الباحث القرآني

﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٣، ٢٤] ﴿لا تَقُولَنَّ﴾ الخطاب هنا للرسول ﷺ كالخطاب في الآية التي قبلها، ﴿لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ﴾ أي: في شيء، ﴿إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ذكروا[[أخرجه الطبري في التفسير (١٥ / ١٤٣) من حديث ابن عباس.]] أن قريشًا أرسلت إلى اليهود في المدينة وقالوا: إن رجلًا بعث فينا يقول: إنه نبي، فقالوا لهم: اسألوه عن ثلاث: اسألوه عن فتية خرجوا من مدينتهم ولجؤوا إلى غار، ما شأنهم؟ واسألوا عن رجل ملك مشارق الأرض ومغاربها، واسألوه عن الروح، ثلاثة أشياء، فسألوا النبي ﷺ عن أصحاب الكهف، قال: «أُخْبِرُكُمْ غَدًا»، فتوقف الوحي نحو خمسة عشر يومًا لم ينزل عليه الوحي، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يدري عن قصص السابقين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ [العنكبوت ٤٨]، ولكن الله عز وجل ابتلاه واختبره، فأمسك الوحي خمسة عشر يومًا، كما ابتلى سليمان عليه الصلاة والسلام لما قال: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً تَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سِبِيلِ اللَّهِ، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، ما قال: إن شاء الله، فطاف على تسعين امرأة يجامعهن،» وما الذي حصل؟ «أَتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِشِقِّ إِنْسَانٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٦٣٩)، ومسلم (١٦٥٤ / ٢٥) من حديث أبي هريرة.]]، حتى يري الله عز وجل عباده أن الأمر أمره، وأن الإنسان مهما بلغ في المرتبة عند الله عز وجل والوجاهة فإنه لا مفر له من قدر الله. مكث الوحي خمسة عشر يومًا، ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يلحقه الغم والهم لئلا يتخذ هؤلاء القوم من تأخر إخباره بذلك وسيلة إلى تكذيبه، والحقيقة أن هذا ليس وسيلة إلى تكذيبه؛ يعني قد يقولون: وعدنا محمد بأنه يخبرنا غدًا ولم يفعل، أين الوحي الذي يدعي أنه ينزل عليه؟ لكن نقول: إن تأخر الوحي وتأخر إخبار النبي ﷺ بذلك يدل على أيش؟ على صدقه؛ لأنه لو كان كاذبًا لصنع قصة فيما بين ليلة وضحاها، صنع قصة وقال: هذا قصتهم؛ لئلا يتهموه، فتأخر الوحي والنبي ﷺ لم يخبرهم يدل على كمال صدقه ﷺ. ﴿إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ لا تقل: إني فاعل إلا قولًا مقرونًا بمشيئة الله، وقرن ذلك بمشيئة الله يستفيد منه الإنسان فائدتين عظيمتين: إحداهما: أن الله ييسر الأمر له؛ حيث فوضه إليه جل وعلا. والثانية: إن كان حالفًا لم يحنث. * ويستفاد من قوله: ﴿إِنِّي فَاعِلٌ﴾ أنه لو قال: سأفعل هذا على سبيل الخبر لا على سبيل الجزم بوقوع الفعل، فإن ذلك لا يلزم أن يأتي فيه بالمشيئة؛ يعني: لو قال لك صاحبك: هل تمر عليَّ غدًا؟ فقلت: نعم، الآن قلت: إنك ستمر، لكن هل هذا خبر أو أنه سيقع ولا بد؟ الجواب: هذا خبر، أما إذا أردت أنه سيقع ولا بد فقل: إن شاء الله، وجه ذلك: أن الأول خبر عما في قلبك، والذي في قلبك حاصل الآن، وأما أنك ستفعل في المستقبل، فهذا خبر عن شيء لم يكن ولا تدري هل يكون أو لا يكون؟ انتبهوا لهذا الفرق. إذا قال الإنسان: سأسافر غدًا؛ فإن كان يخبر عما في قلبه فلا يحتاج إلى أن يقول: إن شاء الله، لأيش؟ لأنه خبر عن شيء واقع، أما إذا كان يريد بقوله: سأسافر أنني سأنشئ السفر وأسافر فعلًا، فهنا لا بد أن يقول: إن شاء الله؛ ولهذا جاءت الآية الكريمة: ﴿إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ولم يقل: إني سأفعل، بل قال: ﴿إِنِّي فَاعِلٌ﴾، فلا تقل لشيء مستقبل: إن فاعله إلا مقرونًا بمشيئة الله. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ يعني: اذكر ربك؛ أي: أمر ربك بأن تقول: إن شاء الله، ﴿إِذَا نَسِيتَ﴾ أن تقولها؛ لأن الإنسان قد ينسى، وإذا نسي فقد قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة ٢٨٦]، وقال النبي ﷺ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٩٧)، ومسلم (٦٨٤ / ٣١٤)، وأبي يعلى (٣٠٨٦) واللفظ له من حديث أنس.]]، المشيئة إذا نسي الإنسان متى يقولها؟ إذا ذكرها، ولكن هل تنفعه؛ بمعنى أنه لو حنث لم تلزمه الكفارة أو لا تنفعه؟ من العلماء من قال: تنفعه حتى لو لم يذكر إلا بعد يوم أو يومين أو سنة أو سنتين؛ لأن الله أطلق ﴿اذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾. ومن العلماء من قال: لا تنفعه، إلا إذا ذكر بزمن قريب بحيث ينبني الاستثناء على المستثنى منه، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء. وسأضرب مثلًا يتبين به الأمر، إذا قلت: والله لأفعلن هذا، ونسيت أن تقول: إن شاء الله، ثم ذكرت بعد عشرة أيام، فقلت: إن شاء الله، ثم لم تفعل، بناء على أن من قال: إن شاء الله لم يحنث، هل ينفعه هذا أو لا؟ من العلماء من قال: ينفعه؛ لأنه هنا قال: ﴿اذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾. ومنهم من قال: لا ينفعه؛ لأن الكلام لم ينبنِ بعضه على بعض، إذن ما الفائدة من أمر الله أن نذكره إذا نسينا؟ قال: الفائدة هو ارتفاع الإثم؛ لأن الله قال: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾، فإذا نسيت فقلها إذا ذكرت، لكن هل تنفعك فلا تحنث أو يرتفع عنك بذلك الإثم؟ الظاهر الثاني؛ أنه يرتفع الإثم، وأما الحنث فإنه يحنث لو خالف؛ لأن الاستثناء بالنسبة للحنث لا ينفع إلا أن يكون متصلًا. ثم الاتصال هل يقال: إن الاتصال معناه أن يكون الكلام متواصلًا بعضه مع بعض أو أن الاتصال ما دام في المجلس؟ فيه أيضًا خلاف؛ بعضهم يقول: ما دام في المجلس فهو متصل، وإذا قام عن المجلس فقد انقطع، قال: لأن النبي ﷺ قال: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ» أيش؟ «مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٠٧٩)، ومسلم (١٥٣٢ / ٤٧) من حديث حكيم بن حزام.]]، فجعل التفرق فاصلًا. ومنهم من قال: لا، العبرة باتصال الكلام بعضه مع بعض، والظاهر -والله أعلم- أنه إذا كان في مجلسه ولم يذكر كلامًا يقطع ما بين الكلامين فإنه لا بأس أن يستثني. ﴿وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ ﴿عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي﴾ ﴿عَسَى﴾ هذه بمعنى الرجاء إذا وقعت من مخلوق، وبمعنى الوقوع إذا وقعت من الخالق، انتبه، إذا وقعت من مخلوق فهي للرجاء، ومن الخالق فهي للوقوع، فقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُم﴾ [النساء ٩٨، ٩٩]، نقول: (عسى) هنا واقعة. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾ أيش؟ ﴿فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة ١٨]. أما من الإنسان فهي للرجاء، فقوله عز وجل: ﴿وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي﴾ هذه للرجاء، ﴿أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي﴾ أي: يدلني إلى الطريق؛ ولهذا قال: ﴿لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ هداية، وقد فعل أو لا؟ فعل عز وجل، لكن الرسول ﷺ أول ما قال: «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا»[[أخرجه الطبري في التفسير (١٥ / ١٤٣) من حديث ابن عباس.]]، يحتاج إلى أن ينتظر أمر الله عز وجل، ﴿وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب