الباحث القرآني

لَمَّا فَرَغَ تَعَالَى [[في جـ: "لما فرغ تبارك وتعالى".]] مِنْ بَيَانِ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الصَّبْرِ، وَالْإِرْشَادِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي نِعْمَةٍ فَيَشْكُرُ عَلَيْهَا، أَوْ فِي نِقْمَةٍ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ. لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ، فَشَكَرَ، كَانَ خَيْرًا لَهُ؛ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ". وَبَيِّنَ تَعَالَى أَنَّ أَجْوَدَ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَصَائِبِ الصَّبْرُ وَالصَّلَاةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٤٥] . وَفِي الْحَدِيثِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا حَزَبَه أَمْرٌ صَلَّى [[رواه أبو داود في السنن برقم (١٣١٩) من حديث حذيفة رضي الله عنه.]] . وَالصَّبْرُ صَبْرَانِ، فَصَبْرٌ عَلَى تَرْكِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ وَصَبْرٌ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ. وَالثَّانِي أَكْثَرُ ثَوَابًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الصَّبْرُ فِي بَابَيْنِ، الصَّبْرُ لِلَّهِ بِمَا أَحَبَّ، وَإِنْ ثَقُلَ عَلَى الْأَنْفُسِ [[في جـ: "وإن تقتل عليه الأنفس" وفي ط: "فإن ثقل على الأنفس".]] وَالْأَبْدَانِ، وَالصَّبْرُ لِلَّهِ عَمَّا كَرِهَ وَإِنْ نَازَعَتْ إِلَيْهِ الْأَهْوَاءُ. فَمَنْ كَانَ هَكَذَا، فَهُوَ مِنَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ: إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يُنَادِي مُنَادٍ: أَيْنَ الصَّابِرُونَ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ قَبْلَ الْحِسَابِ؟ قَالَ: فَيَقُومُ عُنُق مِنَ النَّاسِ، فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَيَقُولُونَ: إِلَى أَيْنَ يَا بَنِي آدَمَ؟ فَيَقُولُونَ: إِلَى الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: وَقَبْلَ الْحِسَابِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالُوا: وَمَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: الصَّابِرُونَ، قَالُوا: وَمَا كَانَ صَبْرُكُمْ؟ قَالُوا: صَبَرْنَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَصَبَرْنَا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، حَتَّى تَوَفَّانَا اللَّهُ. قَالُوا: أَنْتُمْ كَمَا قُلْتُمُ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزُّمَرِ: ١٠] . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الصَّبْرُ اعْتِرَافُ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِمَا أَصَابَ مِنْهُ، وَاحْتِسَابُهُ عِنْدَ اللَّهِ رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَقَدْ يَجْزَعُ الرَّجُلُ وَهُوَ مُتَجَلّد لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا الصَّبْرُ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ فِي بَرْزَخِهم أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ [[في أ: "حيث ما شاءت".]] ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقة تَحْتَ الْعَرْشِ، فاطَّلع عَلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلاعَة، فَقَالَ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، وَأَيُّ شَيْءٍ نَبْغِي، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ هَذَا، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَا يُتْرَكُون مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا، قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنَا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، فَنُقَاتِلَ فِي سَبِيلِكَ، حَتَّى نُقْتَلَ فِيكَ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ الشَّهَادَةِ -فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: إِنِّي كتبتُ أنَّهم إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ" [[صحيح مسلم برقم (١٨٨٧) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ولفظه مختلف لكن معناه واحد.]] . وَفِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ تَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ" [[المسند (٣/٤٥٥) .]] . فَفِيهِ دَلَالَةٌ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الشُّهَدَاءُ قَدْ خصِّصُوا [[في جـ: "قد خصوا".]] بِالذِّكْرِ فِي الْقُرْآنِ، تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا [[في جـ: "تعظيما وتكريما".]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب