الباحث القرآني

(p-٦٤٣)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الشَرْحِ وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، لا خِلافَ بَيْنَهم في ذَلِكَ. قوله عزّ وجلّ: ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ﴿وَوَضَعْنا عنكَ وِزْرَكَ﴾ ﴿الَّذِي أنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ ﴿وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ ﴿إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ ﴿فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ﴾ ﴿وَإلى رَبِّكَ فارْغَبْ﴾ عَدَّدَ اللهُ عَلى نَبِيِّهِ ﷺ نِعَمَهُ في أنْ شَرَحَ صَدْرَهُ لِلنُّبُوَّةِ وهَيَّأهُ لَها، وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ شَرْحَ الصَدْرِ المَذْكُورِ هُوَ: تَنْوِيرُهُ بِالحِكْمَةِ وتَوْسِيعُهُ لِتَلَقِّي ما يُوحى إلَيْهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وجَماعَةٌ: هَذِهِ إشارَةٌ إلى شَرْحِهِ بِشَقِّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ عنهُ في وقْتِ صِغَرِهِ، وفي وقْتِ الإسْراءِ؛ إذِ التَشْرِيحُ شَقُّ اللَحْمِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ المَنصُورُ: "ألَمْ نَشْرَحْ" بِنَصْبِ الحاءِ عَلى نَحْوِ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ أضْرِبْ عنكَ الهُمُومَ طارِقَها ضَرْبَكَ بِالسَيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ ومِثْلُهُ في نَوادِرِ أبِي زَيْدٍ: ؎ مِن أيِّ يَوْمَيَّ مِنَ المَوْتِ أفِرُّ ∗∗∗ أيْوَمٌ لَمْ يُقْدَرَ أمْ يَوْمُ قُدِرْ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: "ألَمْ نَشْرَحَنَّ"، ثُمَّ أبْدَلَ مِنَ النُونِ ألِفًا، ثُمَّ حَذَفَها تَخْفِيفًا، وهي قِراءَةٌ مَرْدُودَةٌ. (p-٦٤٤)وَ"الوِزْرُ" الَّذِي وضَعَهُ اللهُ عنهُ هو عِنْدَ بَعْضِ المُتَأوِّلِينَ الثِقَلُ الَّذِي كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وحِيرَتُهُ قَبْلَ المَبْعَثِ؛ إذْ كانَ يَرى سُوءَ ما قُرَيْشٌ فِيهِ مِن عِبادَةِ الأصْنامِ، وكانَ لَمْ يَتَّجِهْ لَهُ مِنَ اللهِ أمْرٌ واضِحٌ، فَوَضَعَ اللهُ تَعالى عنهُ ذَلِكَ الثِقْلَ بِنُبُوَّتِهِ وإرْسالِهِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: المَعْنى: خَفَّفْنا عَلَيْكَ أثْقالَ النُبُوَّةِ، وأعَنّاكَ عَلى الناسِ، وقالَ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ، والحَسَنُ، وجُمْهُورٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: الوِزْرُ هُنا: الذُنُوبُ، الثِقَلُ، فَشُبِّهَتِ الذُنُوبُ بِهِ، وهَذِهِ الآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفتح: ٢]، وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في الجاهِلِيَّةِ قَبْلَ النُبُوَّةِ وِزْرُهُ صُحْبَةُ قَوْمِهِ، وأكْلُهُ مِن ذَبائِحِهِمْ، ونَحْوُ هَذا، وقالَ الضَحّاكُ، وفي كِتابِ النَقّاشِ: حُضُورُهُ مَعَ قَوْمِهِ المُشاهِدِ الَّتِي لا يُحِبُّها اللهُ تَعالى. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ كُلُّها جَرَّها المَنشَأُ، كَشُهُودِهِ حَرْبَ الفُجّارِ، يَنْبُلُ عَلى أعْمامِهِ وقَلْبِهِ في ذَلِكَ مُنِيبٌ إلى الصَوابِ، وأمّا عِبادَةُ الأصْنامِ فَلَمْ يَلْتَبِسْ بِها قَطُّ. وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: "وَحَطَطْنا عنكَ وِزْرَكَ"، وفي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَحَلَلْنا عنكَ وِقْرَكَ"، وفي حِرَفِ أُبَيٍّ "وَحَطَطْنا عنكَ وِقْرَكَ"، وذَكَرَ أبُو عَمْرٍو أنَّ النَبِيَّ ﷺ صَوَّبَ جَمِيعَها. وقالَ المُحاسِبِيُّ: إنَّما وُصِفَتْ ذُنُوبُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَلامُ بِالثِقَلِ وهي صَغائِرُ مَغْفُورَةٌ لِهَمِّهِمْ بِها وتَحَسُّرِهِمْ عَلَيْها. (p-٦٤٥)وَ"أنْقَضَ" مَعْناهُ: جَعَلَهُ نَقْضًا، أيْ هَزِيلًا مَعِيبًا مِنَ الثِقْلِ، وقِيلَ: مَعْناهُ: أسْمَعُ لَهُ نَقِيضًا وهو الصَوْتُ، وهو مِثْلُ نَقِيضِ السُفُنِ، وكُلُّ ما حَمَّلْتَهُ ثِقَلًا فَإنَّهُ يُنْقَضُ تَحْتَهُ، وقالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ: ؎ وأنْقَضَ ظَهْرِي ما تَطَوَّقْتُ مِنهم ∗∗∗ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ مُشْفِقًا مُتَحَنِّنًا وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ مَعْناهُ: نَوَّهْنا بِاسْمِكَ، وذَهَبْنا بِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ في الأرْضِ، هَذا ورَسُولُ اللهِ بِمَكَّةَ، وقالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾، أيْ: قَرَنّا اسْمَكَ بِاسْمِنا في الأذانِ والخُطَبِ، ورُوِيَ في هَذا حَدِيثُ "إنَّ اللهَ تَعالى قالَ: إذا ذُكِرْتُ ذْكِرْتَ مَعِي"، وهَذا مُتَّجِهٌ إلى أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ قَدِيمًا والأذانُ شُرِعَ بِالمَدِينَةِ، ورَفْعُ الذِكْرِ نِعْمَةٌ عَلى الرَسُولِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ، وكَذَلِكَ هو جَمِيلٌ حَسَنٌ لِلْقائِمِينَ بِأُمُورِ الناسِ، وخُمُولُ الذِكْرِ والِاسْمِ حَسَنٌ لِلْمُنْفَرِدِينَ لِلْعِبادَةِ، وقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعالى النِعَمَ أقْسامًا بِحَسَبِ ما يَصْلُحُ لِشَخْصٍ شَخَصَ، وفي الحَدِيثِ: « "إنَّ اللهَ تَعالى يُوقِفُ عَبْدًا يَوْمَ القِيامَةِ فَيَقُولُ: ألَمْ أفْعَلْ بِكَ كَذا وكَذا؟ يُعَدِّدُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ-، ويَقُولُ في جُمْلَتِها: ألَمْ أحْمِلْ أخْمَلَ ذِكْرَكَ في الناسِ"؟» والمَعْنى في هَذا التَعْدِيدِ الَّذِي عَلى النَبِيِّ ﷺ أيْ: يا مُحَمَّدُ قَدْ جَعَلْنا جَمِيعَ هَذا فَلا تَكْتَرِثُ بِأذى قُرَيْشٍ، فَإنَّ الَّذِي فَعَلَ بِكَ هَذِهِ النِعَمَ سَيُظْفِرُكَ بِهِمْ ويَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَوّى رَجاءَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾، أيْ ما تَراهُ مِنَ الأذى فَرَجٌ يَأْتِيكَ، وكَرَّرَ تَعالى ذَلِكَ مُبالَغَةً وتَبَيُّنًا لِلْخَيْرِ، فَقالَ بَعْضُ الناسِ: المَعْنى: إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا في الدُنْيا، وإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا في الآخِرَةِ، وذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ إلى (p-٦٤٦)أنَّ مَعَ كُلِّ عُسْرٍ يُسْرَيْنِ بِهَذِهِ الآيَةِ، مِن حَيْثُ "العُسْرُ" مَعْرُوفٌ لِلْعَهْدِ، و"اليُسْرُ" مُنْكَرٌ، فالأوَّلُ غَيْرُ الثانِي، وقَدْ رُوِيَ في هَذا التَأْوِيلِ حَدِيثٌ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ"،» وأمّا قَوْلُ عَمَرَ بِهِ فَنَصٌّ في المُوَطَّأِ في رِسالَتِهِ إلى أبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرّاحِ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وقَرَأ عِيسى، ويَحْيى بْنُ وثّابٍ، وأبُو جَعْفَرٍ: "العُسْرُ، واليُسْرُ" بِضَمَّتَيْنِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا" واحِدَةٌ غَيْرُ مُكَرَّرَةٍ. ثُمَّ أمِرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ إذا فَرَغَ مِن شُغْلٍ مِن أشْغالِ النُبُوَّةِ والعِبادَةِ أنْ يَنْصِبَ في آخِرَ، والنَصْبُ: التَعَبُ، فالمَعْنى أنْ يَدْأبَ عَلى ما أُمِرَ بِهِ ولا يَفْتُرُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المَعْنى: فَإذا فَرَغْتَ مِن فَرْضِكَ فانْصَبْ في التَنَفُّلِ عِبادَةً لِرَبِّكَ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فانْصَبْ في قِيامِ اللَيْلِ، وعن مُجاهِدٍ فَإذا فَرَغْتَ مِن شَغْلِ دُنْياكَ فانْصَبْ في عِبادَةِ رَبِّكَ، وقِيلَ: المَعْنى: إذا فَرَغْتَ مِنَ الرَكَعاتِ فاجْلِسْ في التَشَهُّدِ وانْصَبْ في الدُعاءِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ: مَعْنى الكَلامِ: فَإذا فَرَغْتَ مِنَ العِبادَةِ فانْصَبْ في الدُعاءِ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: إذا فَرَغْتَ مِنَ الجِهادِ فانْصَبْ في العِبادَةِ، ويَعْتَرِضُ هَذا التَأْوِيلُ أنَّ الجِهادَ فُرِضَ بِالمَدِينَةِ. وقَرَأ أبُو السَمالِ: "فَرِغَتْ" بِكَسْرِ الراءِ، وهي لُغَةٌ، وقَرَأ قَوْمٌ "فانْصَبَّ" بِشَدِّ الباءِ وفَتْحِها، ومَعْناها: إذا فَرَغْتَ مِنَ الجِهادِ "فانْصَبَّ" إلى المَدِينَةِ، ذَكَرَها النَقّاشُ مُنَبِّهًا عَلى أنَّها خَطَأٌ، وقَرَأ آخَرُونَ الإمامِيَّةُ "فانْصِبَ" بِكَسْرِ الصادِ، بِمَعْنى إذا فَرَغْتَ مِن أمْرِ النُبُوَّةِ فانْصِبْ خَلِيفَةً، وهي قِراءَةٌ شاذَّةٌ ضَعِيفَةُ المَعْنى لَمْ تَثْبُتْ عن عالِمٍ، ومَرَّ شُرَيْحٌ عَلى رَجُلَيْنِ يَصْطَرِعانِ فَقالَ: لَيْسَ بِهَذا أمْرُ الفَراغِ، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإلى رَبِّكَ فارْغَبْ﴾ أمْرٌ بِالتَوَكُّلِ عَلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وصَرْفُ وجْهِ الرَغَباتِ إلَيْهِ لا إلى سِواهُ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "فَرَغِّبْ" بِفَتْحِ الراءِ وشَدِّ الغَيْنِ مَكْسُورَةً. كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ [الشَرْحِ] والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب