الباحث القرآني

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. نفتتح هذا اللِّقاء بما انتهينا إليه من تفسير جُزءِ سورة النبأ حيث وصلْنا إلى سورة التكاثر. يقول الله عز وجل: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ [التكاثر ١، ٢] هذه الجملة جملةٌ خبريَّة يُخبر الله عز وجل بها العباد مخاطبًا لهم يقول: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، ومعنى ﴿أَلْهَاكُمُ﴾ أي: شَغَلَكم حتى لَهَوْتم عمَّا هو أهمُّ من ذِكْر الله تعالى والقيام بطاعته، والخطاب هنا لجميع الأُمَّة، إلا أنه يُخصَّص بمن شَغَلَتْهم أمور الآخرة عن أمور الدنيا وهُم قليل، وإنما نقول: هُم قليل؛ لأنه ثَبَت في الصحيحين «أنَّ الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة: «يَا آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِئَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ»[[أخرج البخاري (٤٧٤١) واللفظ له، ومسلم (٢٢٢ / ٣٧٩)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم. يقول: لبَّيك ربَّنا وسعدَيْك. فيُنادى بصوت: إنَّ الله يأمرك أن تُخرِج من ذرِّيتك بعثًا إلى النار. قال: يا رب، وما بعثُ النار؟ قال: من كل ألفٍ -أراه قال- تسع مئة وتسعة وتسعين...» الحديث.]]. واحدٌ في الجنَّة والباقي في النار، وهذا عددٌ هائلٌ؛ إذا لم يكن من بني آدم إلا واحدٌ من الألْف من أهل الجنة والباقون من أهل النار إذَنْ فالخطاب بالعموم في مِثْل هذه الآية جارٍ على أَصْله؛ لأن الواحد من الألْف ليس بشيء بالنسبة إليه. وأمَّا قوله: ﴿التَّكَاثُرُ﴾ فهو يشمل التكاثر بالمال، والتكاثر بالقبيلة، والتكاثر بالجاه، والتكاثر بالعلم، وبكلِّ ما يمكن أن يقع فيه التفاخر، ويدلُّ لذلك قولُ صاحب الجنة لصاحبه: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف ٣٤]، فالإنسان قد يتكاثر بماله فيطلب أن يكون أكثر من الآخَر مالًا وأوسعَ تجارةً، وقد يتكاثر الإنسانُ بقبيلته يقول: نحن أكثر منهم عددًا، كما قال الشاعر: ؎وَلَسْتَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى ∗∗∗ وَإِنَّمَـــــــــا الْــعِـــــــــزَّةُلِلْـــــكَــــــــاثِرِ (أَكْثر منهم حصًى) لأنهم كانوا فيما سبق يعدُّون الأشياء بالحصى؛ فمَثَلًا: إذا كان هؤلاء حصاهم عشرة آلاف، والآخَرون حصاهم ثمانية آلاف صار الأول أيش؟ أَكْثرَ وأَعَزَّ، فيقول الشاعر: ؎وَلَسْتَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى ∗∗∗ وَإِنَّمَـــــــا الْـــعِــــــــزَّةُلِلْــــكَـــــــاثِرِ كذلك يتكاثر الإنسانُ بالعِلم فتجده يَفْخر على غيره بالعِلم، لكنْ إنْ كان بالعلم الشرعي فهو خير، وإنْ كان بالعلم غير الشرعي فهو إمَّا مباحٌ وإمَّا محرَّمٌ، المهم أنَّ مِمَّا يقع فيه التكاثر العِلم، وهذا هو الغالب على بني آدم؛ التكاثر، فيتكاثرون في هذه الأمور عمَّا خُلِقوا له من عبادة الله عز وجل. وقوله: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ يعني: إلى أن زُرْتم المقابر؛ يعني: إلى أن متُّم، فالإنسانُ مجبولٌ على التكاثر إلى أن يموت، بلْ كلَّما ازداد به الكِبَر ازداد به الأَمَل، فهو يشيبُ في السِّنِّ ويشبُّ في الأَمَل، حتى إن الرجل له تسعون سَنَةً مثلًا تجد عنده من الآمال وطول الأَمَل ما ليس عند الشابِّ الذي له خمس عشرة سَنَة، هذا هو معنى الآية الكريمة؛ أي: إنَّكم تَلَهَّيتم بالتكاثُر عن الآخرة إلى أن متُّم. وقيل: إن معنى ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ حتى أصبحتم تتكاثرون بالأموات كما تتكاثرون بالأحياء، فيأتي إنسانٌ ويقول: أنا قبيلتي أكثرُ من قبيلتك، وإذا شئتَ فاذهبْ إلى القبور، عُدَّ القبورَ مِنَّا وعُدَّ القبورَ منكم، فأيُّنا أكثر؟ لكن هذا قولٌ ضعيفٌ بعيدٌ من سياق الآية، والمعنى الأول هو الصحيح، أنه أيش؟ أنَّكم تتكاثرون إلى أن تموتوا. وقوله: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ استدلَّ به عمر بن عبد العزيز رحمه الله على أن الزائر لا بدَّ أن يرجع إلى وطنه، وأنَّ القبور ليست بدار إقامة، وكذلك يُذكَر عن بعض الأعراب أنه سمع قارئًا يقرأ: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾، فقال: واللهِ لَنُبْعَثَنَّ. لماذا؟ لأن الزائر كما هو معروف يزور ويرجع، فقال: واللهِ لَنُبْعَثَنَّ. وهذا هو الحق، وبهذا نعرف أن ما يذكره بعض الناس الآن في الجرائد وغيرها يقول عن الرجل إذا مات: إنه انتقل إلى مثواه الأخير، أنَّ هذا كلامٌ باطلٌ وكَذِبٌ؛ لأن القبور ليس هي المثوى الأخير، بل لو أن الإنسان اعتقد مدلولَ هذا اللفظ لصار أيش؟ كافرًا بالبعث، والكفر بالبعث رِدَّةٌ عن الإسلام، لكن كثيرًا من الناس يأخذون الكلمات على عواهنها ولا يدرون ما معناها، ولعل هذه موروثةٌ عن الملحدين الذين لا يُقِرُّون بالبعث بعد الموت.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب