الباحث القرآني
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعَيْشِ ذَامًّا لِلْبُخْلِ نَاهِيًا عَنِ السَّرَف: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ أَيْ: لَا تَكُنْ بَخِيلًا مَنُوعًا، لَا تُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا، كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٦٤] أَيْ نَسَبُوهُ إِلَى الْبُخْلِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ أَيْ: وَلَا تُسْرِفْ فِي الْإِنْفَاقِ فَتُعْطِيَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، وَتُخْرِجَ أَكْثَرَ مِنْ دَخْلِكَ، فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا.
وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ أَيْ: فَتَقْعُدَ إِنْ بَخِلْتَ مَلُومًا، يَلُومُكَ النَّاسُ وَيَذُمُّونَكَ وَيَسْتَغْنُونَ عَنْكَ كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلمى فِي الْمُعَلَّقَةِ:
وَمَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَيَبْخَلْ بِمَالِهِ ... عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ [[البيت في ديوانه (ص٣٠) .]]
وَمَتَى بَسَطْتَ يَدَكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، قَعَدْتَ بِلَا شَيْءٍ تُنْفِقُهُ، فَتَكُونَ كَالْحَسِيرِ، وَهُوَ: الدَّابَّةُ الَّتِي قَدْ عَجَزَتْ عَنِ السَّيْرِ، فَوَقَفَتْ ضَعْفًا وَعَجْزًا [[في ت، ف: "عجزا وضعفا".]] فَإِنَّهَا تُسَمَّى الْحَسِيرَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَلَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الْمُلْكِ: ٣، ٤] أَيْ: كَلِيلٌ عَنْ أَنْ يَرَى عَيْبًا. هَكَذَا فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ -بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْبُخْلُ وَالسَّرَفُ -ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثَدْيَيْهِمَا [[في أ: "من يديهما".]] إِلَى تَرَاقِيهِمَا. فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَت -أَوْ: وَفَرَتْ -عَلَى جِلْدِهِ، حَتَّى تُخفي بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ [[في ت، ف: "يخفى بنانه ويعفو".]] أَثَرَهُ. وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلَا [[في ف: "ولا".]] تَتَّسِعُ".
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي الزَّكَاةِ [[صحيح البخاري برقم (١٤٤٣) وليس في صحيح مسلم من طريق أبي الزناد، وإنما هو فيه من طريق الحسن بن مسلم وعبد الله بن طاوس، عن طاوس، عن أبي هريرة برقم (١٠٢١) .]] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَنَفِقِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَلَا تُوعِي فَيُوعي اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوكِي فَيُوكِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ" وَفِي لَفْظٍ: "وَلَا تُحصي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ" [[صحيح البخاري برقم (١٤٣٣) وصحيح مسلم برقم (١٠٢٩)]] .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" [[صحيح مسلم برقم (٩٩٣) .]] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّد، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا" [[صحيح البخاري برقم (١٤٤٢) وصحيح مسلم برقم (١٠١٠) .]] .
وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ [[في ف: "عن العلاء بن عبد الرحمن".]] عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا [[في ت، ف، أ: "إلا غنى".]] وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ" [[صحيح مسلم برقم (٢٥٨٨) .]] .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: "إِيَّاكُمْ والشُّح، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا" [[رواه أحمد في المسند (٢/١٥٩) وأبو داود في السنن برقم (١٦٩٨) وابن حبان في صحيحه برقم (١٥٨٠) "موارد" من طرق عَنْ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارث، عن أبي كثير الزبيدي به.]] .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعْدَانَ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، [عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ] [[زيادة من ف، أ، والسنن الكبرى، وصحيح ابن خزيمة.]] عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ صَدَقَةً، حَتَّى يَفُكَّ لَحْيَى سَبْعِينَ شَيْطَانًا" [[السنن الكبرى (٤/١٨٧) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (٢٤٥٧) من طريق محمد المخزومي، عن أبي معاوية، به، وقال: "إن صح الخبر، فإني لا أقف هل سمع الأعمش من ابن بريدة أم لا".]] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، حَدَّثَنَا سُكَين [[في ت: "مسكين"، وفي ف، أ: "سكن".]] بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الْهِجْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعوده قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ" [[المسند (١/٤٤٧) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٢٥٢) : "فيه إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف".]] .
* * *
وَقَوْلُهُ [تَعَالَى] [[زيادة من ت.]] ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ إِخْبَارٌ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ، الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَيُغْنِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ، بِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ أَيْ: خَبِيرٌ بَصِيرٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِنَى وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَقْرَ [[في ف، أ: "بمن يستحق الفقر ومن يستحق الغنى".]] ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ".
وَقَدْ يَكُونُ الْغِنَى فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ اسْتِدْرَاجًا، وَالْفَقْرُ عُقُوبَةً عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ هَذَا وَهَذَا.
{"ayahs_start":29,"ayahs":["وَلَا تَجۡعَلۡ یَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومࣰا مَّحۡسُورًا","إِنَّ رَبَّكَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِیرَۢا بَصِیرࣰا"],"ayah":"إِنَّ رَبَّكَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِیرَۢا بَصِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق