هَذِهِ مُبَارَزَةٌ مِنَ السَّحَرَةِ لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي قَوْلِهِمْ: ﴿إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾ أَيْ: قَبْلك. كَمَا قَالَ [[في أ: "قالوا".]] فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ [طه:٦٥] فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿أَلْقُوا﴾ أَيْ: أَنْتُمْ أَوَّلًا قَبْلِي. وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -لِيَرَى النَّاسُ صَنِيعَهُمْ وَيَتَأَمَّلُوهُ، فَإِذَا فُرغ مِنْ بَهْرَجِهِمْ [[في أ: "بهرجتهم".]] وَمُحَالِهِمْ، جَاءَهُمُ الْحَقُّ الْوَاضِحُ الْجَلِيُّ بَعْدَ تَطَلُّبٍ لَهُ وَالِانْتِظَارِ مِنْهُمْ لِمَجِيئِهِ، فَيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ. وَكَذَا كَانَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ أَيْ: خَيَّلُوا إِلَى الْأَبْصَارِ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مُجَرَّدَ صَنْعَةٍ وَخَيَالٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه:٦٦: ٦٩] .
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْقَوْا حِبَالًا غِلَاظًا وَخُشُبًا طِوَالًا. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ يُخَيل إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: صَفّ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَاحِرٍ، مَعَ كُلِّ سَاحِرٍ حِبَالُهُ وَعِصِيُّهُ، وَخَرَجَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَعَهُ أَخُوهُ يَتَّكِئُ عَلَى عَصَاهُ، حَتَّى أَتَى الْجَمْعَ، وَفِرْعَوْنُ فِي مَجْلِسِهِ مَعَ أَشْرَافِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، ثُمَّ قَالَ السَّحَرَةُ: ﴿يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾ [طه:٦٥، ٦٦] فَكَانَ أَوَّلُ مَا اخْتَطَفُوا بِسِحْرِهِمْ بَصَرَ مُوسَى وَبَصَرَ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ أَبْصَارَ النَّاسِ بَعْدُ، ثُمَّ أَلْقَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ [[في ك، م، أ: "العصى والحبال".]] فَإِذَا حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ، قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِي يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَقَالَ السُّدِّي: كَانُوا بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ رَجُلٍ، لَيْسَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَمَعَهُ حَبْلٌ وَعَصًا، ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ يَقُولُ: فَرَقوهم أَيْ: مِنَ الفرَق.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّستَوَائي، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ابْنُ أَبِي بَزَّة قَالَ: جَمَعَ فِرْعَوْنُ سَبْعِينَ أَلْفَ سَاحِرٍ، فَأَلْقَوْا سَبْعِينَ أَلْفَ حَبْلٍ، وَسَبْعِينَ أَلْفَ عَصَا، حَتَّى جَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [[تفسير الطبري (١٣/٢٨) وهذا من أخبار أهل الكتاب التي لا فائدة من علمها.]] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾
{"ayahs_start":115,"ayahs":["قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِمَّاۤ أَن تُلۡقِیَ وَإِمَّاۤ أَن نَّكُونَ نَحۡنُ ٱلۡمُلۡقِینَ","قَالَ أَلۡقُوا۟ۖ فَلَمَّاۤ أَلۡقَوۡا۟ سَحَرُوۤا۟ أَعۡیُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ وَجَاۤءُو بِسِحۡرٍ عَظِیمࣲ"],"ayah":"قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِمَّاۤ أَن تُلۡقِیَ وَإِمَّاۤ أَن نَّكُونَ نَحۡنُ ٱلۡمُلۡقِینَ"}