يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا الَّذِي أَمَرْنَا بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَمَا لِفَاعِلِهَا مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ.
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ أَيْ: وَمَنْ يَجْتَنِبُ مَعَاصِيَهُ وَمَحَارِمَهُ وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ، ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ أَيْ: فَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، فَكَمَا عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ثَوَابٌ جَزِيلٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، وَكَذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَ [اجْتِنَابِ] [[زيادة من أ.]] الْمَحْظُورَاتِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ قَالَ: الْحُرْمَةُ: مَكَّةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ كُلِّهَا. وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: أَحْلَلْنَا [[في ت: "أحلت".]] لَكُمْ جَمِيعَ الْأَنْعَامِ، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ، وَلَا سَائِبَةٍ، وَلَا وَصِيلَةٍ، وَلَا حَامٍ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: مِنْ تَحْرِيمِ ﴿الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ] [[زيادة من ت، ف، أ.]] ﴾ الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: ٣] ، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَحَكَاهُ عَنْ قَتَادَةَ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ : "مِنْ" هَاهُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَيِ: اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ. وَقَرَنَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ [[في أ: "به".]] بِقَوْلِ الزُّورِ، كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٣٣] ، وَمِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ أَبِي بَكْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ -وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ:-أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ". فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سكت [[صحيح البخاري برقم (٢٦٥٤) وصحيح مسلم برقم (٨٧) .]] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ فَاتِكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطِيبًا فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ إِشْرَاكًا بِاللَّهِ" ثَلَاثًا، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، بِهِ [[المسند (٤/١٧٨) وسنن الترمذي برقم (٢٢٩٩) .]] ثُمَّ قَالَ: "غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ زِيَادٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا نَعْرِفُ لِأَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ سَمَاعًا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا سفيان العُصْفُرِيّ، عن أبيه، عن حبيب ابن النُّعْمَانِ الْأَسَدِيِّ، عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتَكٍ [[في ت: "مقاتل".]] الْأَسَدِيِّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الصُّبْحَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا فَقَالَ: "عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [[المسند (٤/٣٢١) .]] .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ وَائِلِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: تَعْدِلُ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ [[تفسير الطبري (١٧/١١٢) .]] .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ﴾ أَيْ: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مُنْحَرِفِينَ عَنِ الْبَاطِلِ قَصْدًا إِلَى الْحَقِّ؛ وَلِهَذَا قَالَ ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾
ثُمَّ ضَرَبَ لِلْمُشْرِكِ مَثَلًا فِي ضَلَالِهِ وَهَلَاكِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْهُدَى فَقَالَ: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ﴾ أَيْ: سَقَطَ مِنْهَا، ﴿فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ﴾ ، أَيْ: تَقْطَعُهُ الطُّيُورُ فِي الْهَوَاءِ، ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ أَيْ: بَعِيدٍ مُهْلِكٍ لِمَنْ هَوَى فِيهِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: "إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَوَفَّتْهُ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ، وَصَعِدُوا بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، بَلْ تُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا مِنْ هُنَاكَ". ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ "إِبْرَاهِيمَ" [[انظر تفسير الآية: ٢٧]] بِحُرُوفِهِ وَأَلْفَاظِهِ وَطُرُقِهِ.
وَقَدْ ضَرَبَ [اللَّهُ] [[زيادة من أ.]] تَعَالَى لِلْمُشْرِكِ مَثَلًا آخَرَ فِي سُورَةِ "الْأَنْعَامِ"، وَهُوَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] [[زيادة من ف، أ، وفي الأصل: "الآية".]] ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٧١] .
{"ayahs_start":30,"ayahs":["ذَ ٰلِكَۖ وَمَن یُعَظِّمۡ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَیۡرࣱ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ وَأُحِلَّتۡ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَـٰمُ إِلَّا مَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡۖ فَٱجۡتَنِبُوا۟ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَـٰنِ وَٱجۡتَنِبُوا۟ قَوۡلَ ٱلزُّورِ","حُنَفَاۤءَ لِلَّهِ غَیۡرَ مُشۡرِكِینَ بِهِۦۚ وَمَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّیۡرُ أَوۡ تَهۡوِی بِهِ ٱلرِّیحُ فِی مَكَانࣲ سَحِیقࣲ"],"ayah":"ذَ ٰلِكَۖ وَمَن یُعَظِّمۡ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَیۡرࣱ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ وَأُحِلَّتۡ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَـٰمُ إِلَّا مَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡۖ فَٱجۡتَنِبُوا۟ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَـٰنِ وَٱجۡتَنِبُوا۟ قَوۡلَ ٱلزُّورِ"}