تَفْسِيرُ سُورَةِ تَبَّتْ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَصَعِدَ الْجَبَلَ فَنَادَى: "يَا صَبَاحَاهَ". فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدثتكم أَنَّ الْعَدُوَّ مُصبحكم أَوْ مُمْسيكم، أَكَنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَإِنِّي نذيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٍ". فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ تَبًّا لَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ إِلَى آخِرِهَا [[صحيح البخاري برقم (٤٩٧٢) .]] .
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَامَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ. أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [[صحيح البخاري برقم (١٣٩٤، ٤٨٠١،٣٥٢٥) .]] .
الْأَوَّلُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي خَبَرٌ عَنْهُ. فَأَبُو لَهَبٍ هَذَا هُوَ أَحَدُ أَعْمَامِ رَسُولِ اللَّهِ [[في م: "أعمام النبي".]] ﷺ وَاسْمُهُ: عَبْدُ العُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عُتبة. وَإِنَّمَا سُمِّيَ "أَبَا لَهَبٍ" لِإِشْرَاقِ وَجْهِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَذِيَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْبُغْضَةِ لَهُ، وَالِازْدِرَاءِ بِهِ، وَالتَّنَقُّصِ لَهُ وَلِدِينِهِ. .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ -يُقَالُ لَهُ: رَبِيعَةُ بْنُ عَبَّادٍ، مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ -قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا" وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ أحولُ ذُو غَدِيرَتَيْنِ، يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ. يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ [[المسند (٤/٣٤١) .]] .
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ سُرَيج، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَهُ -قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: قُلْتُ لِرَبِيعَةَ: كُنْتُ يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ إِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَعْقِلُ أَنِّي أَزَفْرُ الْقِرْبَةَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ [[المسند (٤/٣٤١) .]] .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي حُسَين بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبيد اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عَبَّادٍ الدِّيلِيَّ يَقُولُ: إِنِّي لَمَعَ أَبِي رَجُلٌ شَابٌّ، أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَتْبَعُ الْقَبَائِلَ -ووراءه رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ، ذُو جُمَّة -يَقِفُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْقَبِيلَةِ فَيَقُولُ: "يَا بَنِي فُلَانٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، آمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُصَدِّقُونِي وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أنفِّذَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ". وَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ قَالَ الْآخَرُ مِنْ خَلْفِهِ: يَا بَنِي فُلَانٍ، هَذَا يُرِيدُ مِنْكُمْ أَنْ تسلُخوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَحُلَفَاءَكُمْ مِنَ الْجِنِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْش، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَلَا تَسْمَعُوا لَهُ وَلَا تَتَّبِعُوهُ. فَقُلْتُ لِأَبِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ [[انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/٤٢٣) .]] .
رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَالطَّبَرَانِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ [[المسند (٣/٤٩٢) والمعجم الكبير (٥/٦٣) .]] .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ أَيْ: خَسِرَتْ وَخَابَتْ، وَضَلَّ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ، ﴿وَتَبَّ﴾ أَيْ: وَقَدْ تَبَّ تَحَقُّقُ خَسَارَتِهِ وَهَلَاكِهِ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: ﴿وَمَا كَسَبَ﴾ يَعْنِي: وَلَدَهُ. وَرُوي عَنْ عَائِشَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحُسْنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، مِثْلَهُ.
وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم لما دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، قَالَ أَبُو لَهَبٍ: إِذَا كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًّا، فَإِنِّي أَفْتَدِي نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ بِمَالِي وَوَلَدِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ أَيْ: ذَاتَ شَرَرٍ وَلَهِيبٍ وَإِحْرَاقٍ شَدِيدٍ.
﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ سَادَاتِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وَهِيَ: أُمُّ جَمِيلٍ، وَاسْمُهَا أَرْوَى بنتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَانَتْ عَوْنًا لِزَوْجِهَا عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ وَعِنَادِهِ؛ فَلِهَذَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَونًا عَلَيْهِ فِي عَذَابِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ يَعْنِي: تَحْمِلُ الْحَطَبَ فَتُلْقِي عَلَى زَوْجِهَا، لِيَزْدَادَ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ، وَهِيَ مُهَيَّأة لِذَلِكَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ.
﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعُرْوَةُ: مِنْ مَسد النَّارِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحُسْنِ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالسُّدِّيِّ: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، [وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ] [[زيادة من م.]] .
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطِيَّةَ الْجَدَلِيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ زَيْدٍ: كَانَتْ تَضَعُ الشَّوْكَ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقِيلَ: كَانَتْ تُعَيِّرُ النَّبِيَّ ﷺ بِالْفَقْرِ، وَكَانَتْ تَحْتَطِبُ، فَعُيِّرَتْ بِذَلِكَ.
كَذَا حَكَاهُ، وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى أَحَدٍ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَتْ لَهَا قِلَادَةٌ فَاخِرَةٌ فَقَالَتْ: لَأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، يَعْنِي: فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ بِهَا حَبْلًا فِي جِيدِهَا من مسد النار.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُلَيْمٍ [[في أ: "سليمان".]] مَوْلَى الشَّعْبِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْمَسَدُّ: اللِّيفُ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: الْمَسَدُّ: سِلْسِلَةٌ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا.
وَعَنِ الثَّوْرِيِّ: هُوَ قِلَادَةٌ مِنْ نَارٍ، طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: المَسَدُ: اللِّيفُ. والمَسَد أَيْضًا: حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ أَوْ خُوصٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ أَوْ أَوْبَارِهَا، وَمَسَدْتُ الْحَبْلَ أمسدُهُ مَسْدًا: إِذَا أجْدتُ فَتله [[الصحاح للجوهري، مادة "مسد" (١/٥٣٥) .]] .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ أَيْ: طَوْقٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ يُسَمَّوْنَ البَكْرة مَسَدًا؟
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي وَأَبُو زُرْعة قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الحُمَيدي، حَدَّثَنَا سُفيان، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ تَدْرُسَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَهِيَ تَقُولُ:
مُذَممًا أبَينَا ودينَه قَلَينا وَأمْرَه عَصَينا
وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَنَا أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَرَاكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي". وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٤٥] . فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي؟ قَالَ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ. فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي ابْنَةُ سَيِّدِهَا. قَالَ: وَقَالَ الْوَلِيدُ فِي حَدِيثِهِ أَوْ غَيْرِهِ: فعثَرَت أُمُّ جَمِيلٍ فِي مِرْطها وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقَالَتْ: تَعس مُذَمَّم. فَقَالَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي لحصانُ فَمَا أكلَّم، وثَقَافُ فَمَا أعلَّم، وَكُلُّنَا مِنْ بَنِي الْعَمِّ، وَقُرَيْشٌ بَعْدُ أَعْلَمُ [[مسند الحميدي (١/١٥٣) ورواه أبو يعلى في مسنده (١/٥٣) من طريق سفيان به، وسبق تخريجه عند تفسير الآية: ٤٥ من سورة الإسراء.]] .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ تَنَحَّيت لَا تُؤذيك بِشَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّهُ سَيُحال بَيْنِي وَبَيْنِهَا". فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، هَجَانَا صَاحِبُكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ مَا نَطَق بِالشِّعْرِ وَلَا يَتَفَوَّهُ بِهِ. فَقَالَتْ: إِنَّكَ لَمُصَدِّقٌ، فَلَمَّا وَلَّتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا رَأَتْكَ؟ قَالَ: "لَا مَا زَالَ مَلَكٌ يَسْتُرُنِي حَتَّى ولت".
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُروَى بأحسنَ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [[مسند البزار برقم (٢٢٩٤) "كشف الأستار"، ورواه أبو يعلى في مسنده (١/٣٣) من طريق عبد السلام بن حرب به، وقال الهيثمي في المجمع (٧/١٤٤) : "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط".]] .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ أَيْ: فِي عُنُقِهَا حَبْلٌ فِي نَارِ [جَهَنَّمَ] [[زيادة من م، أ.]] تُرفَع بِهِ إِلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ يُرْمَى بِهَا إِلَى أَسْفَلِهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ دَائِمًا.
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دَحْية فِي كِتَابِهِ التَّنْوِيرِ [[التنوير في مولد السراج المنير لابن دحية الكلبي، عمله لملك إربل. انظر: وفيات الأعيان (٣/١٢٢) .]] -وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ-وعُبر بِالْمَسَدِ عَنْ حَبْلِ الدَّلْوِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدَّيْنُورِيُّ فِي كِتَابِ "النَّبَاتِ": كُلُّ مَسَد: رِشَاءٌ، وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ:
وَبَكْرَةً ومِحْوَرًا صِرَارًا ... وَمَسَدًا مِنْ أَبَقٍ مُغَارًا ...
قَالَ: والأبقُ: القنَّبُ.
وَقَالَ الْآخَرُ:
يَا مَسَدَ الخُوص تَعَوّذْ مِنِّي ... إنْ تَكُ لَدْنًا لَيّنا فَإِنِّي ...
مَا شئْتَ مِنْ أشْمَطَ مُقْسَئِنّ ...
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ مُنْذُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا بِالشَّقَاءِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، لَمْ يُقَيِّضْ لَهُمَا أَنْ يُؤْمِنَا، وَلَا وَاحِدَ مِنْهُمَا لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، لَا مُسِرًّا وَلَا مُعْلِنًا، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ الْبَاهِرَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ الظَّاهِرَةِ.
[آخِرُ تَفْسِيرِ "تَبَّتْ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة] [[زيادة من م، أ.]]
{"ayahs_start":1,"ayahs":["تَبَّتۡ یَدَاۤ أَبِی لَهَبࣲ وَتَبَّ","مَاۤ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ","سَیَصۡلَىٰ نَارࣰا ذَاتَ لَهَبࣲ","وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ","فِی جِیدِهَا حَبۡلࣱ مِّن مَّسَدِۭ"],"ayah":"تَبَّتۡ یَدَاۤ أَبِی لَهَبࣲ وَتَبَّ"}