الباحث القرآني
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ أَنْ يُنْفِقُوهَا فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ -مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَالْجَارِ الجُنُب، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنَ الْأَرِقَّاءِ -وَلَا يَدْفَعُونَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأ مِنَ الْبُخْلِ؟ ". وَقَالَ: "إِيَّاكُمْ والشّحَ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بالقطيعةِ فقطعوا، وأمرهم بالفجور فَفَجَرُوا" [[رواه أبو دواد في السنن برقم (٦٦٩٨) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عنه.]] .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ فَالْبَخِيلُ جَحُود لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِ وَلَا تَبِينُ، لَا فِي أَكْلِهِ [[في أ: "مأكله".]] وَلَا فِي مَلْبَسِهِ، وَلَا فِي إِعْطَائِهِ وَبَذْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الإنْسَاَن لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [الْعَادِيَاتِ: ٦، ٧] أَيْ: بِحَالِهِ وَشَمَائِلِهِ، ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [الْعَادِيَاتِ: ٨] وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وَلِهَذَا توعَّدهم بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ وَالْكَفْرُ هُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، فَالْبَخِيلُ يَسْتُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَكْتُمُهَا وَيَجْحَدُهَا، فَهُوَ كَافِرٌ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ نِعْمَةً عَلَى عبدٍ أحبَّ أَنْ يَظْهَرَ أثرُها عَلَيْهِ" [[رواه الترمذي في سننه برقم (٢٨١٩) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عنه، ولفظة: "إن اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عبده.]] وَفِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: "وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثِنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قَابِلِيهَا -وَيُرْوَى: قَائِلِيهَا-وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا" [[رواه أبو داود في سننه برقم (٩٦٩) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.]] .
وَقَدْ حَمَلَ بعضُ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى بُخْلِ الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ الْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَهُمْ، مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَكِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّيَاقَ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالضُّعَفَاءِ، وَكَذَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ فَذَكر الْمُمْسِكِينَ الْمَذْمُومِينَ وَهُمُ الْبُخَلَاءُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَاذِلِينَ الْمُرَائِينَ الَّذِي يَقْصِدُونَ بِإِعْطَائِهِمُ السُّمْعَةَ وَأَنْ يُمدَحوا بِالْكَرَمِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، وَفِي حديث الَّذِي فِيهِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَجَّرُ بِهِمُ النَّارُ، وَهُمْ: الْعَالِمُ وَالْغَازِي وَالْمُنْفِقُ، وَالْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، يَقُولُ صَاحِبُ الْمَالِ: مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهِ إِلَّا أَنْفَقْتُ فِي سَبِيلِكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ؛ إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ. أَيْ: فَقَدْ أَخَذْتَ جَزَاءَكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي أَرَدْتَ بِفِعْلِكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِعَدِيّ: "إِنَّ أَبَاكَ رامَ أَمْرًا فَبَلَغَهُ".
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدعان: هَلْ يَنْفَعُهُ إنفاقُه، وإعتاقُه؟ فَقَالَ: "لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ".
وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا] [[زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".]] ﴾ أَيْ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ هَذَا القبيحِ وَعُدُولِهِمْ عَنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ عَلَى وَجْهِهَا الشيطانُ؛ فَإِنَّهُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، وَقَارَنَهُمْ فَحَسَّنَ لَهُمُ الْقَبَائِحَ ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ وَلِهَذَا قال الشاعر [[الشاعر هو عدي بن زيد، والبيت في تفسير الطبري (٨/٣٥٨) .]] عَن المَرْء لَا تَسْأل وسَلْ عَنْ قَرينه ... فكلُّ قَرِينٍ بِالْمَقَارَنِ يَقْتَدي [[في أ: "مقتدي".]]
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ [وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا] [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] ﴾ أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَكرثُهم لَوْ سَلَكُوا الطَّرِيقَ الْحَمِيدَةَ، وعَدَلُوا عَنِ الرِّيَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَرَجَاءِ مَوْعُودِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لِمَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ أَيْ: وَهُوَ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالْفَاسِدَةِ، وَعَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ التَّوْفِيقَ مِنْهُمْ فَيُوَفِّقُهُ وَيُلْهِمُهُ رُشْدَهُ وَيُقَيِّضُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ يَرْضَى بِهِ عَنْهُ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِذْلَانَ وَالطَّرْدَ عَنْ جَنَابِهِ الْأَعْظَمِ الْإِلَهِيِّ، الَّذِي مَنْ طُرِدَ عَنْ بَابِهِ فَقَدْ خَابَ وخَسِرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ [بِلُطْفِهِ الْجَزِيلِ] [[زيادة من ر، أ.]] .
{"ayahs_start":37,"ayahs":["ٱلَّذِینَ یَبۡخَلُونَ وَیَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَیَكۡتُمُونَ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا","وَٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ رِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ وَلَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۗ وَمَن یَكُنِ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لَهُۥ قَرِینࣰا فَسَاۤءَ قَرِینࣰا","وَمَاذَا عَلَیۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَأَنفَقُوا۟ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِمۡ عَلِیمًا"],"ayah":"ٱلَّذِینَ یَبۡخَلُونَ وَیَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَیَكۡتُمُونَ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق