد أن يؤتى صاحب الحق حقه، وبين الإنسان وبين ربه دائر بين العدل والفضل، طيب، ما جوابكم عن قوله تعالى:
﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾ [يونس 4]؟
* طالب: (...).
* طالب: مخصصة.
* الشيخ: نقول: الجواب والله أعلم، إن هذا هو الواجب له بما أوجبه الله، والفضل زيادة، وأن هذا من باب التحذير، يعني: معناه الإنسان ما لكل عمل، هذا الأصل لك، وهذا غاية العدل، لكن الفضل زيادة من الله سبحانه وتعالى. قال:
﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ويوم القيامة تقدم لنا أنه سُمي يوم القيامة لأمور؟ لأيش سُمي يوم القيامة؟
* طالب: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين 6].
* الشيخ: ﴿لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ نعم.
* طالب: يقام فيه العدل.
* الشيخ: يقام فيه العدل، نعم.
* طالب: ﴿يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
* الشيخ: ذُكِر.
* طالب: قيام الأشهاد.
* الشيخ: نعم، قيام الأشهاد كما قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر 51] فهو يوم القيامة لقيام الناس من قبورهم لرب العالمين، ولإقامة العدل فيه، ولقيام الأشهاد.
* طالب: (...).
* الشيخ: الأشهاد ليشهدوا، الأمم تشهد عليهم الرسل، وهذه الأمة تشهد على الأمم السابقين والأيدي والأرجل؟ ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾؛ لأنه معلوم فيه خلاف بين المؤمن والكافر، ولَّا لا؟ خلاف بين النصارى أهل الملة كلهم، النصارى واليهود مختلفون بل النصارى الآن مختلفون في مللهم، مختلفون في مللهم مع بعضهم اختلافًا جوهريًّا، جوهري في الأصول ما هو في الفروع، في كيفية صلب عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وفي القيامة التي يقال: إنه بعث من قبره بعد ثلاثة أيام، وغير ذلك فهم مختلفون، واليهود كذلك أيضًا على خلاف، وكذلك المسلمون عامة مع الكفار، والذي يحكم بينهم هو الله عز وجل يوم القيامة، وليس هذا الحكم مبنيًا على خرص وظن، بل هو على علم، كل إنسان عمله مسجل في كتاب، يقال
﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ﴾ [الإسراء 14] وكل إنسان عليه رقيب عتيد، إذا جاء يوم القيامة حضر
﴿وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ [ق 23] أي حاضر، وكذلك أيضًا كل إنسان في يوم القيامة يشهد عليه جوارحه بما عمل، فالحكم هذا مبني على أقوم البينات وأعدل الأحكام.
ثم قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة 114].
(من) اسم استفهام وهي مبتدأ، وأظلم خبره، والاستفهام هنا بمعنى النفي يعني: لا أحد أظلم، ما هو الاستفهام الذي يكون بمعنى النفي؟ يعني: ما هو الميزان الذي يبين لك أن الاستفهام بمعنى النفي؟ أنك لو حذفت الاستفهام وأقمت النفي مَقامه أو مُقامه صح، فهنا (من أظلم) لو قلت: لا أحد أظلم، يستقيم الكلام؟ يستقيم الكلام، ما الفائدة في أنه يحول النفي إلى استفهام؟ لأنه أبلغ في النفي، إذ إن الاستفهام الذي بمعنى النفي مشرب معنى التحدي، كأنه يقول: بينوا لي أي أحد أظلم من كذا وكذا. فالاستفهام الذي بمعنى النفي فائدته أي فائدة تحويل النفي؛ لأن الكلام هنا على النفي، لكن فائدة تحويله إلى استفهام أنه إذا حول كان مشربًا بأي شيء؟ بالتحدي كأنه يتحدى من أظلم؟ دوروا أي أحد أظلم ممن منع.
وقوله:
﴿أَظْلَمُ﴾ اسم تفضيل من الظلم، وأصله في اللغة النقص، وهو أن يفرط الإنسان فيما يجب أو يعتدي فيما يحرم، هذا ضابط الظلم، الظلم في اللغة أصله النقص؛ لقوله تعالى:
﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف 33] لم تظلم أي: لم تنقص، وهو في الشرع بهذا المعنى؛ لأن الظلم عبارة عن تفريط في واجب أو انتهاك لمحرم وهذا نقص، لا أحد أظلم
﴿مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ [البقرة 114]
﴿مِمَّنْ﴾ (مَن) اسم استفهام؛ (مِنْ مَنْ)، اسم استفهام؛ لأن (مِن) حرف جر، و(مَن) هذا استفهامية، كذا؟
* الطالب: لا، الأولى حرف جر والثاني موصول.
* الشيخ: (مَن) اسم موصول هنا بمعنى الذي، ومن أظلم من الذي منع مساجد الله؟! وقوله:
﴿مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ من الذي منع، هل المراد بها شخص معين؟ لأنه اسم مفرد أو هو شامل لكل من اتصف بهذا الوصف؟
شامل؛ لأنه مر علينا في أصول الفقه أن الأسماء الموصولة كلها من ألفاظ العموم، كل الأسماء الموصولة سواء مفرد ولَّا مثنى ولَّا جمع كله يفيد العموم، وقوله:
﴿مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ﴾ ﴿مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ﴾ منْعُ مساجد الله في الحقيقة له أسباب؛ تارة تمنع المساجد من أن تمتهن فُرُشها أو أرضها أو كتبها أو مصاحفها فتغلق الأبواب حماية لها، يدخل في هذا؟ لا،
﴿مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ هذا المنع، منع أن تقام فيها حلقات الذكر، منع أن تقام فيها المواعظ، منع أن تقام فيها الصلوات، منع أن تقام فيها قراءة القرآن هذا ما عاد يذكر فيها اسمه، أما منعها أن تفسد وتسرق وتمزق كتبها ومصاحفها فليس هذا داخلًا في هذا الباب، الذي يدخل في الباب أن يذكر؛ ولهذا
﴿أَنْ يُذْكَرَ﴾ نقول في إعرابها: إما أنها عطف بيان، أو بدل اشتمال من كلمة
﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ أو نقول: (أن يذكر) منصوبة بنزع الخافض على وجه مضطرد ولَّا غير مضطرد؟
* طالب: (...).
* الشيخ: ويش الدليل من ابن مالك؟ بنزع الخافض
* طالب: قوله:
نقلًا وفي (أَنَّ) وَ (أَنْ) يَطَّرِدُ ∗∗∗ مَعْ أَمْن لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أَنْ يَدُوا
* الشيخ: طيب، المهم أن يذكر، يصلح أن تقول من أن يذكر، وأضيفت المساجد إلى الله
﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ لأنها محل عبادته، فتكون تشريفًا لها، تكون الإضافة هنا من باب التشريف، وفي المناسبة قد ذكرنا لكم أن الذي يضاف إلى الله ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون أوصافًا أو أعيانًا أو أوصافًا في أعيان، ثلاثة أقسام: إما أن يكون أوصافًا أو أعيانًا أو أوصافًا في أعيان يعني أعيان مخلوقة.
* الشيخ: فهمتم الآن التقسيم؟ إذا كان المضاف إلى الله وصفًا فهو صفة من صفاته وغير مخلوق مثل: كلام الله، يد الله، علم الله، إذا كان المضاف إلى الله عينًا قائمة بنفسها فهو مخلوق، وليس من صفاته مثل مساجد الله، وناقة الله، وبيت الله هذه أعيان قائمة فتكون إضافتها إلى الله من باب إضافة المخلوق لخالقه على وجه التشريف، ولا شيء من المخلوقات يضاف إلى الله عز وجل إلا لسبب خاص به، ولولا هذا السبب ما أضيف إليه، ما خص بالإضافة، طيب الثالث؟ أوصاف في أعيان مخلوقة، فهو أيضًا مخلوق، وهذا نقول إن صح التعبير مثل
﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ [الحجر 29] فإن الروح هنا صفة في الجسد، إن صح أن نقول: صفة، والناس مضطربون فيها: هل هي صفة ولَّا عين ولَّا معنى؟ المهم هذه حتى إن قلنا: إنها عين، دخلت في القسم الثاني، وإن قلنا: إنها صفة، فهي قسم مستقل، لكنها صفة في مخلوق فتكون مخلوقة، وقوله هنا:
﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ يعم كل المساجد سواء كانت هذه المساجد لها خاصية كالمساجد الثلاثة أو لا خاصية لها كعموم المساجد.
وقوله:
﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ احترازًا من المكان الذي صُلِّي فيه ولم يُجعل مسجدًا؛ لأنه إلى الآن ما صار لله، مثل جماعة حوطوا لهم مكان في البر و(...) وصلوا فيه، يصير هذا من مساجد الله؟ لا لكنه مسجد هو مسجد لكن ما يضاف إلى الله عز وجل؛ لأنه لم يتخذ على سبيل البقاء في كونه مسجدًا.
وقوله:
﴿أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ أن يذكر فيها اسمه، (اسم) نائب فاعل ولَّا فاعل؟
* طالب: نائب فاعل.
* الشيخ: نائب فاعل؛ لأن يذكر فعل مضارع مبني لما لم يسم فاعله أو للمفعول، فعلى هذا يكون نائب فاعل، وقوله: ﴿أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ ولم يقل: أن يذكر فيها الله، مع أنه قال في سورة النور: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ [النور 37]؛ لأن الله لا يذكر إلا باسمه، فالذكر باللسان لا يكون إلا باسم الله، أما ذكر القلب فيكون ذكرًا لله ويكون ذكرًا لأسمائه، فقد يتأمل الإنسان في قلبه أسماء الله ويتدبر فيها ويكون ذكر الاسم، وقد يتأمل في أفعال الله عز وجل ومخلوقاته وأحكامه الشرعية، أما اللسان فلا بد فيه من أيش؟ من ذكر اسم الله. ﴿أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ [البقرة 114] هذا معطوف على
﴿مَنَعَ﴾ يعني: جمع وصفين: منع المساجد التي يذكر فيها اسمه،
﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ الخراب ضد الصلاح كما قال تعالى:
﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الحشر 2] وفي قراءة
(١٠) :
﴿يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ﴾ ، والمراد بالخراب هنا الحسي ولَّا المعنوي؟ الظاهر والله أعلم أنه يشمل؛ لأنه قد يتسلط بعض الناس - والعياذ بالله - على هدم المساجد حسًّا، قد يتسلط بعض الناس على أن يهدم مساجد الله حسًّا بالمعاول والقنابل، ولَّا لا؟ وقد يخربها معنى، كيف تخريبها معنى؟ أنه يمنع من ذكر الله فيها، يمنع من ذكر الله فيها، وعلى هذا يكون
﴿سَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ تفسيرًا لقوله:
﴿مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ فإن هذا من خرابها.
وقوله:
﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ السعي بمعنى المشي بسرعة، ويطلق على مجرد العمل، يطلق السعي على مجرد العمل، وإن لم يكن بسرعة،
﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ هل نقول: من السعي في خرابها التخلف عن الجماعة؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: إي (...) لكن إذا بقى يتخلف هذا الرجل وهذا الرجل وهذا الرجل ما صلوا الناس في المسجد.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا نحن قلنا: إنه سعى في خرابها الخراب المعنوي والحسي، إذا لم تقم فيه الجماعة فهو خراب معنوي، لكن قد يقال: من ترك الجماعة، نعم، إن أجمعوا فهذا قد يدخل في هذا الشيء؛ لأنهم عطلوها، أما إذا كان واحد فإنه إذا تخلف واحد جاء غيره، ما يلزم من تخلفه أن يعطل المسجد.
* طالب: (...).
* الشيخ: (...) فالأعمال بالنيات.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: امدح وتكلم بالتوحيد؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: امدح الرسول ﷺ بما يستحق عليه الصلاة والسلام لا تغلو فيه، أقول: امدح الرسول وتكلم في التوحيد.
* طالب: ما يتكلم بالتوحيد (...).
* الشيخ: المديح البدعي، هذا ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولكن ينبغي إنكم تتفاهمون معهم مثلا تجلس، ولا تعاند فيحصل فوضى، وبعدين تفاهم معهم بالتي هي أحسن.
* طالب: المساجد عندنا يجيء جماعة يوم الأربعاء، يجيبوا عبي بيضاء وطواقي ويمسكوا الناس بالقوة يخلوهم علشان يذكروا ويتمايلوا وذكر؟
* الشيخ: هذا من السعي في الخراب؛ لأن إقامة البدع في المساجد خراب لها.
* الطالب: بالمرة برضة قلنا لهم: يا جماعة ما تمسكوا، اللي عايز يقعد معاكم (...) يقعد، ما تمسكوا الناس بالعافية.
* الشيخ: أعوذ بالله.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: معنى هذا إن بني النضير لما حصل المصالحة معهم، وعرفوا أنهم ماشيين يخلون بيوتهم بدؤوا يخربونها، يكسرون البيبان ويخربون الأشياء اللي فيها لأجل إذا أخذها المسلمون وإذا هي خربانة.
* طالب: وأيدي المؤمنين.
* الشيخ: وأيدي المؤمنين بالنسبة لهم هم خراب، يعني هم الآن خربوها عليهم حيث احتلوها.
* طالب: (...)
* الشيخ: منع تنصب مفعولين.
* طالب: (...)
* الشيخ: مساجد هو المفعول الأول.
* طالب: عطف.
* الشيخ: عطف أيش؟ ما فيها واو.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا، قلنا لكم: إن فيها وجهان: أحدها أن تكون منصوبة بنزع الخافض بتقدير من يعني: من أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر، منعها من أن يذكر فيها اسمه، أو أنها بدل اشتمال من قوله: ﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾؛ لأن المعنى: ومن أظلم ممن منع أن يذكر الله في المساجد. قوله:
﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ ما معناها؟
﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ ويش معناها؟
* طالب: المنافقين ما كان لهم أن يدخلوا هذه المساجد؛ لأن قلوبهم ليست صادقة مع الله (...).
* الشيخ: وغيره من يفهم؟
* طالب: المعنى أن هؤلاء الذين يمنعون الناس ما يحق لهم دخول المساجد إلا وهم خائفون.
* الشيخ: إي نعم، صح، يعني معناه كان الذي ينبغي أن لا يدخلها هؤلاء إلا خائفون؛ لأنهم كافرون بالله عز وجل فليس لهم حق أن يدخلوا المساجد إلا خائفين، فكيف يمنعون عباد الله؟ أو أن المعنى وجه آخر أن هذا خبر بمعنى النهي، يعني: لا تدعوهم يدخلونها إذا ظهرتم عليهم إلا خائفين، أو أنها بشارة من الله عز وجل، بأن هؤلاء الذين منعوا المساجد، ومنهم المشركون الذين منعوا النبي ﷺ المسجد الحرام بأنه ستكون الدولة عليهم، ولا يدخلونها إلا وهي ترتجف قلوبهم فالاحتمالات ثلاثة الآن. يستفاد من هذه الآية الكريمة الآن فوائد:
إما أنها للنهي يعني لا تدعوهم يدخلونها إلا خائفين، أو أنها لبيان حال هؤلاء، وأنه ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا المساجد فضلًا أن يمنعوا عباد الله، أو أنها بشرى من الله أن المسلمين سينتصرون عليهم وتكون لهم الغلبة بحيث لا يدخل هؤلاء المساجد إلا في حال خوف.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، تدخل في هذا، تشير (...) المعنى الكامل لها، تشير إلى ذلك. من فوائد الآيات الآن
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة 111]
يستفاد من هذه الآية الكريمة: بيان ما كان عليه اليهود والنصارى من الإعجاب.
ويستفاد منها أيضًا: أن ما ادعوه كذب؛ لقوله تعالى:
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾.
* ومن فوائد الآية: أن من اغتر بالأماني، وطمع في المنازل العالية بدون عمل لها، ففيه شبه من اليهود والنصارى أيضًا. ومنها: عدل الله عز وجل في مخاطبة عباده؛ حيث قال:
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾؛ لأن هذا من باب أيش؟ مراعاة الخصم، من باب مراعاة الخصم، وأنه إن كان لكم بينة فهاتوها، وهذا لا شك أنه من أبلغ ما يكون من العدل، وإلا فالحكم لله العلي الكبير.
ومنها: أن هؤلاء لا برهان لهم على ما ادعوه بدليل أنهم لم يأتوا به.
ومنها أيضًا: أنهم كاذبون؛ لقوله:
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، ولو كان لهم أدنى حيلة فيما يبرر قولهم ويصدقه لأتَوا به إذن فهم كاذبون.
ثم قال سبحانه وتعالى:
﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة 112]
يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن أهل الجنة هم الذين جمعوا بين وصفين، الإخلاص لله؛ لقوله:
﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾؟، والثاني: اتباع شرعه؛ لقوله:
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾.
* ومن فوائد الآية: أن حسن النية وحده لا يكفي في تبرير العبادة، أو في تبرير التعبد لله، حسن النية وحده ما يكفي في تبرير التعبد لله، من أين نأخذه؟ لأنه قال: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾. يتفرع على هذه الفائدة أن أهل البدع لا ثواب لهم على بدعهم، ولو مع حسن النية، لماذا؟ لعدم الإحسان اللي هو المتابعة، فصاحب البدعة إذا قال: أنا ما أردت إلا خيرًا، قلنا: ولكنك لم تحسن، والأجر مشروط بأمرين: إسلام الوجه لله، والثاني الإحسان.
ومنها: ثبوت الأجر في الآخرة،
﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾، وأن العمل لن يضيع.
ومنها: إثبات الجزاء أو هذا يكفي التي قبله؟
إذن منها: أن الجزاء من جنس العمل.
ومنها: عظم هذا التواضع؛ لإضافته إلى الله في قوله:
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾.
ومنها: انتفاء الخوف والحزن لمن تعبد لله سبحانه وتعالى بهذين الوصفين وهما؟ الإخلاص والمتابعة،؛ ولهذا قال الله تعالى:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ﴾ [الأنعام 82]، فمن تعبد لله سبحانه تعالى بهذين الوصفين فإنه لا خوف عليه ولا حزن.
ومنها: حسن عاقبة المؤمنين؛ لانتفاء الخوف عنهم والحزن، غير المؤمنين تملأ قلوبهم رعبًا، وحزنًا أيضًا؟ نعم وحزنًا، قال الله تعالى:
﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة 166]، وقال تعالى:
﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة 167]، وقال تعالى:
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ [مريم 39] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تحسر هؤلاء الذين ما هدوا إلى صراط الحميد.
ثم قال تعالى:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾
* طالب: قلنا: المبتدع ليس له أجر، ولكن إذا كان مقلدًا، قلد وهو حسن النية، لكنه ما يدري، يكون له أجر؟
* الشيخ: ما له أجر (...).
* الطالب: بس، يعني عذر بالشق الثاني في شروط العمل، وأتى بالشق الأول..؟
* الشيخ: لكن هذا العمل هذا ما يؤجر عليه لأنه بدعة ولو كان جاهلًا؛ لأنه لو كان عالما ويش يحصل له؟ إثم، يحصل عليه الإثم، فإذا كان جاهلًا قلنا: أنت معذور بالجهل لكن هذا لا ينفعه؛ لأن كل عمل يشترط فيه شرطان: الإخلاص والمتابعة، فإذا لم تكن المتابعة فإنه ما يقبل، وإذا لم يقبل لم ينفعه.
* الطالب: وإذا كان فيه خلاف، ممكن مسح الوجه بعضهم يراه بدعة وبعضهم يراه مندوبًا؟
* الشيخ: إذا كان فيه خلاف على حسب ما يؤديه إليه اجتهاده، إذا كان اجتهاده أداه إلى أن هذا من المشروع هو وغيره فإنه يثاب؛ لأنه يعمل لله وهو يرى أنه متبع، إنما صاحب البدعة قد يثاب صاحب البدعة الجاهل قد يثاب على النية العامة من حسن القصد، النية العامة ما هي بنية هذه البدعة بالذات، يثاب على حسن قصده على سبيل العموم، أما أن يثاب على نيته لهذه العبادة المبتدعة فهذا ما يمكن. ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ إلى آخره
[البقرة: 113] هذا أيضًا فيه دليل على أن الأمم الكافرة يكفِّر بعضها بعضًا، فاليهود يقولون: النصارى ليسوا على شيء، والنصارى يقولون: اليهود ليسوا على شيء، والصواب مع من؟ بعد بعثة الرسول كلهم على خطأ، لكن قبل بعثة الرسول الصواب مع النصارى، فإن اليهود ليسوا على شيء.
* ومن فوائد الآية: تقبيح القول إذا كان عن علم، تقبيح القول المخالف للحق إذا كان عن علم؛ لقوله: ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ فإن هذه الجملة تفيد زيادة القبح فيما قالوه؛ حيث قالوا ذلك وهم يتلون الكتاب ويعرفون الحق.
* ومن فوائد الآية: أن هذا القول الذي قاله اليهود والنصارى قد وُرِث ممن قبلهم، وورثه من بعدهم؛ لقوله: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾.
* ومن فوائد الآية: إثبات يوم القيامة؛ لقوله تعالى: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. ومنها: إثبات الحكم لله،
﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾.
ومنها أيضًا من فوائد الآية: أن هؤلاء الذين اختلفوا في الحق والباطل سوف يكون القضاء بينهم يوم القيامة بين يدي الله، فيقول لصاحب الحق: أنت على حق. ولصاحب الباطل: أنت على باطل، أيهما اللي بيخصم؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: لقوله تعالى: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء 141]. ولهذا ما في حكم مبين للخصم أن الحق له دون خصمه إلا في هذا، يعني: القاضي ما يقول مثلًا للخصمين: لن يكون لصاحبك سبيل عليك، ما يقول حتى إنه يتبين كل يدلي بحجته، لكن هنا بين الله أن الكافرين ما لهم سبيل على المؤمنين، لماذا؟ لأن الحجة قائمة وواضحة للجميع.
ثم قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ في هذا دليل على أن المعاصي تختلف؛ لقوله:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ وأظلم اسم تفضيل، واسم التفضيل يقتضي مفضلًا ومفضلًا عليه، وكما أن المعاصي تختلف فكذلك الطاعات تختلف، بعضها أفضل من بعض، وإذا كانت الأعمال تختلف فالعامل نتيجة لها يختلف، فبعض الناس أقوى إيمانًا من بعض، وبهذا نعرف أن القول الصحيح قول أهل السنة والجماعة في أن الإيمان يزيد وينقص، يتفاوت تفاوتًا عظيمًا، لا في الكسب القلبي، ولا في الكسب البدني، يتفاوت، فإن الناس يتفاوتون في اليقين، ويتفاوتون في الأعمال الظاهرة من قول أو فعل، ولَّا لا؟ تفاوتهم في اليقين أظنه معلوم، حتى الإنسان نفسه تتفاوت أقواله بين حين وآخر، في بعض الأحيان يصفو ذهنه وقلبه حتى كأنما يشاهد الآخرة رأي عين، ولَّا لا؟ وفي بعض الأحيان تستولي عليه الغفلة؛ ولهذا قال الله تعالى لإبراهيم:
﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة 260]. وتفاوت الناس في المعلوم أمر معلوم، الآن لو جاءني رجل وقال: قدم فلان، والرجل عندي ثقة صار عندي علم به، فإذا جاء آخر وقال: قدم فلان ازداد علمي، فإذا جاء الثالث ازداد علمي، فإذا رأيته أنا ازداد، فالأمور العلمية تتفاوت في إدراك القلوب لها، أيضًا يتفاوت الناس في الأقوال، الذي يسبح الله عشر مرات أكثر من الذي يسبحه خمس مرات أليس كذلك؟ وهذه الزيادة كمية الإيمان، كذلك تتفاوت بالأعمال؛ فالذي يصلي ست ركعات أكثر من الذي يصلي ركعتين، فبهذا يكون القول الراجح بلا ريب مذهب أهل السنة والجماعة في أن الإيمان يزيد وينقص، من خالفهم في هذا؟ خالفهم طائفتان المرجئة والخوارج والمعتزلة، المرجئة قالوا: إن الإيمان ما يزيد ولا ينقص؛ لأن الإيمان إقرار القلب، والناس لا يتفاوتون فيه، وأفسق الناس وأعدل الناس في الإيمان سواء، حتى جعلوا إيمان جبريل مثل إيمان الشيطان - أعوذ بالله - قالوا: لأن كل واحد منهم يقر بالله والإيمان إقرار الإنسان بالله، ولا يتفاوت، وابن القيم يقول:
وَالنَّاسُ فِي الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ∗∗∗ كَالْمُشْطِ عِنْدَ تَمَاثُلِ الْأَسْنَانِ
ثم قال: فصل
وَاسْأَلْ أَبَا الْجِنِّ اللَّعِينَ أَتَعْرِفُ الْـ ∗∗∗ خَلَّاقَ أَمْ أَصْبَحْتَ ذَا نُكْرَانِ ؎وَاسْأَلْ ثَمُودَ وَعَادَ بَلْ سَلْ قَبْلَـهُمْ ∗∗∗ أَعْدَاءَ نُوحٍ أُمَّةَ الطُّوفَــانِ
وإلى آخر ما قال، فعندهم الناس سواء، رجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويقتل النفس المحرمة، لكنه يؤمن بالله، ورجل مستقيم أبعد الناس عن المعاصي وأقواهم في طاعة الله، فالإيمان في هذا وفي هذا على حد سواء، هذا معقول؟ ما هو معقول، عاكسهم في ذلك الخوارج والمعتزلة، قالوا: الإيمان ما يزيد ولا ينقص، لكن لو فات منه ذرة فات كله، الزاني لو هو يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله كافر ما هو مؤمن، وغلاة المرجئة، أيش يقولون؟ مؤمن كامل الإيمان شوف - أعوذ بالله - بدعًا غريبة، إنما أهل السنة والجماعة يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص في الكمية، وفي الكيفية، في إقرار القلب، وفي أقوال اللسان، وفي أعمال الجوارح، والآية التي معنا تدل عليه، أيش وجه الدلالة من الآية؟ أن المعاصي تتفاوت فيلزم من ذلك تفاوت العاملين؛ لأن من عصى معصية أعظم صار أعظم جرمًا وإثمًا.
ومنها من فوائد الآية: تحريم منع المساجد من أن يذكر فيها اسمه، سواء كان ذلك بالصلاة أو قراءة القرآن أو تعليم العلم أو غير ذلك، ما يجوز أن تمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.
ومنها من فوائد الآية: جواز منع المساجد لمصلحة المساجد، مثل أن تُغلَّق خوفًا عليها من الإفساد أو السرقة أو ما أشبه ذلك؛ لأن المحرم ما هو؟ أن يذكر فيها اسمه، هذا المحرم والظلم، واستدل بعض العلماء بهذه الآية على تحريم التحجر، تعرفون التحجر؟ إن الإنسان يخلي حمى مكان له بالصف، قال: لأن هذا منع هذا المكان أن يذكر فيها اسم الله؛ لأن هذا المكان من أحق الناس به أسبق الناس إليه، فأنت الآن حطيت نعالك، نعالك هذه تذكر وتسبح؟
* طالب: بس غير التسبيح اللي..
* الشيخ: غير التسبيح الذي بني له المسجد، وإلا لصار نملأ المسجد نعال ونمشي، لكنها ما تسبح التسبيح الذي بُني من أجله المسجد، الآن منعت هذا المكان من رجل يأتي إليه، ويذكر اسم الله فيه ولَّا لا؟ هذا وجه الاستدلال، ولا شك أن التحجر حرام، إن الإنسان يحط حذاءه ويروح يبيع ويشري، ولَّا يروح مثلا بيته ويستمتع بأولاده وأهله هذا ما يجوز، أما نعم إذا صار الإنسان في نفس المسجد، واحتاج إلى أن يأخذ هذا المكان يبقى فيه، ويروح ينتفع في جهة أخرى في المسجد، فهذا لا شك أنه سابق إلى المسجد، لكن رأى إن هذا المكان الآن غير مناسب له، ولكن حتى في هذه المسألة لو مثلًا صار في الصف الثاني ووصله الناس وصلوا إليه، فالواجب عليه أن يقوم إلى مكانه في الصف الأول؛ لأنه لو يبقى منع هذا المكان من أن يذكر فيها اسم الله.
* ومن فوائد الآية الكريمة: شرف المساجد؛ وذلك لإضافتها إلى الله ﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾. ومنها: أنه لا يجوز أن يوضع فيها ما يكون سببًا للشرك؛ لأن مساجد الله معناها موضع السجود له، فإذا وضع فيها ما يكون سببًا للشرك، فقد أخرجناها عن موضوعها مثل أيش؟
* طالب: القبور.
* الشيخ: نعم، أن نقبر فيها الموتى فإن هذا محرم؛ لأن هذا وسيلة إلى الشرك، فنكون قد أخرجنا المساجد عن موضوعها. ومنها: وجوب تطهير المساجد، من أين نأخذ؟ من إضافتها لله القاضي بتشريفها وتعظيمها، ولهذا قال الله تعالى:
﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج 26]
ممكن نقول: ومنها أن الناس فيها سواء؟
* طالب: نعم (...).
* الشيخ: لا، من كونها أضافها الله إلى نفسه، والناس عباد الله بالنسبة إلى الله سواء، ما نقول: هذا إنسان شريف وكريم وغني وأمير ووزير وملك يجب أن يكون هو المقدم في هذه المساجد، الناس فيها سواء؛ لأنها مساجد الله فكل من أتى إلى هذه المساجد لعبادة الله فإنه لا فرق بينه وبين الآخرين. طيب، هل يؤخذ من هذه الآية الكريمة إنه يجوز للعالم أن يخصص مكانًا للدرس في هذه المساجد؟ إذن يجوز، يجوز أن يتخذ مكانًا يجعله للذكر، لكنه إذا أقيمت الصلاة ما يمنع الناس، يقول: لا تصلوا في مكاني، هو وغيره سواء، لكن إذا اتخذ مكانًا للجلوس وتعليم الناس أو موعظة للناس فإنه له الحق.
ومنها أي من فوائد الآية: أن ذكر الله لا بد أن يكون باسمه، فتقول: لا إله إلا الله، سبحان الله، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، سبحان ربي العظيم، تذكره باسمه؛ لقوله:
﴿أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة 114]، فذكره سبحانه وتعالى بالضمير المفرد هذا بدعة، وليس بذكر مثل طريقة الصوفية يقولون: أفضل الذكر أن تقول: هو هو هو هو هو، لأيش؟ لأنك لا تشاهد إلا الله -والعياذ بالله- يرون أن أكمل حالة للإنسان الفناء، أن يفنى عن مشاهدة سوى الله، بحيث أنه ما يشاهد عندهم إلا الخالق، فلا تقول: لا إله إلا هو، فتثبت اثنين، واحد منفي وواحد مثبت، بل قل: هو هو هو، حسب هزة رؤوسهم، فهذا لا شك إنه من البدع، وليس ذكرًا لله عز وجل بل هو من المنكرات.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تحريم تخريب المساجد؛ لقوله: ﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ والتخريب كما قلنا في التفسير: إنه حسي ومعنوي، فمن الحسي أن يكسر اللمبات ويقشع الجص مثلا، يقطع الأسلاك، يشقق البسط، وما أشبه ذلك.
* طالب:(...)؟
* الشيخ: لا لا، هذا طيب، هذا تعمير وليس تخريب. ومن المعنوي أن يفعل ما يشوش على المصلين والقارئين؛ لأنه إذا شوش عليهم ما أحسنوا ذكر الله، ولا ريب أن الحيلولة بين الناس وبين إحسان ذكر الله تخريب ولَّا لا؟ تخريب وإفساد معنوي، تخريب وإفساد معنوي؛ ولهذا قال العلماء: يحرم أن يرفع صوته بقراءة القرآن وهو في المسجد إذا كان يشوش على المصلين، مع أنه بيرفع صوته بذكر الله. ومن فوائد الآية الكريمة في قوله:
﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾: البشارة للمؤمنين بأن العاقبة لهم، فهؤلاء الذين منعوهم سوف لا يدخلونها إلا وهم خائفون، وهذا على أحد الاحتمالات التي ذكرناها.
ومنها: أن عقوبة من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها الخزي والعار في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة.
* ومن فوائد الآية: أن الذنب إذا كان فيه تعد على العباد، فإن الله قد يجمع لفاعله بين العقوبتين: عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، أما إذا كان لله فإن الله تعالى لا يجمع له بين العقوبتين ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى 30]. قال العلماء: يعني ولا يجمع للإنسان بين العقوبتين، وهذا إذا كانت المعصية تتعلق بمن؟ بالله عز وجل، فإنه لا يستوفي حقه من عبده مرتين، أما إذا كانت المعصية متعلقة بالمخلوق فقد يجمع الله بين العقوبتين لهذا الفاعل، عقوبة الدنيا لماذا؟ مثل ما قال الله عز وجل يشفي قلب المظلوم، يشفي قلب المظلوم المعتدى عليه ولَّا لا؟ ولا شك أن الإنسان مثلًا إذا اعتدى عليك، ثم رأيت عقوبة الله فيه أنك تفرح بأن الله سبحانه وتعالى اقتص لك منه، فالحاصل يا إخوانا إذا قال قائل: كيف يكون لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم، والله تعالى لا يجمع بين العقوبتين؟ نقول: لأن هذه العقوبة تتعلق بحق المخلوق، فلذلك عاقب الله فاعلها في الدنيا والآخرة؛ لأجل أن يشاهد المظلوم أن الله تعالى اقتص له.
ومنها: إثبات يوم القيامة؛ لقوله:
﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
ومنها: أن عذاب الآخرة أعظم من عذاب الدنيا كما أن نعيم الآخرة أعظم من نعيم الدنيا، ولكن الله سبحانه وتعالى يُرِي عباده نموذجًا من هذا ومن هذا؛ لأنه ما يستقيم فَهْم الوعيد ولا فهم الوعد إلا بأيش؟ إلا بمشاهدة نموذج من ذلك، لو كان الله مثلًا توعد بالنار، إحنا ما ندري ويش النار؟ هل نخاف؟ ما نخاف إلا خوفًا إجماليًّا عامًّا، وكذلك لو توعد بالنعيم في الجنة، ونحن ما نعرف ويش هذا النعيم، كان ما يكون لنا رغبة مثل ما إذا عين ووجدنا نظيره في الاسم في الدنيا.
(١) أخرجه أبو داود برقم (٤٣٤١)، والترمذي برقم (٣٠٥٨)، وابن ماجه برقم (٤٠١٤) من حديث أبي ثعلبة الخشني.
(٢) متفق عليه، البخاري برقم (١٤١٧)، ومسلم برقم (١٠١٦ / ٦٨) من حديث عدي بن حاتم.
(٣) أخرجه مسلم برقم (١٥٣ / ٢٤٠) من حديث أبي هريرة.
(٤) أخرجه الترمذي برقم (٢٤٥٩)، وابن ماجه برقم (٤٢٦٠) من حديث شداد بن أوس.
(٥) أخرجه مسلم برقم (٨ / ١) من حديث عمر بن الخطاب.
(٦) متفق عليه؛ البخاري (834)، ومسلم (2705 / 48) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(٧) أخرجه الطبري في التفسير: (1 / 80).
(٨) أخرجه مسلم (2577 / 55) من حديث أبي ذر الغفاري.
(٩) أخرجه أحمد (16206) من حديث لقيط بن عامر بلفظ: «... وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَعْفُو»، وفي البخاري (41) من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: «الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا».
(١٠) بالتشديد قرأها أبو عمرو، انظر: النشر (2 / 293).