الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ ؟ فَإِنَّهَا خَلق عَجِيبٌ، وَتَرْكِيبُهَا غَرِيبٌ، فَإِنَّهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَلِينُ لِلْحَمْلِ الثَّقِيلِ، وَتَنْقَادُ لِلْقَائِدِ الضَّعِيفِ، وَتُؤْكَلُ، وَيُنْتَفَعُ بِوَبَرِهَا، وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا. وَنُبِّهُوا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ غَالِبُ دَوَابِّهِمْ كَانَتِ الْإِبِلُ، وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَقُولُ: اخْرُجُوا بِنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ؟ أَيْ: كَيْفَ رَفَعَهَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنِ الْأَرْضِ هَذَا الرَّفْعَ الْعَظِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [ق:٦] ﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ أَيْ: جُعِلَتْ مَنْصُوبَةً قَائِمَةً ثَابِتَةً رَاسِيَةً لِئَلَّا تَمِيدَ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا، وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَعَادِنِ. ﴿وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ ؟ أَيْ: كَيْفَ بُسِطَتْ وَمُدَّتْ وَمُهِّدَتْ، فنبَّه الْبَدَوِيَّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ بَعِيرِهِ الَّذِي هُوَ رَاكِبٌ عَلَيْهِ، وَالسَّمَاءِ الَّتِي فَوْقَ رَأْسِهِ، وَالْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَهُ، وَالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهُ-عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِ ذَلِكَ وَصَانِعِهِ، وَأَنَّهُ الرَّبُّ الْعَظِيمُ الْخَالِقُ الْمُتَصَرِّفُ الْمَالِكُ، وَأَنَّهُ الْإِلَهُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ. وَهَكَذَا أَقْسَمَ "ضِمَام" فِي سُؤَالِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُ أَتَانَا رسولُك فزعَم لَنَا أَنَّكَ تَزعُم أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ. قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: "اللَّهُ". قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: "اللَّهُ". قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: "اللَّهُ". قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، آللهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رسولُك أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا. قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا؟ قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟. قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: ثُمَّ وَلَّى فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ شَيْئًا. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِنَّ صَدَقَ ليدخُلَنّ الْجَنَّةَ". وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، بِهِ [[المسند (٣/١٤٣) وصحيح مسلم برقم (١٢) .]] وعَلّقه الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ [[صحيح البخاري (١/١٤٨) "فتح" وسنن الترمذي برقم (٦١٩) وسنن النسائي الكبرى برقم (٢٤٠١) .]] وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عن شريك ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ بِطُولِهِ [[المسند (٣/١٦٨) وصحيح البخاري برقم (٦٣) وسنن أبي داود برقم (٤٨٦) وسنن النسائي الكبرى برقم (٢٤٠٢) وسنن ابن ماجة برقم (١٤٠٢) .]] وَقَالَ فِي آخِرِهِ: "وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ". وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا مَا كَانَ يُحَدِّثُ عَنِ امْرَأَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، مَعَهَا ابْنٌ لَهَا تَرْعَى غَنَمًا، فَقَالَ لَهَا ابْنُهَا: يَا أُمَّهْ، مَنْ خَلَقَكِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ أَبِي؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَنِي؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْجَبَلَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ هَذِهِ الْغَنَمَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: إِنِّي لَأَسْمَعُ لِلَّهِ شَأْنًا. وَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ فَتَقَطَّعَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُنَا هَذَا. قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُنَا بِهَذَا [[ورواه ابن عدي في الكامل (٤/١٧٨) عن أبي يعلى به مثله. وقال: "غير محفوظ، لا يحدث به عن ابن دينار غير عبد الله بن جعفر".]] . فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ الْمَدِينِيُّ، ضَعّفه وَلَدُهُ الْإِمَامُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلِهِ: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ أَيْ: فَذَكِّرْ-يَا مُحَمَّدُ-النَّاسَ بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمَا: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَسْتَ بِالَّذِي تُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ "الْإِيمَانِ"، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيِ [[في أ: "في كتاب".]] التَّفْسِيرِ" مِنْ سُنَنَيْهِمَا، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ، بِهِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ [[المسند (٣/٣٠٠) وصحيح مسلم برقم (٢١) وسنن الترمذي برقم (٣٣٤١) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٧٠) .]] وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِدُونِ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ [[صحيح البخاري برقم (٢٩٤٦) وصحيح مسلم برقم (٢١) .]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾ أَيْ: تَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِأَرْكَانِهِ، وَكَفَرَ بِالْحَقِّ بِجِنَانِهِ وَلِسَانِهِ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [الْقِيَامَةِ: ٣١، ٣٢] وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ﴾ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَالِدٍ [[في أ: "علي بن أبي خالد" والمثبت من "م" والمسند.]] أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ مَرَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَلْيَنِ كَلِمَةٍ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "أَلَا كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، إِلَّا مَنْ شَرَد عَلَى اللَّهِ شَراد الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ". تَفَرَّدَ [[في م: "انفرد".]] بِإِخْرَاجِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ [[المسند (٥/٢٥٨) .]] وَعَلِيُّ بْنُ خَالِدٍ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى مَا هَاهُنَا: "رَوَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَعَنْهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ" [[الجرح والتعديل (٦/١٨٤) وقد ذكر الهيثمي في المجمع (١٠/٤٠٣) "أنه ثقة".]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾ أَيْ: مَرْجِعَهُمْ وَمُنْقَلَبَهُمْ ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ أَيْ: نَحْنُ نُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَنُجَازِيهِمْ بِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًا فَشَرٌّ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الْغَاشِيَةِ" ولله الحمد والمنة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب