الباحث القرآني

(p-٦٦٢)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ لَمْ يَكُنْ وهِيَ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، وقالَ ابْنُ الزُبَيْرِ، والأوَّلُ أشْهَرُ. قوله عزّ وجلّ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ﴾ ﴿رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ ﴿فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ ﴿وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ ﴿وَما أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَلاةَ ويُؤْتُوا الزَكاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ وفِي حَرْفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "ما كانَ الَّذِينَ"، وفي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: [لَمْ يَكُنِ المُشْرِكِينَ وأهْلِ الكِتابِ مُنْفَكِّينَ]، وقَوْلُهُ تَعالى: "مُنْفَكِّينَ"، مَعْناهُ مُنْفَصِلِينَ مُتَفَرِّقِينَ، تَقُولُ: "انْفَكَّ الشَيْءُ عَنِ الشَيْءِ" إذا انْفَصَلَ عنهُ، و"ما انْفَكَّ" الَّتِي هي مِن أخَواتِ "كانَ" لا مَدْخَلَ بِها في هَذِهِ الآيَةِ، ونَفى في هَذِهِ الآيَةُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَنِيعَةُ مُنْفَكَّةً. واخْتَلَفَ الناسُ، عن ماذا؟ فَقالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنِ الكُفْرِ والضَلالِ حَتّى جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ، وأُوقِعَ المُسْتَقْبَلُ مَوْضِعَ الماضِي في "تَأْتِيهِمْ" لِأنَّ باقِيَ الشَرِيعَةِ وعُظْمَها لَمْ يُرِدْهُ بَعْدُ. وقالَ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عن مَعْرِفَةِ صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ والتَوَكُّفُ لِأمْرِهِ، حَتّى جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ فَتَفَرَّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ. وذَهَبَ بَعْضُ النَحْوِيِّينَ إلى هَذا النَفْيِ المُتَقَدِّمِ مَعَ "مُنْفَكِّينَ" يَجْعَلُها تِلْكَ الَّتِي هي مَعَ "كانَ"، ويَرى التَقْدِيرَ في خَبَرِها: عارِفِينَ لِأمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ أو نَحْوِ هَذا، ويَتَّجِهُ في مَعْنى الآيَةِ قَوْلٌ ثالِثٌ بارِعُ المَعْنى، وذَلِكَ أنْ يَكُونَ المُرادُ: لَمْ يَكُنْ هَؤُلاءِ القَوْمُ مُنْفَكِّينَ مِن أمْرِ اللهِ (p-٦٦٣)تَعالى وقُدْرَتِهُ ونَظَرِهِ لَهم حَتّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا، تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الحُجَّةُ، وتَتِمُّ عَلى مَن آمَنَ النِعْمَةَ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: ما كانُوا لِيَتْرُكُوا سُدًى، ولِهَذا نَظائِرُ في كِتابِ اللهِ تَعالى. وقَرَأ بَعْضُ الناسِ: "والمُشْرِكُونَ" بِالرَفْعِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: [والمُشْرِكِينَ] بِالخَفْضِ، ومَعْناهُما بَيِّنٌ. و"البَيِّنَةُ" مَعْناهُ: القِصَّةُ البَيِّنَةُ والجَلِيَّةُ، والمُرادُ مُحَمَّدٌ ﷺ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "رَسُولٌ" بِالرَفْعِ وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: [رَسُولًا] بِالنَصْبِ عَلى الحالِ. و"الصُحُفُ المُطَهَّرَةُ": القُرْآنُ في صُحُفِهِ، قالَهُ الضَحّاكُ وقَتادَةُ، وقالَ الحَسَنُ: الصُحُفُ المُطَهَّرَةُ في السَماءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ فِيهِ حَذْفُ مُضافٍ، تَقْدِيرُهُ: فِيها أحْكامُ كُتُبٍ قَيِّمَةٍ، و"قَيِّمَةٌ" مَعْناهُ: قائِمَةٌ مُعْتَدِلَةٌ آخِذَةٌ لِلنّاسِ بِالعَدْلِ، وهو بِناءُ مُبالِغَةٍ، فَإلى "قَيِّمَةٌ" هو ذِكْرُ مَن آمَنَ مِنَ الطائِفَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى مَذَمَّةَ مَن لَمْ يُؤْمِن مِن أهْلِ الكِتابِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، مِن أنَّهم لَمْ يَتَفَرَّقُوا في أمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ إلّا مِن بَعْدِ ما رَأوُا الآياتِ الواضِحَةَ، وكانُوا مِن قَبْلُ مُصَفِّقِينَ عَلى نَبُّوتِهِ وصِفَتِهِ، فَلَمّا جاءَ مِنَ العَرَبِ حَسَدُوهُ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "مُخْلِصِينَ" بِكَسْرِ اللامِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "مُخْلِصِينَ" بِفَتْحِ اللامِ، وكَأنَّ "الدِينَ" -عَلى هَذِهِ القِراءَةِ- مَنصُوبٌ بِـ "يعبُدُوا"، أو بِمَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ، عَلى أنَّهُ كالظَرْفِ أوِ الحالِ، وفي هَذا نَظَرٌ، وقِيلَ لِعِيسى عَلَيْهِ السَلامُ: مَنِ المُخْلِصُ لِلَّهِ تَعالى؟ قالَ: الَّذِي يَعْمَلُ العَمَلَ لِلَّهِ تَعالى ولا يُحِبُّ أنْ يَحْمَدَهُ الناسُ عَلَيْهِ. و"حُنَفاءَ" جَمْعُ "حَنِيفٍ"، وهو المُسْتَقِيمُ المائِلُ إلى طَرِيقِ الخَيْرِ، قالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لا تُسَمِّي العَرَبَ حَنِيفًا إلّا مَن حَجَّ واخْتَتَنَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "حُنَفاءَ": حُجّاجًا مُسْلِمِينَ، و"حُنَفاءَ" نُصِبَ عَلى الحالِ، وكَوْنُ الزَكاةِ مَعَ الصَلاةِ في هَذِهِ الآيَةُ مَعَ ذِكْرِ بَنِي إسْرائِيلَ فِيها يُقَوِّي قَوْل مَن قالَ" السُورَة مَدَنِيَّة؛ لِأنَّ الزَكاةَ (p-٦٦٤)إنَّما فُرِضَتْ بِالمَدِينَةِ، ولِأنَّ النَبِيَّ ﷺ إنَّما دَفَعَ مُناقَضَةَ أهْلِ الكِتابِ بِالمَدِينَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ" عَلى مَعْنى: الجَماعَةِ القَيِّمَةِ، أوِ الفِرْقَةِ القَيِّمَةِ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الأشْعَثِ الطالِقانِيُّ: "القِيمَةُ" هُنا: الكُتُبُ الَّتِي جَرى ذِكْرُها، وقَرَأ بَعْضُ الناسِ: "وَذَلِكَ الدِينُ القَيِّمَةِ"، فالهاءُ في "القِيمَةِ" -عَلى هَذِهِ القِراءَةِ- بِناءُ مُبالِغَةٍ كَعَلّامَةٍ ونَسّابَةٍ، ويَتَّجِهُ ذَلِكَ أيْضًا عَلى أنْ تَجْعَلَ "الدِينَ" بِمَنزِلَةِ المِلَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب