الباحث القرآني

يُقَرِّرُ تَعَالَى وَحْدَانِيَّتَهُ، وَاسْتِقْلَالَهُ بِالْخَلْقِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْمُلْكِ، لِيُرْشِدَ إِلَى أَنَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ، الْمُعْتَرِفِينَ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهَا، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ أَشْرَكُوا مَعَهُ في الْإِلَهِيَّةِ، فَعَبَدُوا غَيْرَهُ مَعَهُ، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ أَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَلَا يَسْتَبِدُّونَ بِشَيْءٍ، بَلِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى: ﴿مَا [[في أ: "إنما" وهو خطأ]] نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزُّمَرِ: ٣] ، فَقَالَ: ﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا﴾ أَيْ: مَنْ مَالِكُهَا الَّذِي خَلَقَهَا وَمَنْ [[في ف، أ: "وما".]] فِيهَا مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالثَّمَرَاتِ، وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أَيْ: فَيَعْتَرِفُونَ لَكَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ [[في ف، أ: "كذلك".]] ﴿قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [أَيْ: لَا تَذَكَّرُونَ] [[زيادة من ف، أ.]] أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي [[في أ: "يليق".]] الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلْخَالِقِ الرَّازِقِ [[في ف: "الرزاق".]] لَا لِغَيْرِهِ. ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ أَيْ: مَنْ هُوَ خَالِقُ الْعَالَمِ العُلْوي بِمَا فِيهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَاتِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْخَاضِعِينَ لَهُ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ مِنْهَا وَالْجِهَاتِ، وَمَنْ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، يَعْنِي: الَّذِي هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّ [[في ف: "لأن".]] عَرْشَهُ عَلَى سمواته هَكَذَا" وَأَشَارَ بِيَدِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ [[سنن أبي داود برقم (٤٧٢٦) عن حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.]] . وَفِي الْحَدِيثِ الآخر: "ما السموات السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَإِنَّ الْكُرْسِيَّ بِمَا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ كَتِلْكَ الْحَلْقَةِ فِي تِلْكَ الْفَلَاةِ" [[رواه الطبري في تفسيره (٥/٣٩٩) من طريق ابن وهب عن ابن زيد عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وقد سبق من رواية ابن مردوية عند تفسير الآية: ٢ من سورة الرعد.]] . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مَسَافَةَ مَا بَيْنَ قُطْرَيِ الْعَرْشِ مِنْ جَانبٍ إِلَى جَانبٍ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، [وَارْتِفَاعُهُ عَنِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ] [[زيادة من أ.]] . وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عن كعب الأحبار: إن السموات وَالْأَرْضَ فِي الْعَرْشِ، كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض. وقال مجاهد: ما السموات وَالْأَرْضُ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلَقَةٍ فِي أَرْضِ فَلاة. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ سَالِمٍ، حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا [[في أ: "عن".]] سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهني [[في أ: "الذهبي".]] ، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِين، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابن عباس قال: الْعَرْشُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ [[ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش (ق ١١٤) والحاكم في المستدرك (٢/٢٨٢) من طريق الضحاك بن مخلد عن سفيان عن عمار الذهني بِهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: "صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ولم يخرجاه" وأقره الذهبي.]] . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْعَرْشُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ. وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ يَعْنِي: الْكَبِيرَ: وَقَالَ فِي آخر السورة: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ أَيِ: الْحَسَنِ الْبَهِيِّ. فَقَدْ جَمَعَ الْعَرْشُ بَيْنَ الْعَظَمَةِ فِي الِاتِّسَاعِ وَالْعُلُوِّ، وَالْحُسْنِ الْبَاهِرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ [[في أ: "فوق".]] الْعَرْشِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ أي: إذا كنتم تعترفون [[في أ: "تعرفون".]] بأنه رب السموات وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَفَلَا تَخَافُونَ عِقَابَهُ وَتَحْذَرُونَ عَذَابَهُ، فِي عِبَادَتِكُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ وَإِشْرَاكِكُمْ بِهِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا الْقُرَشِيُّ فِي كِتَابِ "التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ": حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ [[في ف، أ: "عبيد الله".]] بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُ عَنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، مَعَهَا ابْنٌ لَهَا يَرْعَى غَنَمًا، فَقَالَ لَهَا ابْنُهَا: يَا أُمَّاهُ، مَنْ خَلَقَكِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ أَبِي؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَنِي؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْجَبَلَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ هَذِهِ الْغَنَمَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَإِنِّي أَسْمَعُ لِلَّهِ شَأْنًا ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ فَتَقَطَّعَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُنَا هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: كَانَ [[في ف: "وكان".]] ابْنُ عُمَرَ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ. قُلْتُ: فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ [[في أ: "عبيد الله".]] بْنُ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيُّ، وَالِدُ الْإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ [[ورواه ابن عدي في الكامل (٤/١٧٨) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن عبد الله بن جعفر به، وقال: "غير محفوظ لا يحدث به عن ابن دينار غير عبد الله بن جعفر" وعبد الله بن جعفر المديني ضعيف عند الأئمة.]] . ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أَيْ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ، ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ [هُودٍ: ٥٦] ، أَيْ: مُتَصَرِّفٌ فِيهَا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ"، وَكَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ [[في أ: "يقول".]] : " لَا وَمُقَلِّبَ الْقُلُوبِ"، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ كَانتِ الْعَرَبُ إِذَا كَانَ السَّيِّدُ فِيهِمْ فَأَجَارَ أَحَدًا، لَا يُخْفَر فِي جِوَارِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ دُونَهُ أَنْ يُجِيرَ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يَفْتَاتَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ: ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ أَيْ: وَهُوَ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، وَمَا شَاءَ [[في ف، أ: "وما شاء الله".]] كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَقَالَ اللَّهُ: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] ، أَيْ: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ؛ لِعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ، وعزته وحكمته [[في ف، أ: "وحكمته وعدله".]] ، والخلق كلهم يُسألون عن أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الْحِجْرِ: ٩٢، ٩٣] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أَيْ: سَيَعْتَرِفُونَ أَنَّ السَّيِّدَ الْعَظِيمَ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ أَيْ: فَكَيْفَ تَذْهَبُ عُقُولُكُمْ فِي عِبَادَتِكُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ مَعَ اعْتِرَافِكُمْ وَعِلْمِكُمْ بِذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ﴾ ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَقَمْنَا الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الْوَاضِحَةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى ذَلِكَ، ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أَيْ: فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ ، فَالْمُشْرِكُونَ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ [عَنْ دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْإِفْكِ وَالضَّلَالِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ] [[زيادة من ف، أ.]] اتِّبَاعًا لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمُ الْحَيَارَى الْجُهَّالِ، كَمَا قَالُوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٢٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب