الباحث القرآني

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يُثِيبُ بِهِ المُصَّدقين والمُصَّدقات بِأَمْوَالِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ، ﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ أَيْ: دَفَعُوهُ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، لَا يُرِيدُونَ جَزَاءً مِمَّنْ أَعْطَوْهُ وَلَا شُكُورًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ﴾ أَيْ: يُقَابِلُ لَهُمُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَيَزْدَادُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَفَوْقَ ذَلِكَ ﴿وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ أَيْ: ثَوَابٌ جَزِيلٌ حَسَنٌ، وَمَرْجِعٌ صَالِحٌ وَمَآبٌ ﴿كَرِيمٌ﴾ * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ هَذَا تَمَامٌ لِجُمْلَةِ، وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بِأَنَّهُمْ صِدِّيقُونَ. قَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ هَذِهِ مَفْصُولَةٌ ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ . وَقَالَ أَبُو الضُّحَى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ فَقَالَ: ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وَهَكَذَا قَالَ مَسْرُوقٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ قَالَ: هُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: يَعْنِي الْمُصَدِّقِينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءَ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] [[زيادة من أ.]] تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النِّسَاءِ: ٦٩] فَفَرَّقَ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا صِنْفَانِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الصِّدِّيقَ أَعْلَى مَقَامًا مِنَ الشَّهِيدِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِهِ الْمُوَطَّإِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: "بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ". اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِهِ [[صحيح البخاري برقم (٣٢٥٦) وصحيح مسلم برقم (٢٨٣١)]] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بِأَنَّهُمْ صِدِّيقُونَ وَشُهَدَاءُ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مجاهد، ثم قال ابن جرير: حدثني صالح ابن حَرْبٍ أَبُو مَعْمَر، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنِ عَجْلان عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مُؤْمِنُو أُمَّتِي شُهَدَاءُ". قَالَ: ثُمَّ تَلَا ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [لَهُمْ أَجْرُهُمْ] ﴾ [[زيادة من م.]] هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ [[تفسير الطبري (٢٧/١٣٣) .]] وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ قَالَ: يجيؤون يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعًا كَالْإِصْبَعَيْنِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْر تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُحِبُّ أَنْ تَرُدَّنَا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا فَنُقَاتِلَ فِيكَ فَنَقْتُلَ كَمَا قُتِلنا أَوَّلَ مَرَّةٍ. فَقَالَ إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ" [[صحيح مسلم برقم (١٨٨٧) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ولم أقع عليه عند البخاري.]] * * * وَقَوْلُهُ: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ أَيْ: لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَجْرٌ جَزِيلٌ وَنُورٌ عَظِيمٌ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَتَفَاوَتُونَ بِحَسَبِ مَا كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أحمد: حدثنا يحيى ابن إسحاق، حدثنا بن لَهِيعَة، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيد يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: "الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ فَقُتِلَ، فَذَلِكَ [[في م: "فذاك".]] الَّذِي يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهِ هَكَذَا-وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى سَقَطَتْ قَلَنْسُوة رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوَ قَلَنْسُوَةُ عُمَرَ-وَالثَّانِي مُؤْمِنٌ [[في أ: "رجل".]] لَقِيَ الْعَدُوَّ فَكَأَنَّمَا يَضْرِبُ ظَهْرَهُ بِشَوْكِ الطَّلْحِ، جَاءَهُ سَهْمٌ غَرْب فَقَتَلَهُ، فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثُ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعُ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ إِسْرَافًا كَثِيرًا، لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ". [[المسند (١/٢٣) .]] وَهَكَذَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَة، وَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ مِصْرِيٌّ صَالِحٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ [[سنن الترمذي برقم (١٦٤٤) .]] * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ لَمَّا ذَكَرَ السُّعَدَاءَ وَمَآلَهُمْ، عَطَفَ بِذِكْرِ الأشقياء وبين حالهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب