يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْهمْ﴾ أَيْ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ ﴿مَنْ يَلْمِزُكَ﴾ أَيْ: يَعِيبُ عَلَيْكَ ﴿فِي﴾ قَسْم ﴿الصَّدَقَاتِ﴾ إِذَا فَرَّقْتَهَا، وَيَتَّهِمُكَ فِي ذَلِكَ، وَهُمُ الْمُتَّهَمُونَ [[في ت: "المبهمون".]] الْمَأْبُونُونَ، وَهُمْ مَعَ هَذَا لَا يُنْكِرُونَ لِلدِّينِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ لِحَظِّ أَنْفُسِهِمْ؛ وَلِهَذَا إِنْ ﴿أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ أَيْ: يَغْضَبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ.
قَالَ ابْنِ جُرَيْج: أَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِصَدَقَةٍ، فَقَسَمَهَا هَاهُنَا وَهَاهُنَا حَتَّى ذَهَبَتْ. قَالَ: وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: مَا هَذَا بِالْعَدْلِ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ يَقُولُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْعَنُ عَلَيْكَ فِي الصَّدَقَاتِ. وذُكر لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ [أَهْلِ] [[زيادة من ت، ك، أ.]] الْبَادِيَةِ حديثَ عَهْدٍ بِأَعْرَابِيَّةٍ، أَتَى رَسُولَ [[في أ: "نبي".]] اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَقْسِمُ ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَعْدِلَ، مَا عَدَلْتَ. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: "وَيْلَكَ فَمَنْ ذَا يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي". ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: "احْذَرُوا هَذَا وَأَشْبَاهَهُ، فَإِنَّ فِي أُمَّتِي أَشْبَاهَ هَذَا، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ [[في ت: "لا يتجاوز"]] تَرَاقيَهم، فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ". وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُعْطِيكُمْ شَيْئًا وَلَا أَمْنَعُكُمُوهُ، إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ".
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَتَادَةُ شَبِيهٌ بِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ [[في ت، أ: "أبي سالم".]] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ ذِي الخُوَيصرة -وَاسْمُهُ حُرْقوص -لَمَّا اعْتَرَضَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ حِينَ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ: اعْدِلْ، فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ. فَقَالَ: "لَقَدْ خِبتُ وخسرتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ رَآهُ مُقَفِّيًا [[في ت، أ: "مقتفيا".]] إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئ هَذَا قَوْمٌ يحقرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهِ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوق السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّة، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ" وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ [[صحيح البخاري برقم (٣٦١٠) وصحيح مسلم برقم (١٠٦٤) .]]
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّها لَهُمْ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ لَهُمْ، فَقَالَ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَدَبًا عَظِيمًا وَسِرًّا شَرِيفًا، حَيْثُ جَعَلَ الرِّضَا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ وَكَذَلِكَ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ فِي التَّوْفِيقِ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ، وَالِاقْتِفَاءِ بآثاره.
{"ayahs_start":58,"ayahs":["وَمِنۡهُم مَّن یَلۡمِزُكَ فِی ٱلصَّدَقَـٰتِ فَإِنۡ أُعۡطُوا۟ مِنۡهَا رَضُوا۟ وَإِن لَّمۡ یُعۡطَوۡا۟ مِنۡهَاۤ إِذَا هُمۡ یَسۡخَطُونَ","وَلَوۡ أَنَّهُمۡ رَضُوا۟ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَقَالُوا۟ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ سَیُؤۡتِینَا ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥۤ إِنَّاۤ إِلَى ٱللَّهِ رَ ٰغِبُونَ"],"ayah":"وَمِنۡهُم مَّن یَلۡمِزُكَ فِی ٱلصَّدَقَـٰتِ فَإِنۡ أُعۡطُوا۟ مِنۡهَا رَضُوا۟ وَإِن لَّمۡ یُعۡطَوۡا۟ مِنۡهَاۤ إِذَا هُمۡ یَسۡخَطُونَ"}