لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْكَامِهِ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، فَقَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ﴾ أَيْ: جَعَلَهَا مُتَّسِعَةً مُمْتَدَّةً فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَأَرْسَاهَا بِجِبَالٍ رَاسِيَاتٍ شَامِخَاتٍ، وَأَجْرَى فِيهَا الْأَنْهَارَ وَالْجَدَاوِلَ وَالْعُيُونَ لِسَقْيِ مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ وَالطَّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ: مِنْ كُلِّ شَكْلٍ صِنْفَانِ.
﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ أَيْ: جَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا [[في ت: "منها".]] يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، فَإِذَا ذَهَبَ هَذَا غَشيه هَذَا، وَإِذَا انْقَضَى هَذَا جَاءَ الْآخَرُ، فَيَتَصَرَّفُ أَيْضًا فِي الزَّمَانِ كَمَا تَصَرَّفَ فِي الْمَكَانِ وَالسُّكَّانِ.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أَيْ: فِي آلَاءِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ [[في ت، أ: "وحكمه".]] وَدَلَائِلِهِ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ أَيْ: أراضٍ تُجَاوِرُ [[في ت: "يجاورها".]] بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ أَنَّ هَذِهِ طَيِّبَةٌ تُنْبِتُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَهَذِهِ سَبَخة مَالِحَةٌ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا. هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرِهِمْ.
وَكَذَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، فَهَذِهِ تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ، وَهَذِهِ بَيْضَاءُ، وَهَذِهِ صَفْرَاءُ، وَهَذِهِ سَوْدَاءُ، وَهَذِهِ مُحَجَّرَةٌ [[في ت: "محجر".]] وَهَذِهِ سَهْلَةٌ، وَهَذِهِ مُرَمَّلَةٌ، وَهَذِهِ سَمِيكَةٌ، وَهَذِهِ رَقِيقَةٌ، وَالْكُلُّ مُتَجَاوِرَاتٌ. فَهَذِهِ بِصِفَتِهَا، وَهَذِهِ بِصِفَتِهَا الْأُخْرَى، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾ [[في ت: "وزروع" وهو خطأ.]] يُحْتَمَلُ [[في ت: "تحتمل".]] أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى ﴿جَنَّاتٍ﴾ فَيَكُونُ ﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾ [[في ت: "وزروع" وهو خطأ.]] مَرْفُوعَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَعْنَابٍ، فَيَكُونُ مَجْرُورًا؛ وَلِهَذَا قَرَأَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾ الصِّنْوَانُ: هِيَ الْأُصُولُ الْمُجْتَمِعَةُ فِي مَنْبَتٍ وَاحِدٍ، كَالرُّمَّانِ وَالتِّينِ وَبَعْضِ النَّخِيلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ: مَا كَانَ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، كَسَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَمِنْهُ سُمِّي عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِعُمَرَ: "أَمَّا شَعَرْتَ [[في أ: "أما علمت".]] أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟ " [[رواه مسلم في صحيحه برقم (٩٨٣) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.]] .
وَقَالَ سفيان الثوري، وشعبة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصِّنْوَانُ: هِيَ النَّخْلَاتُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ: الْمُتَفَرِّقَاتُ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ﴾ قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ﴾ قَالَ: "الدَّقَل وَالْفَارِسِيُّ، والحُلْو وَالْحَامِضُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ [[سنن الترمذي برقم (٣١١٨) . والدقل: الرديء واليابس من التمر. والفارسي: نوع من التمر.]] .
أَيْ: هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ وَالزُّرُوعِ، فِي أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا، وَطَعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا، وَأَوْرَاقِهَا وَأَزْهَارِهَا.
فَهَذَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ وَذَا فِي غَايَةِ الْحُمُوضَةِ، وَذَا [[في ت: "وهذا".]] فِي غَايَةِ الْمَرَارَةِ وَذَا عَفِص، وَهَذَا عَذْبٌ وَهَذَا [[في ت، أ: "وهذا قد جمع".]] جَمَعَ هَذَا وَهَذَا، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ إِلَى طَعْمٍ آخَرَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا أَصْفَرُ وَهَذَا أَحْمَرُ، وَهَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَزْرَقُ. وَكَذَلِكَ الزُّهُورَاتُ مَعَ أَنَّ كُلَّهَا يُسْتَمَدُّ [[في ت: "تستمد".]] مِنْ طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الْمَاءُ، مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ وَلَا يَنْضَبِطُ، فَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيًا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي بِقُدْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَخَلَقَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
{"ayahs_start":3,"ayahs":["وَهُوَ ٱلَّذِی مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰسِیَ وَأَنۡهَـٰرࣰاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ جَعَلَ فِیهَا زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ","وَفِی ٱلۡأَرۡضِ قِطَعࣱ مُّتَجَـٰوِرَ ٰتࣱ وَجَنَّـٰتࣱ مِّنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَزَرۡعࣱ وَنَخِیلࣱ صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَ ٰحِدࣲ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ"],"ayah":"وَفِی ٱلۡأَرۡضِ قِطَعࣱ مُّتَجَـٰوِرَ ٰتࣱ وَجَنَّـٰتࣱ مِّنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَزَرۡعࣱ وَنَخِیلࣱ صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَ ٰحِدࣲ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ"}