قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، يَقُولُونَ: نَطُوفُ كَمَا وَلَدَتْنَا أُمَّهَاتُنَا. فَتَضَعُ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا النِّسْعَةَ، أَوِ الشَّيْءَ وَتَقُولُ:
الْيَوْمَ يبدُو بعضُه أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدا مِنْهُ فَلَا أحلّهُ ...
فَأَنْزَلَ اللَّهُ [تَعَالَى] [[زيادة من ك.]] ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ الْآيَةَ. [[تفسير الطبري (١٢/٣٧٧) .]]
قُلْتُ: كَانَتِ الْعَرَبُ -مَا عَدَا قُرَيْشًا -لَا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فِي ثِيَابِهِمُ الَّتِي لَبِسُوهَا، يَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَطُوفُونَ فِي ثِيَابٍ عَصَوُا اللَّهَ فِيهَا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ -وَهُمُ الحُمْس -يَطُوفُونَ فِي ثِيَابِهِمْ، وَمَنْ أَعَارَهُ أَحْمَسِيٌّ ثَوْبًا طَافَ فِيهِ، وَمِنْ مَعَهُ ثَوْبٌ جَدِيدٌ طَافٍ فِيهِ ثُمَّ يُلْقِيهِ فَلَا يَتَمَلَّكُهُ أَحَدٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا جَدِيدًا وَلَا أَعَارَهُ أَحْمَسِيٌّ ثَوْبًا، طَافَ عُرْيَانًا. وَرُبَّمَا كَانَتِ امْرَأَةً فَتَطُوفُ عُرْيَانَةً، فَتَجْعَلُ عَلَى فَرْجِهَا شَيْئًا يَسْتُرُهُ بَعْضُ الشيء وتقول:
اليوم يبدُو بعضُه أو كله ... وَمَا بدَا مِنْهُ فَلَا أحلّهُ ...
[[البيت منسوب لضباعة بنت عامر بن قرط، وله قصة ذكرها ابن حبيب البغدادي في المنمق (ص٢٧٠)]]
وَأَكْثَرُ مَا كَانَ النِّسَاءُ يَطُفْنَ [عُرَاةً] [[زيادة من ك، م.]] بِاللَّيْلِ، وَكَانَ هَذَا شَيْئًا قَدِ ابْتَدَعُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَاتَّبَعُوا فِيهِ آبَاءَهُمْ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِعْلَ آبَائِهِمْ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَشَرْعٍ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ فَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: ﴿قُلْ﴾ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ أَيْ: هَذَا الَّذِي تَصْنَعُونَهُ فَاحِشَةٌ مُنْكَرَةٌ، وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: أَتُسْنِدُونَ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا لَا تَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ أَيْ: بِالْعَدْلِ وَالِاسْتِقَامَةِ، ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾
أَيْ: أَمَرَكُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي عِبَادَتِهِ فِي مَحَالِّهَا، وَهِيَ مُتَابَعَةُ الْمُرْسَلِينَ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ [تَعَالَى] [[زيادة من أ.]] وَمَا جَاءُوا بِهِ [عَنْهُ] [[زيادة من ك.]] مِنَ الشَّرَائِعِ، وَبِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ حَتَّى يَجْمَعَ هَذَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: أَنْ يَكُونَ صَوَابًا مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ خَالِصًا مِنَ الشِّرْكِ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون. [فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ] [[زيادة من ك، أوفي هـ: "إلى قوله".]] الضَّلالَة﴾ [[زيادة من أ.]] -اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى [قَوْلِهِ تَعَالَى] ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ فَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ يُحْيِيكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَمَا بَدَأَكُمْ فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ تَعُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءً.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ قَالَ: بَدَأَ فَخَلَقَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا، ثُمَّ ذَهَبُوا، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلًا كَذَلِكَ يُعِيدُكُمْ آخِرًا.
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَأَيَّدَهُ بِمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ [[في أ: "محشورون".]] إِلَى اللَّهِ حُفَاة عُرَاة غُرْلا ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٤] .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ -أَيْضًا -مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ بِهِ. [[تفسير الطبري (١٢/٣٨٦) وصحيح البخاري برقم (٤٦٢٥) وصحيح مسلم برقم (٢٨٦٠) .]]
وَقَالَ وقَاء بْنُ إِيَاسٍ أَبُو يَزِيدَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ قَالَ: يُبْعَثُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا، وَالْكَافِرُ كَافِرًا.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ رُدُّوا إِلَى عِلْمِهِ فِيهِمْ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ كَمَّا كَتَبَ عَلَيْكُمْ تَكُونُونَ -وَفِي رِوَايَةٍ: كَمَا كُنْتُمْ تَكُونُونَ عَلَيْهِ تَكُونُونَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ مَنِ ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَهُ عَلَى الشَّقَاوَةِ صَارَ إِلَى مَا ابْتُدِئَ عَلَيْهِ خَلْقُهُ، وَإِنْ عَمِلَ بِأَعْمَالِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، كَمَا أَنَّ إِبْلِيسَ عَمِلَ بِأَعْمَالِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى مَا ابْتُدِئَ عَلَيْهِ خَلْقُهُ. وَمَنِ ابتُدئ خَلْقُهُ عَلَى السَّعَادَةِ، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه، إن عَمِلَ بِأَعْمَالِ أَهَّلِ الشَّقَاءِ، كَمَا أَنَّ السَّحَرَةَ عَمِلَتْ [[في أ: "عملوا".]] بِأَعْمَالِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى ما ابتدئوا عليه.
وَقَالَ السُّدِّي: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾ يَقُولُ: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ، فَرِيقٌ مُهْتَدُونَ وَفَرِيقٌ ضُلَّالٌ، كَذَلِكَ تَعُودُونَ وَتُخْرَجُونَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس قَوْلُهُ: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ خَلْقَ ابْنِ آدَمَ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] [[زيادة من أ.]] ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التَّغَابُنِ: ٢] ثُمَّ يُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا بَدَأَهُمْ [[في ك، أ: "بدأ خلقهم".]] مُؤْمِنًا وَكَافِرًا.
قُلْتُ: وَيَتَأَيَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ -أَوْ: ذِرَاعٌ -فَيَسْبِقُ [[في ك: "ويسبق".]] عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلَهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ -أَوْ: ذِرَاعٌ -فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ" [[صحيح البخاري برقم (٣٢٠٨) .]]
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ البَغَوي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْد، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّان، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ الْعَبْدَ لِيَعْمَلُ -فِيمَا يَرَى النَّاسُ -بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَإِنَّهُ لِيَعْمَلُ -فِيمَا يَرَى النَّاسُ -بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ" [[ورواه البغوي في تفسيره (٣/٢٢٤) من طريق عبد الرحمن بن أبي شريح، عن أبي القاسم البغوي به.]]
هَذَا قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرَّف الْمَدَنِيِّ، فِي قِصَّةِ "قُزْمان" يَوْمَ أُحُدٍ [[صحيح البخاري برقم (٦٦٠٧، ٦٤٩٣) .]]
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "تُبْعَثُ كُلُّ نَفْسٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ. وَلَفْظُهُ: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ" [[تفسير الطبري (١٢/٣٨٤) وصحيح مسلم برقم (٢٨٧٨) وسنن ابن ماجة برقم (٤٢٣٠) .]]
قُلْتُ: وَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ -إِنْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ -وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الرُّومِ: ٣٠] وَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه" [[صحيح البخاري برقم (١٣٨٥) وصحيح مسلم برقم (٢٦٥٨) .]] وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عِياض بْنِ حمَار [[في أ: "حماد".]] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاء، فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دينهم" الحديث. ووجه الْجَمْعِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ مِنْهُمْ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، فِي ثَانِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَطَرَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، كَمَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْمِيثَاقَ، وَجَعَلَهُ فِي غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا قَدَّرَ أَنَّ [[في ك: "أن يكون".]] مِنْهُمْ شَقِيًّا وَمِنْهُمْ سَعِيدًا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التَّغَابُنِ: ٢] وَفِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقها" [[قطعة من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٢٣) من حديث أبي مالك الأشعري.]] وَقَدَرُ اللَّهِ نَافِذٌ فِي بَرَيَّتِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ ﴿الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الْأَعْلَى: ٣] وَ ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: ٥٠] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ"؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ] ﴾ [[زيادة من د، ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".]]
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا مِنْ أَبِينِ الدَّلَالَةِ عَلَى خَطَأِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ رَكِبَهَا أَوْ ضَلَالَةٍ اعْتَقَدَهَا، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهَا بَعْدَ عِلْمٍ مِنْهُ بِصَوَابِ وَجْهِهَا، فَيَرْكَبَهَا عِنَادًا مِنْهُ لِرَبِّهِ فِيهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَ فَرِيقِ الضَّلَالَةِ الَّذِي ضَلَّ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ هَادٍ، وَفَرِيقِ الْهُدَى، فَرْقٌ. وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ أَسْمَائِهِمَا وَأَحْكَامِهِمَا في هذه الآية [الكريمة] [[زيادة من ك، أ.]]
{"ayahs_start":28,"ayahs":["وَإِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةࣰ قَالُوا۟ وَجَدۡنَا عَلَیۡهَاۤ ءَابَاۤءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَاۤءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ","قُلۡ أَمَرَ رَبِّی بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَقِیمُوا۟ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَۚ كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ","فَرِیقًا هَدَىٰ وَفَرِیقًا حَقَّ عَلَیۡهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُۚ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا۟ ٱلشَّیَـٰطِینَ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَیَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ"],"ayah":"وَإِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةࣰ قَالُوا۟ وَجَدۡنَا عَلَیۡهَاۤ ءَابَاۤءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَاۤءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ"}