الباحث القرآني

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ شبتَ؟ قَالَ: "شيَّبتني هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ [[سنن الترمذي برقم (٣٢٩٧) .]] وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عَمْرِو بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ الْمِصْرِيِّ: حَدَّثَنَا السُّرِّي بْنُ يَحْيَى الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ أَبِي شُجَاعٍ، عَنْ أَبِي ظَبْيَةَ قَالَ: مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَعَادَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَالَ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي. قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: رَحْمَةَ رَبِّي. قَالَ أَلَا آمُرُ لَكَ بِطَبِيبٍ؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي. قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِعَطَاءٍ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. قَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَقْرَ؟ إِنِّي أَمَرْتُ بَنَاتِي يَقْرَأْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ، لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا". [[تاريخ دمشق (ق ٢٩٤) "مصورة معهد المخطوطات" ورواه ابن عبد البر في التمهيد (٥/٢٦٩) من طريق حبشي بن عمرو بن الربيع، عن أبيه عمرو بن الربيع المصري به.]] . ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَذَا قَالَ وَالصَّوَابُ: عَنْ "شُجَاعٍ"، كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنِ السُّرِّي. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي السُّرِّي بْنُ يَحْيَى أَنَّ شُجَاعًا حَدَّثه، عَنْ أَبِي ظَبْيَة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا". فَكَانَ أَبُو ظَبْيَةَ لَا يَدَعُهَا [[ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (١/١١٢) من طريق خالد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ بِهِ.]] . وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُنِيب، عَنِ السُّرِّي بْنِ يَحْيَى، عَنْ شُجَاعٍ، عَنْ أَبِي ظَبْيَة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُنِيب الْعَدَنِيِّ، عَنِ السُّرِّي بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي ظَبْيَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا". لَمْ يَذْكُرْ فِي سَنَدِهِ "شُجَاعًا" [[وَرَوَاهُ عن أبي يعلى أبو بكر بن السني في عمل اليوم والليلة برقم (٦٧٤) .]] . قَالَ: وَقَدْ أَمَرْتُ بَنَاتِي أَنْ يَقْرَأْنَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ نُصَيْرٍ وَعُثْمَانَ بْنِ الْيَمَانِ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى، عَنْ شُجَاعٍ، عَنْ أَبِي فَاطِمَةَ قَالَ: مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ، فَأَتَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَعُودُهُ، فذكر الحديث بِطُولِهِ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْيَمَانِ: كَانَ أَبُو فَاطِمَةَ هَذَا مَوْلًى لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ [[تاريخ دمشق (ق ٢٩٤) "مصورة معهد المخطوطات" وكذا رواه حجاج بن المنهال عن السري بن يحيى فقال: عن أبي فاطمة: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٢٤٩٨) وقد أعمل الزيلعي رحمه الله هذا الحديث بأربع علل تلاجح بعدها ضعفه: الأولى: الانقطاع كما ذكره الدارقطني وابن أبي حاتم في علله نقلا عن أبيه. الثانية: نكارة متنه قاله الإمام أحمد. الثالثة: ضعف رواته: السري بن يحيى وشجاع كما ذكره ابن الجوزي. الرابعة: الاضطراب فمنهم من يقول: أبو طيبة بالطاء المهملة ومنهم من يقول: أبو ظبية بالظاء المعجمة. ومنهم من يقول: أبو فاطمة ومنهم من يقول: شجاع ومنهم من يقول: أبو شجاع وقد اجتمع على ضعفه: الإمام أحمد وأبو حاتم وابنه والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي تلويحا وتصريحا والله أعلم.]] . وَقَالَ [الْإِمَامُ] [[زيادة من م.]] أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاك بْنِ حَرْبٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَة يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ كَنَحْوٍ مِنْ صَلَاتِكُمُ الَّتِي تُصَلُّونَ الْيَوْمَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُ. كَانَتْ صَلَاتُهُ أَخَفَّ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ "الْوَاقِعَةَ" وَنَحْوَهَا مِنَ السُّوَرِ [[المسند (٥/١٠٤) .]] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * * * الْوَاقِعَةُ: مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحَقُّقِ كَوْنِهَا وَوُجُودِهَا، كَمَا قَالَ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ [الْحَاقَّةِ: ١٥] * * * وَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ أَيْ: لَيْسَ لِوُقُوعِهَا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهَا، وَلَا دَافِعٌ يَدْفَعُهَا، كَمَا قَالَ: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [الشُّورَى:٤٧] ، وَقَالَ: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ [الْمَعَارِجِ:١، ٢] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٧٣] . وَمَعْنَى ﴿كَاذِبَة﴾ -كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ-: لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَيْسَ فِيهَا مثنوية ولا ارْتِدَادٌ وَلَا رَجْعَةٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْكَاذِبَةُ: مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ أَيْ: تَحْفُضُ [[في م: "تخفض".]] أَقْوَامًا إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِلَى الْجَحِيمِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا أَعِزَّاءَ. وَتَرْفَعُ آخَرِينَ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا وُضَعَاءَ. وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُصْعَبٍ الْمَعْنَى، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ، عَنِ أَبِيهِ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ تَخْفِضُ أُنَاسًا وَتَرْفَعُ آخَرِينَ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ [[في أ: "عبد الله".]] الْعَتَكِيُّ، عَنْ عثمان بن سراقة، ابن خالة عمر بن الْخَطَّابِ: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ [قَالَ [[زيادة من م.]] ] : السَّاعَةُ خَفَضَتْ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، وَرَفَعَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: تَخْفِضُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ، وَتَرْفَعُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَخْفُوضِينَ. وَقَالَ السُّدِّيّ: خَفَضَتِ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَرَفَعَتِ الْمُتَوَاضِعِينَ. وَقَالَ العَوْفِيّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ أَسْمَعَتِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَفَضَتْ فَأَسْمَعَتِ الْأَدْنَى، وَرَفَعَتْ فَأَسْمَعَتِ الْأَقْصَى. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا﴾ أَيْ: حُرِّكَتْ تَحْرِيكًا فَاهْتَزَّتْ وَاضْطَرَبَتْ بِطُولِهَا وَعَرْضِهَا. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا﴾ أَيْ: زُلْزِلَتْ زِلْزَالًا [شَدِيدًا] [[زيادة من م.]] . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: تُرَجُّ بِمَا فِيهَا كَرَجِّ الْغِرْبَالِ بِمَا فِيهِ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ [الزَّلْزَلَةِ: ١] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الْحَجِّ: ١] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا﴾ أَيْ: فُتِّتَتْ فَتًّا [[في م: "تفتيتا".]] . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعِكْرِمَة، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَارَتِ الْجِبَالُ كَمَا قَالَ [اللَّهُ] [[زيادة من أ.]] تَعَالَى: ﴿كَثِيبًا مَهِيلا﴾ [الْمُزَّمِّلِ: ١٤] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ﴿هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ كرهَج الْغُبَارِ يَسْطَعُ ثُمَّ يَذْهَبُ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ العَوْفِيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ : الْهَبَاءُ الَّذِي يَطِيرُ مِنَ النَّارِ، إِذَا اضْطَرَمَتْ [[في م: "اضطربت".]] يَطِيرُ مِنْهُ الشَّرَرُ، فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمُنْبَثُّ: الَّذِي ذَرَّتْهُ الرِّيحُ وَبَثَّتْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ كَيَبِيسِ الشَّجَرِ الَّذِي تَذْرُوهُ [[في م: "تذراه".]] الرِّيَاحُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَأَخَوَاتِهَا الدَّالَةِ عَلَى زَوَالِ الْجِبَالِ عَنْ أَمَاكِنِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَهَابِهَا وَتَسْيِيرِهَا وَنَسْفِهَا -أَيْ قَلْعِهَا-وَصَيْرُورَتِهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً﴾ أَيْ: يَنْقَسِمُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: قَوْمٌ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، وَهُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ شِقِّ آدَمَ الْأَيْمَنِ، وَيُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ. قَالَ السُّدِّيّ: وَهُمْ جُمْهُورُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَآخَرُونَ عَنْ يَسَارِ الْعَرْشِ، وَهُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ شِقِّ آدَمَ الْأَيْسَرِ، وَيُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ، وَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ النَّارِ -عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ صَنِيعِهِمْ-وَطَائِفَةٌ سَابِقُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُمْ أَخَصُّ وَأَحْظَى وَأَقْرَبُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الَّذِينَ هُمْ سَادَتُهُمْ، فِيهِمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ، وَهُمْ أَقَلُّ عَدَدًا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ وَهَكَذَا قَسَّمَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَقْتَ احْتِضَارِهِمْ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ [فَاطِرٍ:٣٢] ، وَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً﴾ قَالَ: هِيَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْأَزْوَاجُ الثَّلَاثَةُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً﴾ قَالَ: أَصْنَافًا ثَلَاثَةً. وَقَالَ [[في أ: "عن".]] مُجَاهِدٌ: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً﴾ [قَالَ] [[زيادة من م.]] : يَعْنِي: فِرَقًا ثَلَاثَةً. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْران: أَفْوَاجًا ثَلَاثَةً. وَقَالَ عُبَيد اللَّهِ [[في أ: "عبد الله".]] العتكي، عن عثمان بن سراقة ابن خالة عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً﴾ اثْنَانِ في الجنة، وواحد في النار. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ سِمَاك، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التَّكْوِيرِ: ٧] قَالَ: الضُّرَبَاءُ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْ قَوْمٍ كَانُوا يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً. فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ قَالَ: هُمُ الضُّرَبَاءُ [[سيأتي تخريج الحديث عند الآية: ٧ من سورة التكوير.]] . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ الْغَنَوِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَلَا [[في أ: "قرأ".]] هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ [[في م، أ: "وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين".]] ، ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ [[في م، أ: "وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال".]] فَقَبَضَ بِيَدِهِ قَبْضَتَيْنِ فَقَالَ: "هَذِهِ لِلْجَنَّةِ [[في م، أ: "هذه في الجنة".]] وَلَا أُبَالِي، وَهَذِهِ لِلنَّارِ [[في م، أ: "وهذه في النار".]] وَلَا أُبَالِي" [[المسند (٥/٢٣٩) والحسن لم يسمع من معاذ.]] . وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَة، حَدَّثَنَا خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أنه قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَنِ السَّابِقُونَ إِلَى ظِلِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ" [[المسند (٦/٦٧) .]] . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو حَرْزَةَ يَعْقُوبُ بْنُ مُجَاهِدٍ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ : هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَالَ السُّدِّيّ: هُمْ أَهْلُ عِلِّيِّينَ. وَقَالَ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ ، قَالَ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، سَبَقَ إِلَى مُوسَى، وَمُؤْمِنُ آلِ "يس"، سَبَقَ إِلَى عِيسَى، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، سَبَقَ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الْفَلَّاسُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَدَائِنِيِّ الْبَزَّازِ، عَنْ شُعَيْب بْنِ الضَّحَّاكِ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ [[في أ: "وذكر عن محمد".]] بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَان، عَنْ خَارِجَةَ، عَنْ قُرَّة، َ عَنِ ابْنِ سِيرين: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ الَّذِينَ صَلَّوْا لِلْقِبْلَتَيْنِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ [[في أ: "ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير".]] مِنْ حَدِيثِ خَارِجَةَ، بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ أَيْ: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ثُمَّ قَالَ: أَوَّلُهُمْ رَوَاحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَوَّلُهُمْ خُرُوجًا فِي سَبِيلِ الله. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّابِقِينَ هُمُ الْمُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ الْخَيِّرَاتِ كَمَا أُمِرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٣] ، وَقَالَ: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ﴾ [الْحَدِيدِ: ٢٢] ، فَمَنْ سَابَقَ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَسَبَقَ إِلَى الْخَيْرِ، كَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْكَرَامَةِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا الْقَزَّازُ [[في أ: "الفزاري".]] الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصعَب، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، جَعَلْتَ لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا فَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ. فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ. فَرَاجَعُوا ثَلَاثًا، فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ. ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ . وَقَدْ رَوَى هَذَا الْأَثَرَ الْإِمَامُ عُثْمَانُ [[في أ: "عمر".]] بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِهِ: "الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ"، وَلَفْظُهُ: فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَنْ أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي، كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ فَكَانَ" [[وقد رواه عثمان بن سعيد الدارمي فرفعه كما في البداية والنهاية (١/٥٥) للمؤلف وقال: "وهو أصح" وله شاهد من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (١/٤٨) وقال: "هذا حديث لا يصح".]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب