يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْلِيسَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ أَنَّهُ قَالَ لِلرَّبِّ: ﴿بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَقْسَمَ بِإِغْوَاءِ اللَّهِ لَهُ.
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بِسَبَبِ مَا أَغْوَيْتَنِي وَأَضْلَلْتَنِي ﴿لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ﴾ أَيْ: لِذُرِّيَّةِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: أُحَبِّبُ إِلَيْهِمُ الْمَعَاصِيَ وَأُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، وَأُؤَزِّهُمْ إِلَيْهَا، وَأُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا، ﴿وَلأغْوِيَنَّهُمْ﴾ أَيْ: كَمَا أَغْوَيْتَنِي ونَدَّرت عَلَى ذَلِكَ، ﴿أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ كَمَا قَالَ ﴿أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٦٢]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مُتَهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا [[في ت، أ: "متوعدا ومهددا".]] ﴿هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ أَيْ: مَرْجِعُكُمْ كُلُّكُمْ إِلَيَّ، فَأُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الْفَجْرِ: ١٤]
وَقِيلَ: طَرِيقُ الْحَقِّ مَرْجِعُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ كَمَا قَالَ: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ [النَّحْلِ: ٩]
وَقَرَأَ قَيْسُ بْنُ عُبَاد، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَقَتَادَةُ: "هَذَا صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ"، كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٤] أَيْ: رَفِيعٌ. وَالْمَشْهُورُ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ أَيِ: الَّذِينَ قَدَّرْتُ لَهُمُ [[في أ: "عليهم".]] الْهِدَايَةَ، فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا وُصُولَ لَكَ إِلَيْهِمْ، ﴿إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرير هَاهُنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ [[في أ: "وهب".]] حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ قُسَيْط قَالَ: كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ يَكُونُ لَهُمْ مَسَاجِدُ خَارِجَةً مِنْ قُرَاهُمْ، فَإِذَا أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْبِئَ رَبَّهُ عَنْ شَيْءٍ، خَرَجَ إِلَى مَسْجِدِهِ فَصَلَّى مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ سَأَلَ مَا بَدَا لَهُ، فَبَيْنَا نَبِيٌّ فِي مَسْجِدِهِ إِذْ جَاءَ عَدُوُّ اللَّهِ -يَعْنِي: إِبْلِيسُ -حَتَّى جَلَسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. [فقال عَدُوُّ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي تَعَوّذ مِنْهُ؟ فَهُوَ هُوَ. فَقَالَ النَّبِيُّ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] [[زيادة من ت، أ، والطبري.]] قَالَ: فَردّد [[في أ: "فرد".]] ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ: أَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ تَنْجُو مِنِّي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: بَلْ أَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ؟ مَرَّتَيْنِ، فَأَخَذَ كُلُّ [وَاحِدٍ] [[زيادة من ت، والطبري.]] مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ: قَدْ سَمِعْتُ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُولَدَ. قَالَ النَّبِيُّ: وَيَقُولُ اللَّهُ: ﴿وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٢٠٠] وَإِنِّي [[في أ: "وأنا".]] وَاللَّهِ مَا أَحْسَسْتُ بِكَ قَطُّ إِلَّا اسْتَعَذْتُ بِاللَّهِ مِنْكَ. قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ: صَدَقْتَ، بِهَذَا تَنْجُو مِنِّي. فَقَالَ النَّبِيُّ: "أَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ تغلبُ ابْنَ آدَمَ"؟ قَالَ: آخُذُهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالْهَوَى [[تفسير الطبري (١٤/٢٤) .]]
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أَيْ: جَهَنَّمُ مَوْعِدُ جَمِيعِ مَنِ اتَّبَعَ إِبْلِيسَ، كَمَا قَالَ عَنِ الْقُرْآنِ: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هُودٍ: ١٧]
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ: ﴿لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ أَيْ: قَدْ كَتَبَ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ أَتْبَاعِ إِبْلِيسَ يَدْخُلُونَهُ، لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ -أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا-وَكُلٌّ يَدْخُلُ مِنْ بَابٍ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، وَيَسْتَقِرُّ في دَرَك بقدر فعله.
قال إسماعيل بن عُلَيَّة وَشُعْبَةُ كِلَاهُمَا، عَنْ أَبِي هَارُونَ الغَنَويّ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ يَخْطُبُ قَالَ: إِنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ هَكَذَا -قَالَ أَبُو هَارُونَ: أَطْبَاقًا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [[رواه الطبري في تفسيره (١٤/٢٤) .]]
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرة بْنَ يَرِيمَ [[في ت: "مريم".]] عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَبْوَابُ جَهَنَّمَ سَبْعَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَمْتَلِئُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ، حَتَّى تُمْلأ كُلُّهَا [[رواه الطبري في تفسيره (١٤/٢٤) .]]
وَقَالَ عِكْرمة: ﴿سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾ سَبْعَةُ أَطْبَاقٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ﴿سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾ أَوَّلُهَا جَهَنَّمُ، ثُمَّ لظَى، ثُمَّ الحُطَمَة، ثُمَّ سَعِيرٌ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ.
وَرَوَى [[في أ: "ورواه".]] الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَحْوَهُ. وَكَذَا [رُوِيَ] عَنِ الْأَعْمَشِ بِنَحْوِهِ أَيْضًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ وَهِيَ وَاللَّهِ مَنَازِلُ بِأَعْمَالِهِمْ. رَوَاهُنَّ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ جِوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ قال: باب لليهود، وَبَابٌ لِلنَّصَارَى، وَبَابٌ لِلصَّابِئِينَ، وَبَابٌ لِلْمَجُوسِ، وَبَابٌ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا -وَهُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ -وَبَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ، وَبَابٌ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ، فَأَهْلُ التَّوْحِيدِ يُرجى لَهُمْ وَلَا يُرجى لِأُولَئِكَ أَبَدًا.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْد، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَل، عَنْ جُنَيْد [[في هـ، ت، أ: "حميد" والمثبت من الترمذي.]] عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: "لِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ: بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سلَّ السَّيْفَ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ قَالَ: عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.
ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَل [[سنن الترمذي برقم (٣١٢٣) وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ مغول".]]
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا، عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ -يَعْنِي: ابْنُ يحيى -حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ أبي نضرة، عَنْ سَمُرَة بْنِ جُنْدَب، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ قَالَ: "إِنَّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى حُجزته، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى تَرَاقِيهِ، مَنَازِلُ بِأَعْمَالِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ [[ذكره السيوطي في الدر المنثور (٥/٨٢) مطولا، وأصل الحديث في صحيح مسلم برقم (٢٨٤٥) دون ذكر الآية إلى قوله: "تأخذه النار إلى حجزته".]]
{"ayahs_start":39,"ayahs":["قَالَ رَبِّ بِمَاۤ أَغۡوَیۡتَنِی لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ","إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِینَ","قَالَ هَـٰذَا صِرَ ٰطٌ عَلَیَّ مُسۡتَقِیمٌ","إِنَّ عِبَادِی لَیۡسَ لَكَ عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡغَاوِینَ","وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوۡعِدُهُمۡ أَجۡمَعِینَ","لَهَا سَبۡعَةُ أَبۡوَ ٰبࣲ لِّكُلِّ بَابࣲ مِّنۡهُمۡ جُزۡءࣱ مَّقۡسُومٌ"],"ayah":"قَالَ رَبِّ بِمَاۤ أَغۡوَیۡتَنِی لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ"}