الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ فِي رِزْقِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، لَا يَنْسَى أَحَدًا مِنْهُمْ، سَوَاءٌ فِي رِزْقِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هُودٍ:٦] وَلَهَا [[في ت: "ولهذا".]] نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أَيْ: يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، ﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ أَيْ: لَا يعجزه شيء. ثُمَّ قَالَ: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ﴾ أَيْ: عَمَلَ الْآخِرَةِ ﴿نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ أَيْ: نُقَوِّيهِ وَنُعِينُهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَنُكْثِرُ نَمَاءَهُ، وَنَجْزِيهِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ ﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ أَيْ: وَمَنْ كَانَ إِنَّمَا سَعْيُهُ لِيَحْصُلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لَهُ إِلَى الْآخِرَةِ همَّة [[في ت: "وهم".]] أَلْبَتَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ، حَرَمه اللَّهُ الْآخِرَةَ وَالدُّنْيَا إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَحْصُلْ [[في أ: "يجعل".]] لَهُ لَا هَذِهِ وَلَا هَذِهِ، وَفَازَ هَذَا السَّاعِي بِهَذِهِ النِّيَّةِ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هَاهُنَا مُقَيَّدَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي "سُبْحَانَ" وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ:١٨-٢١] . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُغيرة، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [[زيادة من ت.]] قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بالسَّنَاء وَالرِّفْعَةِ، وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ" [[رواه البغوي في شرح السنة (١٤/٣٣٥) من طريق الثوري به.]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ أَيْ: هُمْ لَا يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَكَ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، بَلْ يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ، مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَتَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْقِمَارِ، إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَالْجَهَالَةِ [[في أ: "الجهالات".]] الْبَاطِلَةِ، الَّتِي كَانُوا قَدِ اخْتَرَعُوهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالْعِبَادَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ بْنِ قَمَعَة يَجُر قُصْبَه فِي النَّارِ" [[انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: ١٠٣ من سورة المائدة.]] لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ. وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَحَدَ مُلُوكِ خُزَاعَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهُوَ الَّذِي حَمَل قُرَيْشًا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ: لَعُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِنْظَارِ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ، ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أَيْ: شَدِيدٌ مُوجِعٌ [[في ت، أ: "وجيع".]] فِي جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا﴾ أَيْ: فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ أَيِ: الَّذِي يَخَافُونَ مِنْهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، هَذَا حَالُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَهُمْ فِي هَذَا الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هذا: أَيْنَ مَنْ هُوَ فِي العَرَصَات فِي الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالْخَوْفِ الْمُحَقَّقِ عَلَيْهِ بِظُلْمِهِ، مِمَّنْ هُوَ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، فِيمَا يَشَاءُ مِنْ مَآكِلَ وَمُشَارِبَ وَمَلَابِسَ وَمَسَاكِنَ وَمَنَاظِرَ وَمَنَاكِحَ وَمَلَاذَّ، فِيمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَبَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ [[في ت: "روى الحسن بن عرفة بسنده".]] عَنْ أَبِي طَيْبَة، قَالَ: إِنَّ الشَّرْب مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَتُظِلُّهُمُ السَّحَابَةُ فَتَقُولُ: مَا أمْطِرُكُم. قَالَ: فَمَا يَدْعُو دَاعٍ مِنَ [[في أ: "في".]] الْقَوْمِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ، حَتَّى إِنَّ الْقَائِلَ مِنْهُمْ لَيَقُولُ: أَمْطِرِينَا كَوَاعِبَ أَتْرَابًا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ أَيِ: الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَالنِّعْمَةُ التَّامَّةُ السابغة الشاملة العامة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب