يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ، ﷺ تَسْلِيمًا، أَنْ يَأْمُرَ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ -خَاصَّةً أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتِهِ لِشَرَفِهِنَّ -بِأَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لِيَتَمَيَّزْنَ عَنْ سِمَاتِ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَسِمَاتِ الْإِمَاءِ. وَالْجِلْبَابُ هُوَ: الرِّدَاءُ فَوْقَ الْخِمَارِ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُبَيْدَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ الْيَوْمَ.
قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ: الْجِلْبَابُ: الْمِلْحَفَةُ، قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ هُذَيْلٍ تَرْثِي قَتِيلًا لَهَا:
تَمْشي النُّسور إِلَيْهِ وَهْيَ لاهيةٌ ... مَشْيَ العَذَارى عَلَيْهِنَّ الجَلابيبُ [[الصحاح (١/١٠١) .]]
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ [[في ت، ف، أ: "المؤمنات".]] إذا خرجن من بيوتهن في حَاجَةٍ أَنْ يُغَطِّينَ وُجُوهَهُنَّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِنَّ بِالْجَلَابِيبِ، وَيُبْدِينَ عَيْنًا وَاحِدَةً.
وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: سَأَلْتُ عَبيدةَ السَّلْمَانِيَّ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾ ، فَغَطَّى وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَأَبْرَزَ عَيْنَهُ الْيُسْرَى.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تُغَطِّي ثُغْرَة نَحْرِهَا بِجِلْبَابِهَا تُدْنِيهِ عَلَيْهَا.
وَقَالَ [[في ت: "وروى".]] ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهراني [[في أ: "الطبراني".]] فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ خُثَيْم، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾ ، خَرَجَ نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الْغِرْبَانُ مِنَ السَّكِينَةِ، وَعَلَيْهِنَّ أَكْسِيَةٌ سُودٌ يَلْبَسْنَهَا [[تفسير عبد الرزاق (٢/١٠١) ورواه الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عن عائشة مثله، وأخرجه البخاري في صحيحه برقم (٤٧٥٩) .]] .
وَقَالَ [[في ت: "وروى".]] ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: وَسَأَلْنَاهُ [[في ت: "سئل".]] يَعْنِي: الزُّهْرِيَّ -: هَلْ عَلَى الْوَلِيدَةِ خِمَارٌ مُتَزَوِّجَةٌ أَوْ غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ؟ قَالَ: عَلَيْهَا الْخِمَارُ إِنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، وَتُنْهَى عَنِ الْجِلْبَابِ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُنَّ أَنْ يَتَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ إِلَّا مُحَصَّنَاتٍ [[في أ: "بالحرائر المحصنات".]] . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾ .
وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى زِينَةِ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، إِنَّمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ؛ لَا لِحُرْمَتِهِنَّ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ﴾ أَيْ: إِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ عُرِفْنَ أنَّهن حَرَائِرُ، لَسْنَ بِإِمَاءٍ وَلَا عَوَاهِرَ، قَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ] قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ﴾ [[زيادة من أ.]] قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَخْرُجُونَ بِاللَّيْلِ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ إِلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ، يَتَعَرَّضُونَ لِلنِّسَاءِ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ضَيِّقة، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ النِّسَاءُ إِلَى الطُّرُقِ يَقْضِينَ حَاجَتَهُنَّ، فَكَانَ أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ يَبْتَغُونَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، فَإِذَا رَأَوُا امْرَأَةً عَلَيْهَا جِلْبَابٌ قَالُوا: هَذِهِ حُرَّةٌ، كُفُّوا عَنْهَا. وَإِذَا رَأَوُا الْمَرْأَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا جِلْبَابٌ، قَالُوا: هَذِهِ أَمَةٌ. فَوَثَبُوا إِلَيْهَا [[في ت، ف: "عليها".]] .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَجَلْبَبْنَ فَيُعْلَمُ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُنَّ فَاسِقٌ بِأَذًى وَلَا رِيبَةٍ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أَيْ: لِمَا سَلَفَ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُنَّ عِلْمٌ بِذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِلْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ: ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ قَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: هُمُ الزُّنَاةُ هَاهُنَا ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ يعني: الذين يقولون: "جاء الْأَعْدَاءُ" وَ"جَاءَتِ الْحُرُوبُ"، وَهُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ وَيَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: لنسلطنَّك عَلَيْهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: لنحرّشَنَّك بِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَنُعْلِمَنَّكَ بِهِمْ.
﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا﴾ أَيْ: فِي الْمَدِينَةِ ﴿إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ﴾ حَالٌ مِنْهُمْ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ مُدَّةً قريبة مطرودين مبعدين، ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ أَيْ: وُجِدُوا، ﴿أُخِذُوا﴾ لِذِلَّتِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ، ﴿وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا﴾ .
ثُمَّ قَالَ: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: هَذِهِ سُنَّتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ إِذَا تَمَرَّدُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَلَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ، أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ وَيَقْهَرُونَهُمْ، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾ أَيْ: وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ لَا تُبَدَّلُ وَلَا تُغَيَّرُ.
{"ayahs_start":59,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ قُل لِّأَزۡوَ ٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاۤءِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ یُدۡنِینَ عَلَیۡهِنَّ مِن جَلَـٰبِیبِهِنَّۚ ذَ ٰلِكَ أَدۡنَىٰۤ أَن یُعۡرَفۡنَ فَلَا یُؤۡذَیۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا","۞ لَّىِٕن لَّمۡ یَنتَهِ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِی ٱلۡمَدِینَةِ لَنُغۡرِیَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا یُجَاوِرُونَكَ فِیهَاۤ إِلَّا قَلِیلࣰا","مَّلۡعُونِینَۖ أَیۡنَمَا ثُقِفُوۤا۟ أُخِذُوا۟ وَقُتِّلُوا۟ تَقۡتِیلࣰا","سُنَّةَ ٱللَّهِ فِی ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰا"],"ayah":"۞ لَّىِٕن لَّمۡ یَنتَهِ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِی ٱلۡمَدِینَةِ لَنُغۡرِیَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا یُجَاوِرُونَكَ فِیهَاۤ إِلَّا قَلِیلࣰا"}