الباحث القرآني

يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ وَأَحْدَثُوهُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، الْمُخَالِفِ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، فَإِنَّهُ جَرد تَوْحِيدَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَلَمْ يَدْع مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلَا أَشْرَكَ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ سَائِرَ قَوْمِهِ، حَتَّى تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٧٨، ٧٩] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٢٦، ٢٧] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّه عَدُوٌ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التَّوْبَةِ: ١١٤] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٠ -١٢٢] ، وَلِهَذَا وَأَمْثَالِهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ أَيْ: عَنْ طَرِيقَتِهِ وَمَنْهَجِهِ. فَيُخَالِفُهَا وَيَرْغَبُ عَنْهَا ﴿إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أَيْ: ظَلَمَ نَفْسَهُ بِسَفَهِهِ وَسُوءِ تَدْبِيرِهِ بِتَرْكِهِ الْحَقَّ إِلَى الضَّلَالِ، حَيْثُ خَالَفَ طَرِيقَ مَنِ اصْطُفِيَ فِي الدُّنْيَا لِلَّهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ، مِنْ حَداثة سِنِّهِ [[في أ: "من حداثة بنيته".]] إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصَالِحِينَ السُّعَدَاءِ -فَتَرَكَ طَرِيقَهُ هَذَا وَمَسْلَكَهُ وَمِلَّتَهُ وَاتَّبَعَ طُرُقَ الضَّلَالَةِ وَالْغَيِّ، فَأَيُّ سَفَهٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ أَمْ أَيُّ ظُلْمٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ؛ أَحْدَثُوا طَرِيقًا لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَخَالَفُوا ملَّة إِبْرَاهِيمَ فِيمَا أَخَذُوهُ [[في جـ، ط، أ، و: "فيما أحدثوه".]] ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آلِ عمران: ٦٧، ٦٨] . * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ: أَمَرَهُ اللَّهُ [[في جـ، ط، أ، و: "أمره تعالى".]] بِالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ أَيْ: وَصَّى بِهَذِهِ الْمِلَّةِ [[في أ: "أي رضي بهذه المسألة".]] وَهِيَ الْإِسْلَامُ لِلَّهِ [أَوْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ] [[زيادة من جـ، ط، أ.]] . لِحِرْصِهِمْ عَلَيْهَا وَمَحَبَّتِهِمْ لَهَا حَافَظُوا عَلَيْهَا إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ وَوَصَّوْا أَبْنَاءَهُمْ بِهَا مِنْ بَعْدِهِمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٢٨] وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ "وَيَعْقُوبَ" بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى بَنِيهِ، كَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَصَّى بَنِيهِ وَابْنَ ابْنِهِ يَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ وَكَانَ حَاضِرًا ذَلِكَ، وَقَدِ ادَّعَى الْقُشَيْرِيُّ، فِيمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْهُ أَنَّ يَعْقُوبَ إِنَّمَا وُلِدَ بَعْدَ وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْتَاجُ مِثْلُ هَذَا إِلَى دَلِيلٍ صَحِيحٍ؛ وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ إِسْحَاقَ وُلِدَ لَهُ يَعْقُوبُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيلِ وَسَارَّةُ؛ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ وَقَعَتْ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هُودٍ: ٧١] وَقَدْ قُرِئَ بِنَصْبِ يَعْقُوبَ هَاهُنَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ يَعْقُوبُ فِي حَيَاتِهِمَا لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ مِنْ بَيْنِ ذَرِّيَّةِ إِسْحَاقَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الْآيَةَ: ٢٧] وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٢] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ وُجِدَ فِي حَيَاتِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بَانِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "بَيْتُ الْمَقْدِسِ". قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً" الْحَدِيثَ [[صحيح البخاري برقم (٣٣٦٦) وصحيح مسلم برقم (٥٢٠) .]] . فَزَعَمَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ بَيْنَ سُلَيْمَانَ الذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ بَانِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ -وَإِنَّمَا كَانَ جَدَّدَهُ بَعْدَ خَرَابِهِ وَزَخْرَفَهُ -وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهَذَا مِمَّا أُنْكِرَ عَلَى ابْنِ حِبَّانَ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ بَيْنَهُمَا تَزِيدُ عَلَى أُلُوفِ سِنِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ذِكْرَ وَصِيَّةِ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا قَرِيبًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هَاهُنَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُوصِينَ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أَيْ: أَحْسِنُوا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالزَمُوا هَذَا لِيَرْزُقَكُمُ [[في جـ: "يرزقكم".]] اللَّهُ الْوَفَاةَ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْمَرْءَ يَمُوتُ غَالِبًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْكَرِيمُ عَادَتَهُ بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ الْخَيْرَ وُفّق لَهُ وَيُسِّرَ [[في ط: "ويسره".]] عَلَيْهِ. وَمَنْ نَوَى صَالِحًا ثَبَتَ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا جَاءَ، فِي الْحَدِيثِ [الصَّحِيحِ] [[زيادة من جـ، ط، أ، و.]] "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا [[في جـ، ط، أ، و: "فيدخل النار".]] . وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا"؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ: "فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [اللَّيْلِ: ٥ -١٠] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب