الباحث القرآني

تَفْسِيرُ سُورَةِ الزُّمَرِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. قَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ مَرْوَانَ أَبِي لُبَابَةَ [[في ت: "روى النسائي بإسناده عن عائشة".]] ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ. وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ. وَكَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمَرَ [[النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٤٤) .]] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * * * يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ تَنْزِيلَ هَذَا الْكِتَابِ -وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ-مِنْ عِنْدِهِ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَهُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشُّعَرَاءِ:١٩٢-١٩٥] . وَقَالَ: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ:٤٢، ٤١] . وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ﴾ أَيِ: الْمَنِيعِ الْجَنَابِ، ﴿الْحَكِيمِ﴾ أَيْ: فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَشَرْعِهِ، وَقَدَرِهِ. ﴿إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ أَيْ: فَاعْبُدِ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَادْعُ الْخَلْقَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ [وَحْدَهُ] [[زيادة من ت، أ.]] ، وَأَنَّهُ [[في ت: "فإنه".]] لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ وَلَا عَدِيلٌ وَلَا نَدِيدٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ أَيْ: لَا يُقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا أَخْلَصَ فِيهِ الْعَامِلُ لِلَّهِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عُبّاد الْأَصْنَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ لَهُمْ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى أَصْنَامٍ اتَّخَذُوهَا عَلَى صُوَرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي زَعْمِهِمْ، فَعَبَدُوا [[في أ: "فعدوا".]] تِلْكَ الصُّوَرَ تَنْزِيلًا لِذَلِكَ مَنْزِلَةَ عِبَادَتِهِمُ الْمَلَائِكَةَ؛ لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عند الله في نَصْرِهِمْ وَرِزْقِهِمْ، وَمَا يَنُوبُهُمْ مِنْ أَمْرِ [[في س، أ: "أمور".]] الدُّنْيَا، فَأَمَّا الْمَعَادُ فَكَانُوا جَاحِدِينَ لَهُ كَافِرِينَ بِهِ. قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَابْنِ زَيْدٍ: ﴿إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ أَيْ: لِيَشْفَعُوا لَنَا، وَيُقَرِّبُونَا عِنْدَهُ مَنْزِلَةً. وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ إِذَا حَجُّوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ: "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ [[في أ": "لك لبيك".]] ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ". وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْمُشْرِكُونَ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، وَجَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، بِرَدِّهَا وَالنَّهْيِ عَنْهَا، وَالدَّعْوَةِ إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ اخْتَرَعَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ وَلَا رَضِيَ بِهِ، بَلْ أَبْغَضَهُ وَنَهَى عَنْهُ: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النَّحْلِ:٣٦] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ:٢٥] . وَأَخْبَرَ أَنَّ الملائكة التي في السموات مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَغَيْرِهِمْ، كُلَّهُمْ عَبِيدٌ خَاضِعُونَ لِلَّهِ، لَا يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِمَنِ ارْتَضَى، وَلَيْسُوا عِنْدَهُ كَالْأُمَرَاءِ عِنْدَ مُلُوكِهِمْ، يُشَفَّعُونَ عِنْدَهُمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فِيمَا أَحَبَّهُ الْمُلُوكُ وَأَبَوْهُ، ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ﴾ [النَّحْلِ:٧٤] ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أَيْ: سَيَفْصِلُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [[في أ: "نقول".]] [سَبَأٍ:٤١، ٤٠] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ أَيْ: لَا يُرْشِدُ إِلَى الْهِدَايَةِ مَنْ قَصْدُهُ [[في أ: "قصد".]] الْكَذِبُ وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ، وَقَلْبُهُ كَفَّارٌ يَجْحَدُ بِآيَاتِهِ [وَحُجَجِهِ] [[زيادة من أ.]] وَبَرَاهِينِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ كَمَا يَزْعُمُهُ جَهَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَالْمُعَانِدُونَ [[في أ: "المعاندين".]] مَنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْعُزَيْرِ، وَعِيسَى فَقَالَ: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أَيْ: لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا يَزْعُمُونَ [[في س: "تزعمون".]] . وَهَذَا شَرْطٌ لَا يَلْزَمُ وُقُوعُهُ وَلَا جَوَازُهُ، بَلْ هُوَ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَجْهِيلَهُمْ [[في أ: "بجهلهم".]] فِيمَا ادَّعَوْهُ وَزَعَمُوهُ، كَمَا قَالَ: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ:١٧] ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزُّخْرُفِ:٨١] ، كُلُّ هَذَا مِنْ بَابِ الشَّرْطِ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الشَّرْطِ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ أَيْ: تَعَالَى وَتَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ عَبْدٌ لَدَيْهِ، فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ الَّذِي قَدْ قَهَرَ الْأَشْيَاءَ فَدَانَتْ لَهُ وَذَلَّتْ وَخَضَعَتْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب