يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ وَهَبَ لِإِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقَ، بَعْدَ أَنْ طَعَن فِي السِّنِّ، وَأَيِسَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ "سَارَةُ" مِنَ الْوَلَدِ، فَجَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، فَبَشَّرُوهُمَا بِإِسْحَاقَ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ [هُودٍ: ٧٢، ٧٣] ، وَبَشَّرُوهُ [[في م: "وبشروها".]] مَعَ وُجُودِهِ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِأَنَّ لَهُ نَسْلًا وعَقِبا، كَمَا قَالَ: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١١٢] ، وَهَذَا أَكْمَلُ فِي الْبِشَارَةِ، وَأَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ، وَقَالَ: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هُودٍ: ٧١] أَيْ: وَيُولَدُ لِهَذَا الْمَوْلُودِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا، فَتَقَرُّ أَعْيُنُكُمَا بِهِ كَمَا قَرَّتْ بِوَالِدِهِ، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِوَلَدِ الْوَلَدِ شَدِيدٌ لِبَقَاءِ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ، وَلَمَّا كَانَ وَلَدُ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَعْقب لِضَعْفِهِ، وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ وَبِوَلَدِهِ بَاسِمِ "يَعْقُوبَ"، الَّذِي فِيهِ اشْتِقَاقُ الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَكَانَ هَذَا مُجَازَاةً لِإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ اعْتَزَلَ قَوْمَهُ وَتَرَكَهُمْ، وَنَزَحَ عَنْهُمْ وَهَاجَرَ مِنْ بِلَادِهِمْ ذَاهِبًا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ بِأَوْلَادٍ صَالِحِينَ مِنْ صُلْبِهِ عَلَى دِينِهِ، لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] [[زيادة من أ.]] ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٤٩] ، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا﴾
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: مِنْ قَبْلِهِ، هَدَيْنَاهُ كَمَا هَدَيْنَاهُ، وَوَهَبْنَا لَهُ ذَرِّيَّةً صَالِحَةً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ خُصُوصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، أَمَّا نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ -وَهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي السَّفِينَةِ -جَعَلَ اللَّهُ ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَكَذَلِكَ الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بَعْدَهُ نَبِيًّا إِلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ الْآيَةَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٧] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الْحَدِيدِ: ٢٦] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٥٨] .
* * *
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ﴾ أَيْ: وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴿دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ﴾ الْآيَةَ، وُعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى "نُوحٍ"؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ، ظَاهِرٌ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جرير، ولا إشكال عليه. وعوده إِلَى "إِبْرَاهِيمَ"؛ لِأَنَّهُ الَّذِي سَبَقَ الْكَلَامُ مِنْ أَجْلِهِ حَسَنٌ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ "لُوطٌ"، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ "إِبْرَاهِيمَ"، بَلْ هُوَ ابْنُ أَخِيهِ مَادَانَ بْنِ آزَرَ؛ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ دَخَلَ فِي الذُّرِّيَّةِ تَغْلِيبًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٣٣] ، فَإِسْمَاعِيلُ عَمُّهُ، وَدَخَلَ فِي آبَائِهِ تَغْلِيبًا.
[وَكَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ﴾ [الْحِجْرِ: ٣٠، ٣١] فَدَخَلَ إِبْلِيسُ فِي أَمْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ، وَذُمَّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَشَبَّهَ بِهِمْ، فَعُومِلَ مُعَامَلَتَهُمْ، وَدَخَلَ مَعَهُمْ تَغْلِيبًا، وَكَانَ مِنَ الْجِنِّ وَطَبِيعَتُهُمُ النَّارُ وَالْمَلَائِكَةُ مِنَ النُّورِ] [[زيادة من م، أ.]]
وَفِي ذِكْرِ "عِيسَى"، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي ذُرِّيَّةِ "إِبْرَاهِيمَ" أَوْ "نُوحٍ"، عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ دَلَالَةٌ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبَنَاتِ فِي ذُرِّيَّةِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ "عِيسَى"، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى "إِبْرَاهِيمَ"، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِأُمِّهِ "مَرْيَمَ" عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَا أَبَ لَهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يَحْيَى الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحمن بن صالح، حدثنا علي ابن عَابِسٍ [[في أ: "عباس".]] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: أَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَعْمُر فَقَالَ: بَلَغَني أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ قَرَأْتُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ؟ قَالَ: أَلَيْسَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْأَنْعَامِ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿وَيَحْيَى وَعِيسَى﴾ ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَيْسَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ؟ قَالَ: صَدَقْتَ.
فَلِهَذَا إِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِذَرِّيَّتِهِ، أَوْ وَقَفَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ أَوْ وَهَبَهُمْ، دَخَلَ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِيهِمْ، فَأَمَّا إِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ بَنِيهِ أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ بَنَوْهُ لِصُلْبِهِ وَبَنُو بَنِيهِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ الْعَرَبِيِّ:
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ [[ذكره ابن عقيل في شواهده على ألفية ابن مالك برقم (٥١) . وعنده "الأباعد" بدل "الأجانب".]]
وَقَالَ آخَرُونَ: وَيَدْخُلُ بَنُو الْبَنَاتِ فِيهِ أَيْضًا، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [[صحيح البخاري برقم (٢٧٠٤) من حديث أبي بكرة، رضي الله عنه.]] فَسَمَّاهُ ابْنًا، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْأَبْنَاءِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا تَجَوُّزٌ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾ ذَكَرَ أُصُولَهُمْ وَفُرُوعَهُمْ. وَذَوِي طَبَقَتِهِمْ، وَأَنَّ الْهِدَايَةَ وَالِاجْتِبَاءَ شَمَلَهُمْ كُلَّهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
ثُمَّ قَالَ: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ، ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ تَشْدِيدٌ لِأَمْرِ الشِّرْكِ، وَتَغْلِيظٌ لِشَأْنِهِ، وَتَعْظِيمٌ لِمُلَابَسَتِهِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] [[زيادة من أ.]] ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ الْآيَةَ [الزُّمَرِ: ٦٥] ، وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْوُقُوعِ، كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] [[زيادة من أ.]] ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٨١] ، وَكَقَوْلِهِ ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٧] وَكَقَوْلِهِ ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الزُّمَرِ: ٤] .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ أَيْ: أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ بِهِمْ، وَلُطْفًا مِنَّا بِالْخَلِيقَةِ، ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا﴾ أَيْ: بِالنُّبُوَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: الْكِتَابِ، وَالْحُكْمِ، وَالنُّبُوَّةِ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿هَؤلاءِ﴾ يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّب، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي. ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ أَيْ: إِنْ يَكْفُرْ بِهَذِهِ النِّعَمِ مَنْ كَفَرَ بِهَا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، مَنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ، وَمِلِّيِينَ وَكِتَابِيِّينَ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا ﴿آخَرِينَ﴾ يَعْنِي: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَأَتْبَاعَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ﴿لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ أَيْ: لَا يَجْحَدُونَ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا يَرُدُّونَ مِنْهَا حَرْفًا وَاحِدًا، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِهَا مُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ: ﴿أُولَئِكَ﴾ يَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ مَعَ مَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْآبَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْإِخْوَانِ وَهُمُ الْأَشْبَاهُ ﴿الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أَيْ: هُمْ أَهْلُ الْهِدَايَةِ لَا غَيْرُهُمْ، ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ أَيِ: اقْتَدِ وَاتَّبِعْ. وَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا لِلرَّسُولِ ﷺ، فَأُمَّتُهُ تَبَعٌ لَهُ فِيمَا يُشَرِّعُهُ [لَهُمْ] [[زيادة من أ.]] وَيَأْمُرُهُمْ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ، أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي (ص) سَجْدَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ ثُمَّ قَالَ: هُوَ مِنْهُمْ -زَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: نَبِيُّكُمْ ﷺ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدي بِهِمْ [[صحيح البخاري برقم (٤٦٣٢) .]]
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ أَيْ: لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ عَلَى إِبْلَاغِي إِيَّاكُمْ هَذَا الْقُرْآنَ ﴿أَجْرًا﴾ أَيْ: أُجْرَةً، وَلَا أُرِيدُ مِنْكُمْ شَيْئًا، ﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ أَيْ: يَتَذَكَّرُونَ بِهِ فَيُرْشَدُوا مِنَ الْعَمَى إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الْغَيِّ [[في أ: "العمى".]] إِلَى الرَّشَادِ، ومن الكفر إلى الإيمان.
{"ayahs_start":84,"ayahs":["وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَیۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَیۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّیَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ وَأَیُّوبَ وَیُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَۚ وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ","وَزَكَرِیَّا وَیَحۡیَىٰ وَعِیسَىٰ وَإِلۡیَاسَۖ كُلࣱّ مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ","وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَٱلۡیَسَعَ وَیُونُسَ وَلُوطࣰاۚ وَكُلࣰّا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ","وَمِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡ وَإِخۡوَ ٰنِهِمۡۖ وَٱجۡتَبَیۡنَـٰهُمۡ وَهَدَیۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ","ذَ ٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ یَهۡدِی بِهِۦ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَلَوۡ أَشۡرَكُوا۟ لَحَبِطَ عَنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَۚ فَإِن یَكۡفُرۡ بِهَا هَـٰۤؤُلَاۤءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمࣰا لَّیۡسُوا۟ بِهَا بِكَـٰفِرِینَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ قُل لَّاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَیۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَیۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّیَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ وَأَیُّوبَ وَیُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَۚ وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}