الباحث القرآني

وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ، أَيْ: بِمَجِيءِ السَّحَابِ بَعْدَهَا، وَالرِّيَاحُ أَنْوَاعٌ، فِي صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّسْخِيرِ، فَمِنْهَا مَا يُثِيرُ السَّحَابَ، وَمِنْهَا مَا يَحْمِلُهُ، وَمِنْهَا مَا يَسُوقُهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ مبشِّرا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ يَقُمّ الْأَرْضَ، وَمِنْهَا مَا يَلْقَحُ السَّحَابَ لِيُمْطِرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ أَيْ: آلَةً يُتَطَهَّرُ بِهَا، كالسَّحُور وَالْوَقُودِ [[في أ: "والوجود".]] وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. فَهَذَا أَصَحُّ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَوْ: إِنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ أَوِ التَّعَدِّي، فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا [[في أ: "منها".]] إِشْكَالَاتٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَالْحُكْمُ، لَيْسَ [[في ف، أ: "وليس".]] هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، حَدَّثَنِي حُمَيد الطَّوِيلُ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ، وَطُرُقُ الْبَصْرَةِ قَذِرَةٌ، فَصَلَّى، فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: ﴿وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ قَالَ: طَهَّرَهُ مَاءُ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا وُهَيب [[في أ: "وهب".]] عَنْ دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [قَالَ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَاءً طَاهِرًا] [[زيادة من ف، أ.]] لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ -وَهِيَ بِئْرٌ يُلقَى فِيهَا النَّتَن، وَلُحُومُ الْكِلَابِ -فَقَالَ: "إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ [[الأم للشافعي (١/٩) والمسند (٣/١٥) وسنن أبي داود برقم (٦٦) وسنن الترمذي برقم (٦٦) وسنن النسائي (١/١٧٤) .]] . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ سَيَّار، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَذَكَرُوا الْمَاءَ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ: مِنْهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْهُ مَا يَسْقِيهِ الْغَيْمُ مِنَ الْبَحْرِ فَيُعْذِبه الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ. فَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْبَحْرِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ نَبَاتٌ، فَأَمَّا النَّبَاتُ فَمِمَّا كَانَ مِنَ السَّمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَةً إِلَّا أَنْبَتَ بِهَا فِي الْأَرْضِ عُشْبَةً أَوْ فِي الْبَحْرِ لُؤْلُؤَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي الْبَرِّ بُر، وَفِي الْبَحْرِ دُرّ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ أَيْ: أَرْضًا قَدْ طَالَ انْتِظَارُهَا لِلْغَيْثِ، فَهِيَ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ. فَلَمَّا جَاءَهَا الْحَيَا عَاشَتْ وَاكْتَسَتْ رُبَاهَا أَنْوَاعُ الْأَزَاهِيرِ وَالْأَلْوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الْحَجِّ: ٥] . ﴿وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا﴾ أَيْ: وَلِيَشْرَبَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ مِنْ أَنْعَامٍ وَأَنَاسِيِّ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْحَاجَةِ، لِشُرْبِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشُّورَى: ٢٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الرُّومِ: ٥٠] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾ أَيْ: أَمْطَرْنَا هَذِهِ الْأَرْضَ دُونَ هَذِهِ، وَسُقْنَا السَّحَابَ فَمَرَّ عَلَى الْأَرْضِ وَتَعَدَّاهَا وَجَاوَزَهَا إلى الأرض الأخرى، [فأمطرتها وكفتها فجعلتها عذقا، وَالَّتِي وَرَاءَهَا] [[زيادة من ف، أ.]] لَمْ يَنْزِلْ فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَالْحِكْمَةُ القاطعة. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا﴾ . أَيْ: لِيَذَّكَّرُوا بِإِحْيَاءِ اللَّهِ الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ [[في ف، أ: "الموتى".]] . وَالْعِظَامِ الرُّفَاتِ. أَوْ: لِيَذَّكَّرَ مِنْ مَنْعِ القَطْر أَنَّمَا أَصَابَهُ ذَلِكَ بِذَنْبٍ أَصَابَهُ، فَيُقْلِعُ عَمَّا هُوَ فِيهِ. وَقَالَ عُمَر مَوْلَى غُفْرَة [[في ف، أ: "عقبة".]] : كَانَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: "يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَعْلَمَ أمْرَ السَّحَابِ؟ " قَالَ: فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا مَلِكُ السَّحَابِ فَسَلْهُ. فَقَالَ: تَأْتِينَا صَكاك مُخَتَّمة: اسْقِ بِلَادَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا قَطْرَةً. رَوَاهُ ابْنُ حَاتِمٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا﴾ : قَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي: الَّذِينَ [[في أ: "الذي".]] يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بنَوء كَذَا وَكَذَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِكْرِمَةُ كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ الْمُخْرَجِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يوماً، عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ أَصَابَتْهُمْ مِنَ اللَّيْلِ: "أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ كَافِرٌ بِي، مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ" [[صحيح مسلم برقم (٧١) من حديث زيد بن خالد الجهني.]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب