الباحث القرآني

قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا [مَنَعَكَ] [[زيادة من أ.]] أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ لَا هَاهُنَا زَائِدَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ الْجَحْدِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَا إِنْ رأيتُ وَلَا سمعتُ بِمِثْلِهِ فَأَدْخَلَ "إِنْ" وَهِيَ لِلنَّفْيِ، عَلَى "مَا" النَّافِيَةِ؛ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ هَاهُنَا: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ﴾ مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ حَكَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ [[تفسير الطبري (١٢/٣٢٤) .]] وَرَدَّهُمَا، وَاخْتَارَ أَنَّ "مَنَعَكَ" تَضَمَّنَ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ تَقْدِيرُهُ: مَا أَحْوَجَكَ وَأَلْزَمَكَ وَاضْطَرَّكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ مِنَ الْعُذْرِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الذَّنْبِ، كَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ الْفَاضِلُ بِالسُّجُودِ لِلْمَفْضُولِ، يَعْنِي لَعَنَهُ اللَّهُ: وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِالسُّجُودِ لَهُ؟ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِمَّا خَلَقْتَهُ مِنْهُ، وَهُوَ الطِّينُ، فَنَظَرَ اللَّعِينُ إِلَى أَصْلِ الْعُنْصُرِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى التَّشْرِيفِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَقَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا فِي مُقَابَلَةِ نَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص:٧٢] فَشَذَّ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ بتَرْك السُّجُودِ؛ فَلِهَذَا [[في م: "ولهذا".]] أَبْلَسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، أَيْ: أَيِسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَأَخْطَأَ قَبَّحه اللَّهُ فِي قِيَاسِهِ وَدَعْوَاهُ أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ أَيْضًا، فَإِنَّ الطِّينَ مِنْ شَأْنِهِ الرَّزَانَةُ وَالْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ وَالتَّثَبُّتُ، وَالطِّينُ مَحَلُّ النَّبَاتِ وَالنُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ. وَالنَّارُ مِنْ شَأْنِهَا الْإِحْرَاقُ وَالطَّيْشُ وَالسُّرْعَةُ؛ وَلِهَذَا خَانَ إِبْلِيسَ عُنْصُرُهُ، وَنَفَعَ آدَمَ عُنْصُرُهُ فِي الرُّجُوعِ وَالْإِنَابَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِاعْتِرَافِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "خُلِقَت الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وخُلقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ" هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ [[صحيح مسلم برقم (٢٩٩٦) .]] . وَقَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، حدثنا نُعَيم ابن حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ [مَارِجٍ مِنْ] [[زيادة من أ.]] نَارٍ، وَخُلِقَ آدم مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ". قُلْتُ لِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ: أَيْنَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ؟ قَالَ: بِالْيَمَنِ [[رواه عبد الرزاق في المصنف برقم (٢٠٩٠٤) .]] وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: "وَخُلِقَتِ الْحُورُ الْعِينُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ" [[ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٨/٢٣٧) مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أبي أمامة، رضي الله عنه، وفي إسناده عبيد الله بن زحر، قال ابن حبان في المجروحين: "يروى الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن، لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم".]] . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ شَوْذَب، عَنْ مَطَرٍ الوَرَّاق، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ قَالَ: قَاسَ إِبْلِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ [[في أ: "الطائي".]] عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدت الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ [[تفسير الطبري (١٢/٣٢٨) .]] إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أَيْضًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب