الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ خاتم النبيِّين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
في هذا اللقاء سنتكلم على سورتين من كتاب الله عز وجل، أُولاهما: سورة النَّصر.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر ١ - ٣]، الخِطاب للنبي ﷺ لا شكَّ فيه.
يقول الله عز وجل: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ النصر هو تسليطُ الإنسانِ على عدوِّه بحيث يتمكَّن منه ويَخْذلُه ويَكْبِتُه، وهو -أعني النصر- أعظمُ سُرُورٍ يَحْصل للعبد في أعماله؛ لأن المنتصِر يجد نشوةً عظيمةً وفرحًا وطربًا، لكنه إذا كان بحقٍّ فهو خيرٌ، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»[[ متفق عليه؛ البخاري (٤٣٨) ومسلم (٥٢١ / ٣) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.]]؛ أي إن عدوَّه مرعوبٌ منه إذا كان بينه وبينه مسافةُ شهرٍ، والرُّعبُ أشدُّ شيءٍ يفتك بالعدو؛ لأن الذي حَصَلَ في قَلْبه الرُّعبُ لا يمكن أن يَثْبت أبدًا، بل سيطير طيرانَ الريحِ، فقوله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ أي: نصرُ اللهِ إيَّاكَ على عدُوِّك.
﴿وَالْفَتْحُ﴾ معطوف على النصر، والفتحُ به نصرٌ لا شكَّ، لكنَّه عَطَفَه على النصر تنويهًا بشأنه، وهو من باب عَطْف الخاصِّ على العامِّ؛ كقوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ [القدر ٤] أي: في ليلة القَدْر، فالملائكة هم الملائكة، والروح: جبريل، وخصَّه بذِكْره لِشَرَفه.
و(أل) في قوله: ﴿وَالْفَتْحُ﴾ للعهد الذِّهني؛ أي: الفتح المعهود المعروف في أذهانكم، وهو فتْح مكة، وكان فتْح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان، وسَبَبُهُ «أنَّ النبي ﷺ لَمَّا صالَحَ قُريشًا في غزوة الحديبية الصُّلحَ المشهورَ نقضوا العهد، فغَزَاهم النبي عليه الصلاة والسلام، وخرج إليهم مختفيًا وقال: «اللَّهُمَّ عَمِّ أَخْبَارَنَا عَنْهُمْ»، فلم يَفْجأهم إلا وهو محيط بهم عليه الصلاة والسلام»[[انظر دلائل النبوة لأبي إسماعيل الأصبهاني (١ / ٧٤).]]، ودخل مكة في العشرين من شهر رمضان عامَ ثمانٍ من الهجرة منصورًا مُظَفَّرًا مؤيَّدًا، حتى إنه في النهاية «اجتمع إليه كُفَّار قريشٍ حول الكعبة، فوقف على الباب يقول: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟». وهو الذي كان قبل ثماني سنوات كان هاربًا منهم، وكانوا الآن في قبضته وتحت تصرُّفه، قال: «مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟»، قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٌ، قال: «إِنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ:» ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [يوسف ٩٢]«»، ثم مَنَّ عليهم عليه الصلاة والسلام بالعفو فعَفَا عنهم»[[مغازي الواقدي (٢ / ٨٣٥)، والشفا للقاضي عياض (١ / ١١٠).]].
هذا الفتح سَمَّاه الله تعالى فتحًا مبينًا فقال: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح ١] أي: بَيِّنًا عظيمًا واضحًا. ولَمَّا حَصَلَ عَرَف العربُ بلْ عَرَف الناسُ جميعًا أنَّ العاقبة لمحمدٍ ﷺ، وأنَّ دور قريشٍ وأتباعِها قد انقضى، فصار الناس ﴿يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ أي: جماعات، بعدما كانوا يدخلون فيه أفرادًا، ولا يدخل فيه الإنسانُ في بعض الأحيان إلا مختفيًا، صاروا يدخلون أفواجًا في دين الله، وصارت الوفود تَرِدُ على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة من كلِّ جانب، حتى سُمِّيَ العامُ التاسعُ عامَ الوُفودِ، فجعل الناسُ يدخلون في دين الله أفواجًا.
يقول الله عز وجل: إذا رأيتَ هذه العلامة ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾، كان المتوقَّع أن يكون الجواب: فاشكُر اللهَ على هذه النعمة واحمد اللهَ عليها؛ نَصْر وفَتْح، ما جزاؤه من العبد؟
* طالب: الشُّكر.
* الشيخ: الشُّكر، هذا هو المتوقَّع، لكن صار المتوقع على خلاف ما نتوقَّع؛ قال: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ [الإنسان ٢٣، ٢٤]، كان المتوقَّع -﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ - أنْ يُقال: فاشكُر ربَّك على هذا التنزيل وقُمْ بحقِّه، وما أشبهَ ذلك، لكن قال: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ إيذانًا بأنه سوف يناله أذىً بواسطة إبلاغ هذا القرآن ونشره بين الأُمَّة. ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ فكان الجواب يبدو متنافرًا مع الشرط، لكن عندما تتأمَّل تعرف الحكمة؛ المعنى أنَّه إذا جاء نصرُ الله والفتحُ فقد قَرُبَ أجَلُكَ، فما بَقِي عليك إلا الاستغفار والحمد، إلا التسبيح والحمد؛ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾.
ومعنى ﴿سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ أي: سَبِّحْهُ تسبيحًا مقرونًا بالحمد، والتسبيحُ تَنْزيهُ الله تعالى عمَّا لا يليق بجلاله، والحمد هو الثناء عليه بالكمال مع المحبة والتعظيم، اجمعْ بين التنزيه وبين الحمد، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ يعني: اسألْه المغفرة، فأَمَره الله تعالى بأمرين؛ الأمر الأول: التسبيح المقرون بالحمد. والثاني: الاستغفار.
والاستغفار هو طلب المغفرة، والمغفرة سَتْر اللهِ تعالى على عَبْده ذنوبَه مع مَحْوها والتجاوز عنها، وهذا غاية ما يريد العبد؛ لأن العبد ذَنُوب؛ أي: كثير الذنْب، يحتاج إلى مغفرة، إنْ لم يتغمَّده الله برحمته هَلَكَ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٦٧٣) ومسلم (٢٨١٦ / ٧٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]. اللهم تغمَّدْنا برحمتك، ما هنا أحدٌ يدخل بعمله الجنةَ أبدًا؛ لأن عملك هذا لو أردتَ أن تجعله في مقابلة نعمةٍ من النِّعم، نعمة واحدة، لأحاطتْ به النعمة، فكيف يكون عِوَضًا تدخل به الجنة؟! ولهذا قال بعضُ العارفين في نَظْمٍ له:
؎إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَةً ∗∗∗ عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ؎فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِهِ ∗∗∗ وَإِنْ طَالَتِ الْأَيَّامُ واتَّصَلَالعُمْرُ
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ أي: لم يَزَلْ عزَّ وجلَّ تَوَّابًا على عِباده، فإذا استغفرتَهُ تابَ عليك، هذا هو معنى السورة.
لكن السورة لها مَغْزى عظيم لا يتفطَّن له إلا الأذكياء، ولهذا لَمَّا سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ الناس انتقدوه في كونه يُدنِي عبدَ الله بن عباس رضي الله عنهما مع صِغَر سِنِّه ولا يُدنِي أمثالَه من شباب المسلمين، وعمر رضي الله عنه مِن أَعْدل الخلفاء الراشدين، أراد أن يُبَيِّن للناس أنه لم يُحابِ ابنَ عباسٍ في شيء، فجَمَعَ كبار المهاجرين والأنصار في يومٍ من الأيام ومعهم عبد الله بن عباس وقال لهم: ما تقولون في هذه السورة: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾؟ ففسَّروها بحسب ما يظهر فقط، فقال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: يا أمير المؤمنين، هذا أَجَلُ رسولِ الله ﷺ؛ المعنى: كأنَّ الله يقول له: إذا جاء نصرُ اللهِ والفتحُ ورأيتَ الناسَ يدخلون في دِين اللهِ أفواجًا فقد انتهتْ مُهِمَّتُك ولم يَبْقَ عليك إلا الرحيل، وأنت ما خُلِقْتَ للدنيا لتتنعَّمَ فيها وتبقى فيها طويلًا، خُلِقْتَ لمهمَّةٍ انتهتْ، فهو أَجَلُ رسولِ الله ﷺ، فقال: واللهِ ما أعلمُ منها إلا ما تعلم[[أخرج البخاري (٣٦٢٧) بسنده عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُدني ابنَ عباس، فقال له عبد الرحمن بن عوف: إنَّ لنا أبناءً مثله. فقال: إنه من حيث تعلم. فسأل عمرُ ابنَ عباس عن هذه الآية: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾، فقال: أجَلُ رسولِ الله ﷺ أَعْلمه إيَّاه. قال: ما أعلم منها إلا ما تعلم.]]. فتبيَّن بذلك فَضْلُ ابن عباسٍ وتميُّزُه، وأنَّ عنده من الذكاء والمعرفة بمراد الله عز وجل ما افتقده كثيرٌ من الناس.
«لَمَّا نزلتْ هذه السورة جَعَلَ رسولُ الله ﷺ الذي هو أشدُّ الناسِ عبادةً لله وأتقاهم لله، جَعَلَ يُكْثر أنْ يقول في ركوعه وسجوده: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»[[أخرج مسلم (٤٨٤ / ٢١٨) بسنده عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول قبل أن يموت: «سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك». قالت: قلت يا رسول الله، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتَها تقولها؟ قال: «جُعِلت لي علامةٌ في أمَّتي إذا رأيتُها قلتُها؛ ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ » إلى آخر السورة.]].
فنقول: سُبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدك، اللهمَّ اغفِرْ لنا ذُنُوبَنا، وإسرافَنا في أمْرِنا، وثَبِّتْ أقدامَنا، وانصُرنا على القوم الكافرين.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["إِذَا جَاۤءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ","وَرَأَیۡتَ ٱلنَّاسَ یَدۡخُلُونَ فِی دِینِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجࣰا","فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا"],"ayah":"إِذَا جَاۤءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ"}