الباحث القرآني

هَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، يُخْبِرُهُ عَنْ نُوحٍ [[في ت: "قوم نوح".]] عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ مَكَثَ [[في أ: "لبث".]] فِي قَوْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرًّا، وجهارًا، وَمَعَ هَذَا مَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا فِرَارًا عَنِ الْحَقِّ، وَإِعْرَاضًا عَنْهُ وَتَكْذِيبًا لَهُ، وَمَا آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مَا نَجَعَ فِيهِمُ الْبَلَاغُ وَالْإِنْذَارُ، فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ -لَا تَأْسَفْ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِكَ مِنْ قَوْمِكَ، وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيَضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَبِيَدِهِ الْأَمْرُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُ [[في ف: "يرجع".]] الْأُمُورُ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يُونُسَ: ٩٦،٩٧] ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُكَ وَيَنْصُرُكَ وَيُؤَيِّدُكَ، وَيُذِلُّ عَدُوَّكَ، وَيَكْبِتُهُمْ وَيَجْعَلُهُمْ أَسْفَلَ السَّافِلِينَ. قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ ماهَك [[في أ: "وائل".]] ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ، وَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ عَامًا، حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشَوْا. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُقَالُ إِنَّ عُمُرَهُ كُلَّهُ [كَانَ] [[زيادة من ت، ف، أ.]] أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، لَبِثَ فِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ ثَلَثَمِائَةِ سَنَةٍ، وَدَعَاهُمْ ثَلَثَمِائَةٍ وَلَبِثَ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ أَبِي شَدَّادٍ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ وَثَلَثَمِائَةِ سَنَةٍ، فَدَعَاهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَقْرَبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عُمَرَ: كَمْ لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا. قَالَ: فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا فِي نُقْصَانٍ مِنْ أَعْمَارِهِمْ وَأَحْلَامِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ إِلَى يَوْمِكَ هَذَا. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ أَيِ: الَّذِينَ آمَنُوا بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ تقدَّم ذِكْرُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ "هُودٍ"، وتقدَّم تَفْسِيرُهُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ أَيْ: وَجَعَلْنَا تِلْكَ السَّفِينَةَ بَاقِيَةً، إِمَّا عَيْنُهَا كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهَا بَقِيَتْ إِلَى أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى جَبَلِ الْجُودِيِّ، أَوْ نَوْعُهَا جَعَلَهُ لِلنَّاسِ تَذْكِرَةً لِنِعَمِهِ عَلَى الْخَلْقِ، كَيْفَ نَجَّاهُمْ مِنَ الطُّوفَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [يس: ٤١-٤٤] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ. لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الْحَاقَّةِ: ١١، ١٢] ، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّدْرِيجِ مِنَ الشَّخْصِ إِلَى الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ [الْمُلْكِ: ٥] أَيْ: وَجَعَلَنَا نَوْعَهَا، فَإِنَّ الَّتِي يُرْمَى [[في ف: "ترمى"]] بِهَا لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ [[في أ: "السماء".]] . وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢، ١٣] ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَوْ قِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾ [[في ت: "وجعلناها آية للعالمين".]] ، عَائِدٌ إِلَى الْعُقُوبَةِ، لَكَانَ وَجْهًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب