الباحث القرآني

قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، حِينَ قَالُوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [الْمَائِدَةِ:١٨] ، وَفِي قَوْلِهِمْ: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إَلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [الْبَقَرَةَ:١١١] . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُقَدِّمُونَ الصِّبْيَانَ أَمَامَهُمْ فِي الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ يَؤُمُّونَهُمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا ذَنْبَ لَهُمْ [[في أ: "لا ذنوب لهم".]] . وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو مَالِكٍ. رَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنَّ أَبْنَاءَنَا تُوُفُّوا وَهُمْ لَنَا قُرْبَةٌ، وَسَيَشْفَعُونَ لَنَا وَيُزَكُّونَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ [ﷺ] [[زيادة من أ.]] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾ [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو [[في أ: "عمرة".]] عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ يُقَدِّمُونَ صِبْيَانَهُمْ يُصَلُّونَ بِهِمْ، وَيُقَرِّبُونَ قُرْبَانَهُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا خَطَايَا لَهُمْ وَلَا ذُنُوبَ. وَكَذَبُوا. قَالَ [[في أ: "فقال".]] اللَّهُ [تَعَالَى] [[زياد من أ.]] إِنِّي لَا أُطَهِّرُ ذَا ذَنْبٍ بِآخِرَ لَا ذَنْبَ لَهُ" وَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ -نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَالُوا: لَيْسَ لَنَا ذُنُوبٌ، كَمَا لَيْسَ لِأَبْنَائِنَا ذُنُوبٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ذَمِّ التَّمَادُحِ وَالتَّزْكِيَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ [[في أ: "عن".]] مُسْلِمٍ، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَحْثُوَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ [[صحيح مسلم برقم (٣٠٠٢)]] . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُخْرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحِذَاءِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سَمِعَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: "وَيْحَكَ. قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ". ثُمَّ قَالَ: "إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُهُ كَذَا وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا" [[صحيح البخاري برقم (٢٦٦٢) وصحيح مسلم برقم (٣٠٠٠) .]] . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ، فَهُوَ كَافِرٌ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ عَالَمٌ، فَهُوَ جَاهِلٌ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ، فَهُوَ فِي النار [[رواه حنبل بن إسحاق عن أحمد به كما في مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحافظ ابن كثير (٢/ ٥٧٤) .]] وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِرَأْيِهِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَالَمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، فَهُوَ فِي النَّارِ [[ذكره ابن كثير في مسند عمر بن الخطاب (٢/٥٧٤) وطلحة لم يدرك عمر فهو منقطع]] . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شعبة وَحَجَّاجٌ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ قَلَّمَا يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: وَكَانَ قَلَّمَا يَكَادُ أَنْ يَدَعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِنَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوٌ خَضِرٌ، فَمَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ" [[المسند (٤/٩٣) .]] . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْهُ: "إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ" عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ [[سنن ابن ماجة برقم (٣٧٤٣) وقال البوصيري في الزوائد (٣/١٨١) : "هذا إسناد حسن، معبد مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات".]] . وَمَعْبَدٌ هَذَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُوَيْمٍ الْبَصْرِيُّ الْقَدَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْدُو بِدِينِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ وَمَا مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، يَلْقَى الرَّجُلَ لَيْسَ يَمْلِكُ لَهُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا فَيَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ كَيْتُ وَكَيْتُ [[في ر، أ: "إنك لذيت وذيت".]] فَلَعَلَّهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَمْ [[في أ: "وما".]] يَحِلَّ مِنْ حَاجَتِهِ بِشَيْءٍ وَقَدْ أَسْخَطَ اللَّهَ. ثُمَّ قَرَأَ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الْآيَةَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُطَوَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النَّجْمِ:٣٢] . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ أَيْ: الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ [[في أ: "تعالى".]] لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَغَوَامِضِهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾ أَيْ: وَلَا يُتْرَكُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَجْرِ مَا يُوَازِنُ مِقْدَارَ الْفَتِيلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ مَا يَكُونُ فِي شِقِّ النَّوَاةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ مَا فَتَلْتَ بين أصابعك. وكلا القولين متقارب. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ أَيْ: فِي تَزْكِيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَقَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [الْبَقَرَةِ:١١١] وَقَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [الْبَقَرَةِ:٨٠] وَاتِّكَالِهِمْ [[في أ: "تميزهم باتكالهم".]] عَلَى أَعْمَالِ آبَائِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ حَكَمَ الله أن أعمال الْآبَاءِ لَا تُجْزِي عَنِ الْأَبْنَاءِ شَيْئًا، فِي قَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ أُمَةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [[زيادة من ر، أ.]] ﴾ [الْبَقَرَةِ:١٤١] . ثُمَّ قَالَ: ﴿وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ أَيْ: وَكَفَى بِصُنْعِهِمْ [[في د: "بصنيعهم".]] هَذَا كَذِبًا وَافْتِرَاءً ظَاهِرًا. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ أَمَّا "الْجِبْتُ" فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: "الْجِبْتُ": السِّحْرُ، وَ "الطَّاغُوتُ": الشَّيْطَانُ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، [وَأَبِي مَالِكٍ] [[زياد من ر، أ.]] وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَعَطِيَّةَ: "الْجِبْتُ" الشَّيْطَانُ -زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْحَبَشِيَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "الْجِبْتُ": الشِّرْكُ. وَعَنْهُ: "الْجِبْتُ": الْأَصْنَامُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: "الْجِبْتُ": الْكَاهِنُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الْجِبْتُ": حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: "الْجِبْتُ": كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو نَصْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ الْجَوْهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ "الصِّحَاحِ": "الْجِبْتُ" كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الصَّنَمِ وَالْكَاهِنِ [[في ر: "الكافر".]] وَالسَّاحِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: "الطِّيَرَةُ وَالْعِيَافَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ" قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ مِنْ مَحْضِ الْعَرَبِيَّةِ، لِاجْتِمَاعِ الْجِيمِ وَالتَّاءِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ [[في أ: "في حرف واحد".]] مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ ذَوْلَقِيٍّ. [[الصحاح (١/٢٤٥)]] وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذكره، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا، عَوْفٌ عَنْ حَيَّانَ أَبِي الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا قَطَنُ بْنُ قَبِيصَةَ، عَنْ أَبِيهِ -وَهُوَ قَبِيصَةُ بْنُ مُخَارِقٍ-أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "إِنَّ الْعِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الْجِبْتِ" وَقَالَ عَوْفٌ: "الْعِيَافَةُ": زَجْرُ الطَّيْرِ، وَ"الطَّرْقُ": الْخَطُّ، يُخَطُّ فِي الْأَرْضِ، وَ"الْجِبْتُ" قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ الشَّيْطَانُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، بِهِ [[المسند (٥/٦٠) وسنن أبي داود برقم (٣٩٠٧) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١١٠٨) .]] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى "الطَّاغُوتِ" فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الضَّيْفِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ "الطَّوَاغِيتِ" فَقَالَ: هُمْ كُهَّانٌ تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الطَّاغُوتُ": الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ صَاحِبُ أَمْرِهِمْ. وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: "الطَّاغُوتُ": هُوَ كُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا﴾ أَيْ: يُفَضِّلُونَ الْكَفَّارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِجَهْلِهِمْ، وَقِلَّةِ دِينِهِمْ، وَكَفْرِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمَقْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ، فَأَخْبِرُونَا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ. فَقَالُوا: نَحْنُ نَصِلُ الْأَرْحَامَ، وَنَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ، وَنَسْقِي الْمَاءَ عَلَى اللَّبَنِ، وَنَفُكُّ الْعُنَاةَ، وَنَسْقِي الْحَجِيجَ -وَمُحَمَّدٌ صُنْبُورٌ، قَطَّعَ أَرْحَامَنَا، وَاتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ بَنُو [[في د: "من".]] غِفَارٍ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَقَالُوا: أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى سَبِيلًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا] [[زيادة من ر، أ.]] ﴾ . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: أَلَا تَرَى هَذَا الصُّنْبُورَ الْمُنْبَتِرَ مِنْ قَوْمِهِ؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا، وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ، وَأَهْلُ السِّدَانَةِ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ! قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ. قَالَ فَنَزَلَتْ [[في أ: "فنزلت فيهم".]] ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ﴾ [الْكَوْثَرِ:٣] وَنَزَلَ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إِلَى ﴿نَصِيرًا﴾ . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَسَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ أَبُو رَافِعٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَبُو عَمَّارٍ، وَوَحْوَحُ [[في أ: "دحرج".]] بْنُ عَامِرٍ، وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ. فَأَمَّا وَحْوَحُ [[في أ: "دحرج".]] وَأَبُو عَمَّارٍ وَهَوْذَةُ فَمِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَكَانَ سَائِرُهُمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكُتُبِ الْأُوَلِ [[في ر، أ: "الأولى".]] فَسَلُوهُمْ: أَدِينُكُمْ خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ؟ فَسَأَلُوهُمْ، فَقَالُوا: بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ وَمِمَّنِ اتَّبَعَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا. أُولَئِك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا] [[زيادة من أ.]] ﴾ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ . وَهَذَا لَعْنٌ لَهُمْ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا ذَهَبُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم، وجاؤوا مَعَهُمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، حَتَّى حَفَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ الْخَنْدَقَ، فَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الْأَحْزَابِ:٢٥] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب