الباحث القرآني

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. نبتدئ هذا اللقاء بما يسَّر الله تعالى من تفسير سورة العاديات. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (١) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ [العاديات ١ - ٥] إلى آخِر السورة. ولا يخفى على الجميع أن هذا قَسَمٌ: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾، وأنَّ ﴿الْعَادِيَاتِ﴾ صِفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، فما هو هذا الموصوف؟ هل المراد الخيل؛ يعني: والخيلِ العاديات، أو المراد الإبل؛ يعني: والإبلِ العاديات؟ في هذا قولانِ للمفسرين: فمنهم مَن قال: إن الموصوف هي الإبل، والتقدير: والإبلِ العاديات، ويعني بها الإبلَ التي تعدو من عرفة إلى مزدلفة ثم إلى مِنى، وذلك في مناسك الحج، واستدلُّوا لهذا: بأن هذه السورة مكِّية، وأنه ليس في مكَّة جهادٌ على الخيل حتى يُقسَم بها. أمَّا القول الثاني من جمهور المفسرين -وهو الصحيح- فإنَّ المحذوف هو الخيل، والتقدير: والخيلِ العاديات. والخيلُ العادياتُ معلومةٌ للعرب حتى قبل مشروعيَّة الجهاد؛ هناك خيلٌ تعدو على أعدائها سواء بحقٍّ وبغير حقٍّ فيما قبل الإسلام، أمَّا بعد الإسلام فالخيل تعدو على أعدائها بحقٍّ. يقول الله تعالى: ﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾ والعادِي اسمُ فاعلٍ من العَدْو، وهو سرعة المشي والانطلاق. وقوله: ﴿ضَبْحًا﴾ الضَّبْح: ما يُسمع من أجواف الخيل حين تعدو بسرعةٍ، يكون لها صوتٌ يخرج من صدورها، وهذا يدلُّ على قوة سَعْيها وشِدَّته. ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾ ﴿الْمُورِيَاتِ﴾ مِن (أَوْرَى) بمعنى قَدَح، ويعني بذلك قَدْحَ النارِ حينما يضرب الأحجارُ بعضها بعضًا، كما هو مشهورٌ عندنا في حَجَر المرْوِ؛ فإنك إذا ضربْتَ بعضَه ببعض انقَدَحَ. هذه الإبل لقوَّةِ سَعْيها وشِدَّته وضَرْبها الأرضَ إذا ضربت الحجرَ ضربت الحجرَ الثاني، يضرب الحجرَ الثاني ثم يشعط نارًا؛ وذلك لقوَّتها وقوَّة سَعْيها وضربها الأرض، ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾. ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ أي: فالتي تُغِير صباحًا على العدُوِّ، وهذا أحسن وقتٍ يُغار به على العدُوِّ .. ﴿الْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ أي: التي تُغير على عدُوِّها في الصباح، وهذا أحسن ما يكون إغارةً على العدُوِّ أن يكون في الصباح؛ لأنه في غفلةٍ ونوم، وحتى لو استيقظ من الغارة فسوف يكون على كَسَلٍ وعلى إعياء، فاختار الله عز وجل للقَسَم بهذه الخيول أحسن وقتٍ للإغارة وهو الصباح، «وكان النبي ﷺ لا يُغير على قوم في الليل، بلْ ينتظر، فإذا أصبحَ إنْ سَمِعَ أذانًا كفَّ وإلَّا أغارَ»[[أخرج البخاري (٦١٠) عن أنس بن مالك أنَّ النبي ﷺ كان إذا غَزَا بنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإنْ سمع أذانًا كفَّ عنهم، وإنْ لم يسمع أذانًا أغارَ عليهم. قال: فخرجْنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلًا، فلمَّا أصبح ولم يسمع أذانًا ركب، وركبتُ خلف أبي طلحة وإنَّ قدمي لَتمسُّ قدم النبي ﷺ. قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا النبيَّ ﷺ قالوا: محمدٌ واللهِ، محمدٌ والخميسُ. قال: فلمَّا رآهم رسول الله ﷺ قال: «الله أكبر، الله أكبر، خربتْ خيبر، إنَّا إذا نزلْنا بساحة قومٍ فساء صباحُ المنذَرين».]].﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا﴾ أي: أَثَرْنَ بهذا العَدْوِ وهذه الإغارةِ ﴿نَقْعًا﴾ وهو الغُبار الذي يَثُور من شِدَّة السعي، فإن الخيل إذا سَعَتْ إذا اشتدَّ عَدْوُها في الأرض صار لها غُبار من الكَرِّ والفَرِّ. ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ أي: توسَّطْنَ بهذا الغُبارِ ﴿جَمْعًا﴾ أي: جُمُوعًا من الأعداء؛ أيْ إنها ليس لها غايةٌ ولا تنتهي غايتُها إلا وسط الأعداء، وهذا غايةُ ما يكون من منافع الخيل، مع أنَّ الخيل كلَّها خيرٌ كما قال النبي ﷺ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٨٥٠)، ومسلم (١٨٧٣ / ٩٨)، من حديث عروة بن الجعد البارقي رضي الله عنه.]]. أقْسَمَ الله تعالى بهذه العاديات؛ بهذه الخيل التي بَلَغَت الغاية، وهي الإغارة على العدُوِّ، وتوسُّط العدُوِّ من غير خوفٍ ولا تعبٍ ولا مَلَل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب