الباحث القرآني
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ قَالَ: بِنَخْلَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، ﴿كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الْجِنِّ: ١٩] ، قَالَ سُفْيَانُ: اللِّبَدُ: بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَاللِّبَدِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ [[المسند (١/١٦٧) .]] .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ سَبْعَةٌ مِنْ جِنِّ نَصِيبين.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) -وَقَالَ [[في م: "الحافظ الشهير".]] الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ "دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ": أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [[في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".]] ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظَ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَبْتَغُونَ مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدًا إِلَى سُوقِ عُكَاظَ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا -وَاللَّهِ-الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، قَالُوا: يَا قَوْمَنَا، إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ [[في ت، م، أ: "نبيه صلى الله عليه وسلم".]] : ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الْجِنِّ: ١] ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسَدَّد بِنَحْوِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ أبي عوانة، به. ورواه التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ [[المسند (١/٢٥٢) ، ودلائل النبوة للبيهقي (٢/٢٢٥) .]] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو أحمد، حدثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [[في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".]] ، عن ابن عباس، قال: كَانَ الْجِنُّ يَسْتَمِعُونَ [[في ت، م: "فيستمعون".]] الْوَحْيَ، فَيَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ فَيَزِيدُونَ فِيهَا عَشْرًا، فَيَكُونُ مَا سَمِعُوا حَقًّا وَمَا زَادُوا بَاطِلًا وَكَانَتِ النُّجُومُ لَا يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ أَحَدُهُمْ لَا يَأْتِي مَقْعَدَهُ إِلَّا رُمِيَ بِشِهَابٍ يَحْرِقُ مَا أَصَابَ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا مِنْ أَمْرٍ قَدْ حَدَثَ. فَبَثَّ جُنُودَهُ، فَإِذَا بِالنَّبِيِّ ﷺ يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْ نَخْلَةَ، فَأَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي حَدَثَ فِي الْأَرْضِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا، مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بِهِ [[صحيح البخاري برقم (٧٧٣) وصحيح مسلم برقم (٤٤٩) ، وسنن الترمذي برقم (٣٣٢٣) ، والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٦٤) .]] وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، بِمِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ بِطُولِهِ، وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا شَعَرَ بِأَمْرِهِمْ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِخَبَرِهِمْ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قِصَّةَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِبَائِهِمْ عَلَيْهِ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَأَوْرَدَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ الْحَسَنَ: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي" إِلَى آخِرِهِ. قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ بَاتَ بِنَخْلَةَ، فَقَرَأَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْقُرْآنِ فَاسْتَمَعَهُ الْجِنُّ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ [[انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/٤١٩) .]] .
وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: "إِنَّ الْجِنَّ كَانَ اسْتِمَاعُهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ". فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَّ كَانَ اسْتِمَاعُهُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِيحَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ، وَخُرُوجُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى الطَّائِفِ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] [[زيادة من ت.]] .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ [[في ت: "وروى أبو بكر بن أبي شيبة بسنده".]] ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ قَالُوا: أَنْصِتُوا. قَالَ [[في ت، م: "قالوا".]] صَهٍ، وَكَانُوا تِسْعَةً [[في أ: "سبعة".]] أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ إلى: ﴿ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [[ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٤٥٦) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة به، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.]] .
فَهَذَا مَعَ الْأَوَّلِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْتَضِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَشْعُرْ بِحُضُورِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ وَإِنَّمَا اسْتَمَعُوا قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَدُوا إِلَيْهِ أَرْسَالًا قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ، وَفَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، كَمَا سَيَأْتِي بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ فِي مَوْضِعِهَا وَالْآثَارُ، مِمَّا سَنُورِدُهَا [[في ت: "نوردها".]] هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي قُدَامَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ السَّرْخَسِيِّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، عَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَأَلْتُ مَسْرُوقًا: مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ ﷺ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ [[في ت: "ابن مسعود رضي الله عنه".]] -أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ [[صحيح البخاري برقم (٣٨٥٩) وصحيح مسلم برقم (٤٥٠) .]] -فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَيَكُونُ إِثْبَاتًا مُقَدَّمًا عَلَى نَفْيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمَرَّاتِ الْمُتَأَخِّرَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُولَى وَلَكِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ حَالَ اسْتِمَاعِهِمْ حَتَّى آذَنَتْهُ بِهِمُ الشَّجَرَةُ، أَيْ: أَعْلَمَتْهُ بِاسْتِمَاعِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [[في م، أ: "عنه".]] ، إِنَّمَا هُوَ فِي أَوَّلِ مَا سَمِعَتِ [[في أ: "ما استمعت".]] الْجِنُّ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلِمَتْ حَالَهُ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [[دلائل النبوة للبيهقي (٢/٢٢٧) .]] .
ذَكَرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِذَلِكَ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنِ الشَّعْبِيِّ -وَابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ [[في ت: "فروى الإمام أحمد بسنده".]] -عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةُ الْجِنِّ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ فَقَالَ: مَا صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ، وَلَكِنَّا فَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِمَكَّةَ، فَقُلْنَا: اغْتِيلَ؟ اسْتُطِيرَ؟ مَا فَعَلَ؟ قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ -أَوْ قَالَ: فِي السَّحَرِ-إِذَا نَحْنُ بِهِ يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ -فَذَكَرُوا لَهُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ-فَقَالَ: "إِنَّهُ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ". قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ -قَالَ: وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سَأَلُوهُ الزَّادَ-قَالَ عَامِرٌ: سَأَلُوهُ بِمَكَّةَ، وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ، فَقَالَ: "كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ -قَالَ-فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا، فَإِنَّهُمَا زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، بِهِ نَحْوَهُ [[المسند (١/٤٣٦) ، وصحيح مسلم برقم (٤٥٠) .]] .
وَقَالَ مُسْلِمٌ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ-عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ: هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ليلة الْجِنِّ؟ قَالَ: فَقَالَ عَلْقَمَةُ: أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ؛ فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ليلة الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، فَقُلْنَا: اسْتُطِيرَ؟ اغْتِيلَ؟ قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءَ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ، فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ. فَقَالَ: "أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ، فَذَهَبْتُ مَعَهُمْ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ". قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ: "كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا، فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ" [[صحيح مسلم برقم (٤٥٠) .]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي عَمِّي، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ أن بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "بِتُّ اللَّيْلَةَ أَقْرَأُ عَلَى الْجِنِّ رُبْعًا [[في م: "وقفا"، وفي أ: "رفعا".]] بِالْحَجُونِ" [[تفسير الطبري (٢٦/٢١) ورواه أحمد في المسند (١/٤١٦) من طريق يونس عن الزهري، به.]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى: فِيهَا أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ سَنَّةَ الْخُزَاعِيِّ -وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ [[في ت: "روى مسلم وروى ابن جرير بسنده".]] -أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: "مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ الْجِنِّ اللَّيْلَةَ فَلْيَفْعَلْ". فَلَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَعْلَى مَكَّةَ خَطَّ لِي بِرِجْلِهِ خَطًّا، ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ، فَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ فَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ كَثِيرَةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، حَتَّى مَا أَسْمَعُ صَوْتَهُ، ثُمَّ طَفِقُوا يَتَقَطَّعُونَ مِثْلَ قِطَعِ السَّحَابِ ذَاهِبِينَ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ، فَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَعَ الْفَجْرِ، فَانْطَلَقَ فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ: "مَا فَعَلَ الرَّهْطُ؟ " فَقُلْتُ: هُمْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُمْ عَظْمًا وَرَوْثًا زَادًا، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ أَحَدٌ بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَهْبِ اللَّهِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الْأَيْلِيِّ، بِهِ [[تفسير الطبري (٢٦/٢١) .]] .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ -كَاتِبِ اللَّيْثِ-عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ بِهِ [[دلائل النبوة للبيهقي (٢/٣٣٠) ، ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٥٠٣) من طريق عبد الله بن صالح به، قال الذهبي: "هو صحيح عند جماعة".]] .
وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، عَنْ جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابن مسعود، فذكر نحو ما تقدم [[وفي إسناده قابوس بن أبي ظبيان، ضعفه أبو حاتم والنسائي وأحمد، وقال ابن حبان: "ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع المرسل وأسند الموقوف".]] .
وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُوُ نُعَيْمٍ، مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى [[في أ: "إسماعيل".]] ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ أَيْضًا [[ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٠/٨٠) من طريق موسى بن عبيدة الربذي، به.]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ وَعِكْرِمَةُ قَالَا حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: قَالَ أَبِي: حَدَّثَنِي أَبُو تَمِيمَةَ، عَنْ عَمْرٍو -وَلَعَلَّهُ قَدْ يَكُونُ قَالَ: الْبِكَالِيُّ-يُحَدِّثُهُ عَمْرٌو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اسْتَتْبَعَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَخَطَّ لِي خَطًّا فَقَالَ: "كُنْ بَيْنَ ظَهْرِ هَذِهِ لَا تَخْرُجُ مِنْهَا؛ فَإِنَّكَ إِنْ خَرَجْتَ مِنْهَا هَلَكْتَ" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَفِيهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ [[لم أجده في دلائل النبوة وهو في المسند للإمام أحمد (١/٣٩٩) .]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ [[في ت: "روى ابن جرير بسنده".]] ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ غَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ؛ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: حُدِّثْتُ أَنَّكَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ وَفْدِ الْجِنِّ؟ قَالَ: أَجَلْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا، وَقَالَ: "لَا تَبْرَحْ مِنْهَا" فَذَكَرَ مِثْلَ العَجَاجة السَّوْدَاءِ غَشِيَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَذُعِرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصُّبْحِ، أَتَانِي النَّبِيُّ [[في م: "رسول الله".]] ﷺ فَقَالَ: "أَنِمْتَ؟ " فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ مِرَارًا أَنْ أَسْتَغِيثَ بِالنَّاسِ حَتَّى سَمِعْتُكَ تُقَرِّعُهُمْ بِعَصَاكَ، تَقُولُ: "اجْلِسُوا" فَقَالَ: "لَوْ خَرَجْتَ لَمْ آمَنْ أَنْ يَخْطَفَكَ [[في أ: "يختطفك".]] بَعْضُهُمْ". ثُمَّ قَالَ: "هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ رَأَيْتُ رِجَالًا سُودًا مُسْتَشْعِرِينَ [[في ت، أ: "مستثفرين".]] ثِيَابًا بَيَاضًا. قَالَ: "أُولَئِكَ جِنُّ نَصِيبِينَ سَأَلُونِي الْمَتَاعَ -وَالْمَتَاعُ: الزَّادُ-فَمَتَّعْتُهُمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ، أَوْ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ"-فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمْ؟ فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِلَ، وَلَا رَوْثًا إِلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا يَوْمَ أُكِلَتْ، فَلَا يَسْتَنْقِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ بِعَظْمٍ وَلَا بَعْرَةٍ وَلَا رَوْثَةٍ" [[تفسير الطبري (٢٦/٢١) .]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةُ قَالَا أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مَنْصُورٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ البُوشَنْجي، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ صَلَاحٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: اسْتَتْبَعَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ -خَمْسَةَ عَشَرَ بَنِي إِخْوَةٍ وَبَنِي عَمٍّ-يَأْتُونَنِي اللَّيْلَةَ، فَأَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ"، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ، فَخَطَّ لِي خَطًّا وَأَجْلَسَنِي فِيهِ، وَقَالَ لِي: "لَا تَخْرُجْ مِنْ هَذَا". فَبِتُّ فِيهِ حَتَّى أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَعَ السَّحَرِ فِي يَدِهِ عَظْمٌ حَائِلٌ وَرَوْثَةٌ حُمَمة فَقَالَ لِي: "إِذَا ذَهَبْتَ إِلَى الْخَلَاءِ فَلَا تَسْتَنْجِ بِشَيْءٍ مِنْ هَؤُلَاءِ". قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ عِلْمِي حَيْثُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قال، فَذَهَبْتُ فَرَأَيْتُ مَوْضِعَ مَبْرِكِ [[في أ: "منزل".]] سِتِّينَ بَعِيرًا [[دلائل النبوة للبيهقي (٢/٢٣١) .]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرْنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّوري، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ [[في أ: "عن عمر".]] ، عَنِ الْمُسْتَمِرِّ بْنِ الرَّيَّانِ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ الْجِنِّ، حَتَّى أَتَى الْحَجُونَ، فَخَطَّ لِي خَطًّا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ سَيِّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: "وَرْدَانُ": أَنَا أُرَحِّلُهُمْ عَنْكَ. فَقَالَ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ [[دلائل النبوة للبيهقي (٢/٢٣١) .]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي فَزَارَةَ الْعَبْسِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ -مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ-عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْجِنِّ قَالَ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَمَعَكَ مَاءٌ؟ " قُلْتُ: لَيْسَ مَعِيَ مَاءٌ، وَلَكِنَّ مَعِيَ إِدَاوَةً فِيهَا نَبِيذٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ: "تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ" فَتَوَضَّأَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي زَيْدٍ، بِهِ [[المسند (١/٤٤٩) ، وسنن أبي داود برقم (٨٤) وسنن الترمذي برقم (٨٨) وسنن ابن ماجه برقم (٣٨٤) .]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَمَعَكَ مَاءٌ؟ " قَالَ: مَعِيَ نَبِيذٌ فِي إِدَاوَةٍ، فَقَالَ [[في م: "قال".]] اصْبُبْ عَلَيَّ". فَتَوَضَّأَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ شَرَابٌ وَطَهُورٌ" [[المسند (١/٣٩٨) وقد تفرد به ابن لهيعة، وهو ضعيف.]] .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، [بِهِ] [[زيادة من م.]] [[سنن الدارقطني (١/٧٧) من طريق داود بن أبي هند عن عامر بن علقمة بن قيس. قال: قلت لعبد الله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ قال: لا، قال الدارقطني: "هذا الصحيح عن ابن مسعود".]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ مِينَاءَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ وَفْدِ الْجِنِّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَنَفَّسَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: "نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي يَا ابْنَ مَسْعُودٍ".
هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي الْمُسْنَدِ مُخْتَصَرًا [[المسند (١/٤٤٩) .]] ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ "دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ"، فَقَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِينَاءَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ وَفْدِ الْجِنِّ، فَتَنَفَّسَ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي يَا ابْنَ مَسْعُودٍ". قُلْتُ: اسْتَخْلِفْ. قَالَ: "مَنْ؟ " قُلْتُ: أَبَا بَكْرٍ. فَسَكَتَ [[في ت، م: "أبو بكر. قال: فسكت".]] ، ثُمَّ مَضَى سَاعَةً فَتَنَفَّسَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي يَا ابْنَ مَسْعُودٍ". قُلْتُ: اسْتَخْلِفْ. قَالَ: "مَنْ؟ " قُلْتُ: عُمَرَ [بْنَ الْخَطَّابِ] [[زيادة من م.]] . فَسَكَتَ، ثُمَّ مَضَى سَاعَةً، ثُمَّ تَنَفَّسَ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: "نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي". قُلْتُ: فَاسْتَخْلِفْ. قَالَ ﷺ: "مَنْ؟ " قُلْتُ: عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ ﷺ: "أَمَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ أَطَاعُوهُ ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين. [[المعجم الكبير للطبراني (١٠/٨٢) وفيه ميناء بن أبي ميناء، كذاب.]] .
وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَحْرَى بِهِ أَلَّا يَكُونَ مَحْفُوظًا، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا بَعْدَ وُفُودِهِمْ إِلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ، وَدَخَلَ النَّاسُ وَالْجَانُّ أَيْضًا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، نَزَلَتْ سُورَةُ [[في ت: "سورة النصر".]] ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ ، وَهِيَ السُّورَةُ الَّتِي نُعِيَتْ نَفْسُهُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا إِلَيْهِ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ سَنُورِدُهُ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا، عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ [[في أ: "يعلى".]] الْأَسْلَمَيِّ، عَنْ حَرْبِ بْنِ صَبِيح، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَذَكَرَهُ وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ الِاسْتِخْلَافِ [[المعجم الكبير للطبراني (١٠/٨١) وفي إسناده يحيى الأسلمي وهو ضعيف.]] ، وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ، وَسِيَاقٌ عَجِيبٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ [[في م، أ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن".]] خَطَّ حَوْلَهُ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ [[في أ: "فكان يجيء أحدهم".]] مِثْلَ سَوَادِ النَّحْلِ، وَقَالَ لِي: "لَا تَبْرَحْ مَكَانَكَ"، فَأَقْرَأَهُمْ كِتَابَ اللَّهِ "، فَلَمَّا رَأَى الزُّط قَالَ: كَأَنَّهُمْ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَمَعَكَ مَاءٌ؟ " قُلْتُ: لَا. قَالَ: "أَمَعَكَ نَبِيذٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. فَتَوَضَّأَ بِهِ [[المسند (١/٤٥٥) .]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ [[في م: "الطبراني".]] ، أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ قَالَ: هم اثنا عشر ألفا جاؤوا مِنْ جَزِيرَةِ الْمُوصِلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِابْنِ مَسْعُودٍ: "أَنْظِرْنِي حَتَّى آتِيَكَ"، وَخَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا، وَقَالَ: "لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ". فَلَمَّا خَشِيَهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَادَ أَنْ يَذْهَبَ، فَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يَبْرَحْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: "لَوْ ذَهَبْتَ مَا الْتَقَيْنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" [[وفي إسناده الحكم بن أبان، وهو ضعيف.]] .
طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ أَيْضًا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ صُرِفُوا إِلَيْهِ مِنْ نِينَوَى، وَأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ فَأَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي؟ " فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُمْ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ اسْتَتْبَعَهُمُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ذَاكَ لَذُو نُدْبَةٍ فَأَتْبَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَخُو هُذَيْلٍ، قَالَ: فَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ شِعْبًا يُقَالُ لَهُ: "شِعْبُ الْحَجُونِ"، وَخَطَّ عَلَيْهِ، وَخَطَّ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ لِيُثْبِتَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَهَالُ وَأَرَى أَمْثَالَ النُّسُورِ تَمْشِي فِي دَفُوفِهَا، وَسَمِعْتُ لَغَطًا شَدِيدًا، حَتَّى خِفْتُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ تَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا اللَّغَطُ الَّذِي سَمِعْتُ؟ قَالَ: "اخْتَصَمُوا فِي قَتِيلٍ، فَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أبي حاتم [[تفسير الطبري (٢٦/٢٠) .]] .
فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا تَدُلُّ [[في ت: "فهذه الأحاديث التي ذكرناها كلها تدل".]] عَلَى أَنَّهُ ﷺ ذَهَبَ إِلَى الْجِنِّ قَصْدًا، فَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَشَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَا هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَوَّلَ مَرَّةٍ سَمِعُوهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ [وَ] [[زيادة من ت.]] لَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [[في ت، أ: "عنه".]] ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَدُوا إِلَيْهِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَالَ مُخَاطَبَتِهِ الْجِنَّ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ سِوَاهُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَشْهَدْ حَالَ الْمُخَاطَبَةِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْبَيْهَقِيِّ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَرَّةٍ خَرَجَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْرُهُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ طَرِيقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ: ﴿قُلْ أُوحِيَ﴾ ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوهُ بِنَخْلَةَ فَجِنُّ نِينَوَى، وَأَمَّا الْجِنُّ الَّذِينَ لَقُوهُ بِمَكَّةَ فَجِنُّ نَصِيبِينَ، وَتَأَوَّلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ: "فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ"، عَلَى غَيْرِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ بِخُرُوجِهِ ﷺ إِلَى الْجِنِّ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ عَلَى بُعْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [[في أ: "عبد الوهاب".]] الْأَدِيبُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ جَدِّهِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ [[في ت: "وقال الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده".]] كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِإِدَاوَةٍ لِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَأَدْرَكَهُ يَوْمًا فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟ " قَالَ: أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: "ائْتِنِي بِأَحْجَارٍ أَسْتَنْجِ بِهَا، وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثَةٍ". فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ فِي ثَوْبِي، فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ حَتَّى إِذَا فَرَغَ وَقَامَ اتَّبَعْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ [[في ت: "الروث".]] ؟ قَالَ: "أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ، فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَلَّا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ إِلَّا وَجَدُوهُ طَعَامًا" [[دلائل النبوة للبيهقي (٢/٢٣٣) .]] .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، بِإِسْنَادِهِ قَرِيبًا مِنْهُ [[صحيح البخاري برقم (٣٨٦٠) .]] فَهَذَا يَدُلُّ مَعَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّهُمْ وَفَدُوا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَسَنَذْكُرُ مَا يَدُلُّ عَلَى تَكْرَارِ ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مَا ذُكِرَ [[في أ: "ما روي".]] عَنْهُ أَوَّلًا مِنْ وَجْهٍ جَيِّدٍ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ الْآيَةَ، [قَالَ] [[زيادة من أ.]] كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ فَجَعَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ [[تفسير الطبري (٢٦/٢٢) .]] .
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى القصتين.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا رَجُلٌ سَمَّاهُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، ثَلَاثَةً مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ، وَأَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، وَكَانَتْ أَسْمَاؤُهُمْ حَيَى وَحَسَى وَمَسَى، وَشَاصَرَ وَنَاصَرَ، وَالْأَرَدَ وَإِبْيَانَ وَالْأَحْقَمَ.
وَذَكَرَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ أَنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْجِنِّ كَانَ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الشَّيْصِبَانِ، وَكَانُوا أَكْثَرَ الْجِنِّ عَدَدًا وَأَشْرَفَهُمْ نَسَبًا، وَهُمْ كَانُوا عَامَّةَ جُنُودِ إِبْلِيسَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ ذَرّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَانُوا تِسْعَةً، أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، أَتَوْهُ مِنْ أَصْلِ نَخْلَةَ.
وَتَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى سِتِّينَ رَاحِلَةً، وَتَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّ اسْمَ سَيِّدِهِمْ وَرْدَانُ، وَقِيلَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ، وَتَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَلَعَلَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ دَلِيلٌ عَلَى تَكَرُّرِ وِفَادَتِهِمْ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ [[في م: "ما رواه".]] الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ -هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ-أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ: "إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا" إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ، فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي -أَوْ: إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ-أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ-عَلَيَّ بِالرَّجُلِ، فَدُعِيَ لَهُ [[في ت، م، أ: "فدعى فجيء به له".]] ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ. قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي. قَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِيَّتُك. قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ، فَقَالَتْ:
أَلَمْ تَرْ الجِنَّ وإبْلاسَهَا ... ويَأسَها مِنْ بَعْدِ إنْكَاسِها ...
ولُحوقَها بِالْقِلَاصِ وَأَحْلاسها
قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ، بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ، لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيحُ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَوَثَبَ [[في م، أ: "قال: فوثب".]] الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا؟ ثُمَّ نَادَى يَا جَلِيحُ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". فَقُمْتُ، فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ: هَذَا نَبِيٌّ.
هَذَا سِيَاقُ الْبُخَارِيِّ [[صحيح البخاري برقم (٣٨٦٦) .]] ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ، بِنَحْوِهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُوهِمُ أَنَّ عُمَرَ بِنَفْسِهِ سَمِعَ الصَّارِخَ يَصْرُخُ مِنَ الْعِجْلِ الَّذِي ذُبِحَ، وَكَذَلِكَ هُوَ صَرِيحٌ [[في ت، م، أ: "صريحا" وهو خطأ.]] فِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ عَنْ عُمَرَ فِي إِسْلَامِهِ، وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَاهِنَ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بذلك عن رُؤْيَتِهِ وَسَمَاعِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ" [[دلائل النبوة للبيهقي ٠٢/٢٤٥) .]] .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ البيهقي هو المتجهن وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذَا [[في ت: "ذلك".]] مُسْتَقْصًى فِي سِيرَةِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَأْخُذْهُ مِنْ ثَمَّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ [وَالْمِنَّةُ] [[زيادة من أ.]] .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "حَدِيثُ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْكَاهِنَ الَّذِي لَمْ يُذْكَرِ اسْمُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ".
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الْمُفَسِّرُ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ الْأَصْبِهَانِيُّ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى الْحَمَّارُ الْكُوفِيُّ بِالْكُوفَةِ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ بَادَوَيْهِ أَبُو بَكْرٍ القصري، حدثنا محمد بن نواس الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [[زيادة من ت.]] قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذْ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَفِيكُمْ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ تِلْكَ السَّنَةَ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الْمُقْبِلَةُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَفِيكُمْ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ سَوَادَ بْنَ قَارِبٍ كَانَ بَدءُ إِسْلَامِهِ شَيْئًا عَجِيبًا، قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا سَوَادُ حَدِّثْنَا بِبَدْءِ إِسْلَامِكَ، كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ سَوَادٌ: فَإِنِّي كُنْتُ نَازِلًا بِالْهِنْدِ، وَكَانَ لِي رَئِيّ مِنَ الْجِنِّ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمٌ، إِذْ جَاءَنِي فِي مَنَامِي ذَلِكَ. قَالَ: قُمْ فَافْهَمْ وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، قَدْ بُعِثَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
عَجِبتُ للجنِّ وأنْجَاسِها [[في أ: "وأجناسها".]] وشَدّها العيسَ بأحْلاسهَا ...
تَهْوي إِلَى مَكةَ تَبْغي الهُدَى ... مَا مُؤمنو الجِنِّ كَأرْجَاسهَا ...
فَانْهَض إِلَى الصَّفْوةِ مِنْ هَاشمٍ ... واسْمُ بعينَيْك إِلَى رَاسِهَا ...
قَالَ: ثُمَّ أَنْبَهَنِي فَأَفْزَعَنِي، وَقَالَ: يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيًّا فَانْهَضْ إِلَيْهِ تَهْتَدِ وَتَرْشُدْ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ أَتَانِي فَأَنْبَهَنِي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ كَذَلِكَ:
عَجِبتُ للجنِّ وَتَطْلابِها ... وَشَدهَا العِيسَ بأقْتَابِهَا ...
تَهْوي إِلَى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى ... ليسَ قُداماها كَأذْنَابِها ...
فَانْهَضْ إِلَى الصّفْوةِ مِنْ هَاشمٍ ... واسْمُ بعَيْنَيك إِلَى نَابِها [[في أ: "يابها".]]
فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَتَانِي فَأَنْبَهَنِي، ثُمَّ قَالَ:
عَجِبتُ للجِنّ وَتَخْبارها ... وَشَدَّها العِيسَ بأكْوَارهَا ...
تَهْوي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدَى ... لَيْسَ ذَوُو الشَّر كَأخْيَارهَا ...
فَانْهَضْ إِلَى الصَّفْوةِ مِنْ هَاشمٍ ... مَا مُؤمِنو الجِنِّ كَكُفَّارهَا ...
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهُ تَكَرَّرَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ، وَقَعَ فِي قَلْبِي حُبُّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَحْلِي فَشَدَدْتُهُ عَلَى رَاحِلَتِي، فَمَا حَلَلْتُ [عَلَيْهِ] [[زيادة من أ.]] نَسْعَةً وَلَا عَقَدْتُ أُخْرَى حَتَّى أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا هُوَ بِالْمَدِينَةِ -يَعْنِي مَكَّةَ-وَالنَّاسُ عَلَيْهِ كَعُرْفِ الْفَرَسِ، فَلَمَّا رَآنِي النَّبِيُّ ﷺ قَالَ: "مَرْحَبًا بِكَ يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ، قَدْ عَلِمْنَا مَا جَاءَ بِكَ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قُلْتُ شِعْرًا، فَاسْمَعْهُ مِنِّي. قَالَ سَوَادٌ: فَقُلْتُ:
أتَانِي رئيَّ بَعْدَ لُيَلٍ وهَجْعةٍ ... وَلم يَكُ فِيمَا قَدْ بَلوَتُ بكَاذبِ ...
ثَلاثٍ لَيَال قَولُه كُلَّ لَيْلَة: ... أَتَاكَ رَسُولٌ [[في ت، م: "نبي".]] مِنْ لُؤيّ بْنِ غَالبِ ...
فَشَمَّرتُ عَنْ سَاقي الإزَارَ وَوَسَّطَتْ ... بِيَ الدَّعلب الوَجْنَاءُ عِنْدَ السَّبَاسبِ ...
فَأشْهَدُ أَنَّ اللهَ لَا شَيء غَيْرهُ ... وَأَنّكَ مَأْمُونٌ عَلَى كُِّل غَائبِ ...
وأَنَّك أَدْنَى المُرْسَلِينَ شَفَاعَة ... إِلَى اللهِ يَا ابنَ الأكرَمينَ الأطايبِ ...
فَمُرنَا بمَا يَأتِيكَ يَا خَيرَ مُرْسل [[في ت: "من مشى".]] وإنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيبُ الذّوَائبِ ...
وَكُنْ لِي شَفِيعا يَومَ لَا ذُو شَفَاعةٍ ... سِوَاك بِمغْنٍ عَنْ سَوَاد بْنِ قَاربِ ...
قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ لِي: "أَفْلَحْتَ يَا سَوَادُ": فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ يَأْتِيكَ رِئِيُّكَ الْآنَ؟ فَقَالَ: مُنْذُ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ لَمْ يَأْتِنِي، وَنِعْمَ الْعِوَضُ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ الْجِنِّ [[دلائل النبوة للبيهقي (١/٢٤٨) .]] .
ثُمَّ أَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ [[دلائل النبوة للبيهقي (١/٢٥٢) .]] . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وِفَادَتِهِمْ إِلَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ [[في أ: "على الإسلام".]] ، بَعْدَ مَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ "دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" [فَقَالَ] [[زيادة من أ.]] :
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدَةَ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَة الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مَنْ حَدَّثَهُ عَمْرُو بْنُ غَيْلَانَ الثَّقَفِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقُلْتُ لَهُ: حُدِّثْتُ أَنَّكَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ وَفْدِ الْجِنِّ؟ قَالَ: أَجَلْ قُلْتُ: حَدِّثْنِي كَيْفَ كَانَ شَأْنُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ أَخَذَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ [[في ت، أ: "رجلا" وهو خطأ.]] يُعَشِّيهِ، وَتُرِكْتُ فَلَمْ يَأْخُذْنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فقال: "مَنْ هَذَا؟ " فَقُلْتُ: أَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ. فَقَالَ: "مَا أَخَذَكَ أَحَدٌ يُعَشِّيكَ؟ " فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: "فَانْطَلِقْ لَعَلِّي أَجِدُ لَكَ شَيْئًا". قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَى حُجْرَةَ أَمِّ سَلَمَةَ فَتَرَكَنِي [[في أ: "فتركني قائما".]] وَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ خَرَجَتِ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ: يَا ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَجِدْ لَكَ عَشَاءً، فَارْجِعْ إِلَى مَضْجَعِكَ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَمَعْتُ حَصْبَاءَ الْمَسْجِدِ فَتَوَسَّدْتُهُ، وَالْتَفَفْتُ بِثَوْبِي، فَلَمْ أَلْبَثْ إلا قليلا حتى جاءت الجارية، فقالت: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ [[في ت: "رسول الله صلى الله عليه وسلم".]] . فَاتَّبَعْتُهَا وَأَنَا أَرْجُو الْعَشَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ مَقَامِي، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَفِي يَدِهِ عَسِيبٌ مِنْ نَخْلٍ، فَعَرَضَ بِهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ: "أَتَنْطَلِقُ أَنْتَ مَعِي [[في ت، م: "انطلق معي"، وفي أ: "انطلق أنت معي".]] حَيْثُ انْطَلَقْتُ؟ " قُلْتُ: مَا شَاءَ اللَّهُ. فَأَعَادَهَا عَلَيَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ أَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ. فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا بَقِيعَ الْغَرْقَدِ، فَخَطَّ بِعَصَاهُ خطا، ثم قال: "اجلس فيها، ولا تبرج حَتَّى آتِيَكَ". ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ خِلَالَ النَّخْلِ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حَيْثُ لَا أَرَاهُ ثَارَتِ [[في ت، م، أ: "ثارت مثل العجاجة".]] العَجَاجة السَّوْدَاءُ، فَفَرِقْتُ فَقُلْتُ: أَلْحَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ [[في ت، م، أ: "هذه".]] هَوَازِنَ مَكَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيَقْتُلُوهُ، فَأَسْعَى إِلَى الْبُيُوتِ، فَأَسْتَغِيثُ النَّاسَ. فَذَكَرْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَوْصَانِي: أَنْ لَا أَبْرَحَ مَكَانِي الَّذِي أَنَا فِيهِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَعُهُمْ بِعَصَاهُ وَيَقُولُ: "اجْلِسُوا". فَجَلَسُوا حَتَّى كَادَ يَنْشَقُّ عَمُودُ الصُّبْحِ، ثُمَّ ثَارُوا وَذَهَبُوا، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "أَنِمْتَ بَعْدِي؟ " فَقُلْتُ: لَا [[في أ: "لا والله".]] ، وَلَقَدْ فَزِعْتُ الْفَزْعَةَ الْأُولَى، حَتَّى رَأَيْتُ أَنْ آتِيَ الْبُيُوتَ فَأَسْتَغِيثَ النَّاسَ حَتَّى سَمِعْتُكَ تَقْرَعُهُمْ بِعَصَاكَ، وَكُنْتُ أَظُنُّهَا هَوَازِنَ، مَكَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيَقْتُلُوهُ. فَقَالَ: "لَوْ أَنَّكَ خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْقَةِ مَا آمَنُهُمْ [[في ت، م: "ما أمنت" وفي أ: "ما آمن".]] عَلَيْكَ أَنْ يَخْتَطِفَكَ بَعْضُهُمْ، فَهَلْ رَأَيْتَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُمْ؟ " فَقُلْتُ: رَأَيْتُ رِجَالًا سُودًا مُسْتَشْعِرِينَ [[في ت، أ: "مستثفرين".]] بِثِيَابٍ بِيضٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُولَئِكَ وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ، أَتَوْنِي فَسَأَلُونِي الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَمَتَّعْتُهُمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ أَوْ رَوْثَةٍ أَوْ بَعْرَةٍ". قُلْتُ: وَمَا يُغْنِي عَنْهُمْ ذَلِكَ؟ قَالَ: "إِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ أُكِلَ، وَلَا رَوْثَةً إِلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا الَّذِي كَانَ فِيهَا يَوْمَ أُكِلَتْ، فَلَا يَسْتَنْقِي أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَظْمٍ وَلَا بَعْرَةٍ [[في ت: "ولا روثة".]] " [[لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.]] .
وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ جِدًّا [[في تن أ: "وهذا سياق غريب".]] ، وَلَكِنْ فِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] [[زيادة من ت، أ.]] ، وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي نُمَيْرُ بْنُ زَيْدٍ الْقَنْبَرُ [[في ت، أ: "حدثني بهز بن يزيد الليثي".]] ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا قُحَافَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صلاة الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "أَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي إِلَى وَفْدِ الْجِنِّ اللَّيْلَةَ؟ " فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ ثَلَاثًا، فَمَرَّ بِي فَأَخَذَ بِيَدِي، فَجَعَلْتُ أَمْشِي مَعَهُ حَتَّى حُبِسَتْ عَنَّا جِبَالُ الْمَدِينَةِ كُلُّهَا، وَأَفْضَيْنَا إِلَى أَرْضِ بَرَازٍ، فَإِذَا بِرِجَالٍ طُوَالٍ كَأَنَّهُمُ الرِّمَاحُ، مُسْتَشْعِرِينَ [[في ت، أ: "مستثفرين".]] بِثِيَابِهِمْ مِنْ بَيْنِ أَرْجُلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ غَشِيَتْنِي رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ [[لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.]] ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِوُفُودِ الْجِنِّ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ أَحْمَدُ بْنُ رَوْحٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقي، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ بُكَيْرٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عمر [[في م: "عمير".]] ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدٌ المُكتب، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: خَرَجَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ [[في م: "عبيد الله".]] يُرِيدُونَ الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، إِذَا هُمْ بِحَيَّةٍ تَنْثَنِي [[في أ: "تمشي".]] عَلَى الطَّرِيقِ أَبْيَضَ، يَنْفُخُ مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: امْضُوا، فَلَسْتُ بِبَارِحٍ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الْحَيَّةِ. قَالَ: فَمَا لَبِثَتْ أَنْ مَاتَتْ، فَعَمَدْتُ إِلَى خِرْقَةٍ بَيْضَاءَ فَلَفَفْتُهَا فِيهَا، ثُمَّ نَحَّيْتُهَا عَنِ الطَّرِيقِ فَدَفَنْتُهَا، وَأَدْرَكْتُ أَصْحَابِي فِي الْمُتَعَشَّى. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَقُعُودٌ إِذْ أَقْبَلَ [[في ت، م: "جاء".]] أَرْبَعُ نِسْوَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ، فَقَالَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ: أَيُّكُمْ دَفَنَ عَمْرًا؟ قُلْنَا: وَمَنْ عَمْرٌو، قَالَتْ: أَيُّكُمْ دَفَنَ الْحَيَّةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا. قَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ دَفَنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا، يَأْمُرُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَقَدْ آمَنَ بِنَبِيِّكُمْ، وَسَمِعَ صِفَتَهُ مِنَ [[في ت: "في".]] السَّمَاءِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ بِأَرْبَعِمِائَةِ عَامٍ. قَالَ الرَّجُلُ فَحَمِدْنَا [[في أ: "فحمدت".]] اللَّهَ، ثُمَّ قَضَيْنَا حَجَّتَنَا [[في ت، م، أ: "حجنا".]] ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الْمَدِينَةِ، فَأَنْبَأْتُهُ بِأَمْرِ الْحَيَّةِ، فَقَالَ: صَدَقْتَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لَقَدْ آمَنَ بِي قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ بِأَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ" [[دلائل النبوة لأبي نعيم (ص٣٠٦) .]] .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، بِنَحْوِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ والِّظهراني، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ -هُوَ الَّذِي نَزَلَ وَدَفَنَ تِلْكَ الْحَيَّةَ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ-وَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَمَا إِنَّهُ آخِرُ التِّسْعَةِ مَوْتًا الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [[لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.]] .
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الماجِشُون، عَنْ عَمِّهِ [[في ت: "وروى أبو نعيم بإسناده".]] ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عُبَيْد اللَّهِ [[في ت، م، أ: "عبد الله".]] بْنِ مَعْمَرٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كُنْتُ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى ثُعْبَانَيْنِ [[في ت، أ، م: "إعصارين".]] اقْتَتَلَا ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى الْمُعْتَرَكِ، فَوَجَدْتُ حَيَّاتٍ كَثِيرَةً مَقْتُولَةً، وَإِذْ يَنْفَحُ مِنْ بَعْضِهَا رِيحُ الْمِسْكِ، فَجَعَلْتُ أشمُّها وَاحِدَةً وَاحِدَةً، حَتَّى وَجَدْتُ ذَلِكَ مِنْ حَيَّةٍ صَفْرَاءَ رَقِيقَةٍ، فَلَفَفْتُهَا فِي عِمَامَتِي وَدَفَنْتُهَا. فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ نَادَانِي [[في أ: "هذا جان".]] مُنَادٍ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَقَدْ هُدِيتَ! هَذَانَ حَيَّانِ [[في ت، م: "نادى".]] مِنَ الْجِنِّ بَنُو أَشْعِيبَانَ وَبَنُو أُقَيْشٍ الْتَقَوْا، فَكَانَ مِنَ الْقَتْلَى مَا رَأَيْتَ، وَاسْتُشْهِدَ الَّذِي دَفَنْتَهُ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا الْوَحْيَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قال: فَقَالَ عُثْمَانُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ رَأَيْتَ عَجَبًا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَعَلَيْكَ كَذِبُكَ [[دلائل النبوة لأبي نعيم (ص٣٠٥) .]] .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ أَيْ: طَائِفَةً مِنَ الْجِنِّ، ﴿يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾
أَيْ: اسْتَمِعُوا [[في ت، م: "استمعوه".]] وَهَذَا أَدَبٌ مِنْهُمْ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو الطَّيِّبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ البُوشَنْجي، حَدَّثَنَا هِشام بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُورَةَ "الرَّحْمَنِ" حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا، لَلْجِنّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِكَ -أَوْ نِعَمِكَ-رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ [[دلائل النبوة للبيهقي (١/٢٣٢) وسنن الترمذي برقم (٣٢٩١) .]] . قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ، فَذَكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: "غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ، عَنْ زُهَيْرٍ" كَذَا قَالَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيِّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، بِهِ مِثْلَهُ [[في ت: "بمعناه".]] [[دلائل النبوة للبيهقي (١/٢٣٢) .]] .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ أَيْ: فَرَغَ. كَقَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ﴾ [الجمعة: ١٠] ، ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فُصِّلَتْ: ١٢] ، ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٠٠] ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ أَيْ: رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَأَنْذَرُوهُمْ مَا سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَقَوْلِهِ: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٢٢] .
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ فِي الْجِنِّ نُذُرٌ، وَلَيْسَ فِيهِمْ رُسُلٌ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجِنَّ لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولًا؛ لِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يُوسُفَ: ١٠٩] ، وَقَالَ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ﴾ [الْفُرْقَانِ: ٢٠] ، وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٧] .
فَكُلُّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ فَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَسُلَالَتِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي [سُورَةِ] [[زيادة من ت.]] الْأَنْعَامِ: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٣٠] ، فَالْمُرَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الْجِنْسَيْنِ، فَيَصْدُقُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْإِنْسُ، كَقَوْلِهِ: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٢٢] أَيْ: أَحَدُهُمَا. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ إِنْذَارَ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ فَقَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ] ﴾ [[زيادة من أ.]] ، وَلَمْ يَذْكُرُوا عِيسَى؛ لِأَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ فِيهِ مَوَاعِظُ وَتَرْقِيقَاتٌ وَقَلِيلٌ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَالْمُتَمِّمِ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، فَالْعُمْدَةُ هُوَ التَّوْرَاةُ؛ فَلِهَذَا قَالُوا: أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى. وَهَكَذَا قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، حِينَ أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِقِصَّةِ نِزُولِ جِبْرِيلَ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] [[زيادة من أ.]] عَلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: بَخ بَخ، هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا.
﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَقَوْلُهُمْ: ﴿يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ أَيْ: فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِخْبَارِ، ﴿وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فِي الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ [[في ت: "نوعين".]] خَبَرٍ وَطَلَبٍ [[في أ: "خبرا وطلبا".]] ، فَخَبَرُهُ صِدْقٌ، وَطَلَبُهُ عَدْلٌ، كَمَا قَالَ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا﴾ [الْأَنْعَامِ: ١١٥] ، وَقَالَ ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ [التَّوْبَةِ: ٣٣] ، فَالْهُدَى هُوَ: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَهَكَذَا قَالَتِ الْجِنُّ: ﴿يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ فِي الِاعْتِقَادَاتِ، ﴿وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أَيْ: فِي الْعَمَلِيَّاتِ.
﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ﴾ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ [[في ت: "صلى الله عليه وسلم".]] إِلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ حَيْثُ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا خِطَابُ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَكْلِيفُهُمْ وَوَعْدُهُمْ وَوَعِيدُهُمْ، وَهِيَ سُورَةُ الرَّحْمَنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ [[في م: "قالوا".]] ﴿أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ قِيلَ: إِنَّ "مِنْ" هَاهُنَا زَائِدَةٌ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ قليل، وقيل: إنها على بابها للتبغيض، ﴿وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أَيْ: وَيَقِيكُمْ مِنْ عَذَابِهِ الْأَلِيمِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْجِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا جَزَاءُ صَالِحِيهِمْ أَنْ يُجَارُوا مِنْ عَذَابِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا هَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ مَقَامُ تَبَجُّحٍ وَمُبَالَغَةٍ فَلَوْ كَانَ لَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى الْإِيمَانِ أَعْلَى مِنْ هَذَا لَأَوْشَكَ أَنْ يَذْكُرُوهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَدْخُلُ مُؤْمِنُو الْجِنِّ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ، وَلَا تَدْخُلُ ذُرِّيَّةُ إِبْلِيسَ الْجَنَّةَ.
وَالْحُقُّ أَنَّ مُؤمِنَهم كَمُؤْمِنِي الْإِنْسِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ [[في ت، أ: "طائفة".]] مِنَ السَّلَفِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٧٤] ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٤٦، ٤٧] ، فَقَدِ امْتَنَّ تَعَالَى عَلَى الثَّقَلَيْنِ بِأَنْ جَعَلَ جَزَاءَ مُحْسِنِهِمُ الْجَنَّةَ، وَقَدْ قَابَلَتِ الجِنّ هَذِهِ الْآيَةَ بِالشُّكْرِ الْقَوْلِيِّ أَبْلَغَ مِنَ الْإِنْسِ، فَقَالُوا: "وَلَا بِشَيء مِنْ آلَائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ" فَلَمْ يَكُنْ تَعَالَى لِيَمْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِجَزَاءٍ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يُجَازِي كَافِرَهُمْ بِالنَّارِ -وَهُوَ مَقَامُ عَدْلٍ-فَلأنْ يُجَازِيَ مُؤْمِنَهُمْ بِالْجَنَّةِ -وَهُوَ مَقَامُ فَضْل-بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ عمومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا﴾ [الكهف: ١٠٧] ، وما أَشْبَهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي جُزْءٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَهَذِهِ الْجَنَّةُ لَا يَزَالُ فِيهَا فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا، أَفَلَا يُسْكِنُهَا مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ لَهُ صَالِحًا؟ وَمَا ذَكَرُوهُ هَاهُنَا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ وَالْإِجَارَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، هُوَ يَسْتَلْزِمُ دُخُولَ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ، فَمَنْ أُجِيرَ مِنَ النَّارِ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا مَحَالَةَ. وَلَمْ يَرِدْ مَعَنَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَلَا ظَاهِرٌ عَنِ [[في أ: "من".]] الشَّارِعِ أَنَّ مُؤْمِنِي الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ أُجِيرُوا مِنَ النَّارِ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقُولُ لِقَوْمِهِ: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [نُوحٍ: ٤] ، [[في ت، أ: "ويجركم" وهو خطأ.]] وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُؤْمِنِي قَوْمِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ حُكِيَ فِيهِمْ أَقْوَالٌ غَرِيبَةٌ فَعَنْ عُمَر بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ فِي رَبَضها وَحَوْلَهَا وَفِي أَرْجَائِهَا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ يَرَاهُمْ بَنُو آدَمَ وَلَا يَرَوْنَ بَنِي آدَمَ عَكْسَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا يَأْكُلُونَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَإِنَّمَا يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّقْدِيسَ، عِوَضا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَالْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيهَا نَظَرٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُ: ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: بَلْ قُدْرَةُ اللَّهِ شَامِلَةٌ لَهُ وَمُحِيطَةٌ بِهِ، ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ﴾ أَيْ: لَا يُجِيرُهُمْ مِنْهُ أحدٌ ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وَهَذَا مقامُ تَهْدِيدٍ وَتَرْهِيبٍ، فَدَعَوا قَوْمَهُمْ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ وَلِهَذَا نَجَعَ فِي كَثِيرٍ منهم، وجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وُفُودًا وُفُودًا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
{"ayahs_start":29,"ayahs":["وَإِذۡ صَرَفۡنَاۤ إِلَیۡكَ نَفَرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤا۟ أَنصِتُوا۟ۖ فَلَمَّا قُضِیَ وَلَّوۡا۟ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِینَ","قَالُوا۟ یَـٰقَوۡمَنَاۤ إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَـٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِیقࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ","یَـٰقَوۡمَنَاۤ أَجِیبُوا۟ دَاعِیَ ٱللَّهِ وَءَامِنُوا۟ بِهِۦ یَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَیُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ","وَمَن لَّا یُجِبۡ دَاعِیَ ٱللَّهِ فَلَیۡسَ بِمُعۡجِزࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَیۡسَ لَهُۥ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءُۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ"],"ayah":"قَالُوا۟ یَـٰقَوۡمَنَاۤ إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَـٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِیقࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق