الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما العَقَبَةُ﴾ ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ ﴿أو إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ ﴿يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ﴾ ﴿أو مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ﴾ ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وتَواصَوْا بِالصَبْرِ وتَواصَوْا بِالمَرْحَمَةِ﴾ ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ المَيْمَنَةِ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هم أصْحابُ المَشْأمَةِ﴾ ﴿عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾ (p-٦٢٢)( العَقَبَة ) في هَذِهِ الآيَةِ -عَلى عُرْفِ كَلامِ العَرَبِ- اسْتِعارَةٌ لِهَذا العَمَلِ الشاقِّ عَلى النَفْسِ مِن حَيْثُ هو بَذْلُ مالٍ تَشْبِيهٌ بِعَقَبَةٍ مِنَ الجَبَلِ، وهي ما صَعُبَ مِنهُ وكانَ صُعُودًا، و﴿اقْتَحَمَ﴾ مَعْناهُ: دَخَلَها وجاوَزَها بِسُرْعَةٍ وضَغْطٍ وشِدَّةٍ، وأمّا المُفَسِّرُونَ فَرَأوا أنَّ ( العَقَبَةَ ) يُرادُ بِها جَبَلٌ في جَهَنَّمَ، لا يُنْجِي مِنهُ إلّا هَذِهِ الأعْمالُ ونَحْوُها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ، وقالَ الحَسَنُ: العَقَبَةُ جَهَنَّمُ، قالَ هو وقَتادَةُ فاقْتَحِمُوها بِطاعَةِ اللهِ، وفي الحَدِيثِ: « "إنَّ اقْتِحامَها لِلْمُؤْمِنِ كَما بَيْنَ صَلاةِ العَصْرِ إلى العَشاءِ"». واخْتَلَفَ الناسُ في قَوْلِهِ ( فَلا ) فَقالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: هو تَحْضِيضٌ بِمَعْنى "فَأْلًا"، وقالَ آخَرُونَ وهو دُعاءٌ بِمَعْنى أنَّهُ يَسْتَحِقُّ أنْ يُدْعى عَلَيْهِ بِألا يَفْعَلَ خَيْرًا، وقِيلَ: هو نَفْيٌ، أيْ فَما اقْتَحَمَ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ، والزَجّاجُ، وهَذا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا صَدَّقَ ولا صَلّى﴾ [القيامة: ٣١]، فَهو نَفْيٌ مَحْضٌ كَأنَّهُ قالَ: وهَبْنا لَهُ الجَوارِحَ ودَلَلْناهُ عَلى السَبِيلِ فَما فَعَلَ خَيْرًا. ثُمَّ عَظَّمَ اللهُ تَعالى أمْرَ العَقَبَةِ في النُفُوسِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَما أدْراكَ ما العَقَبَةُ﴾ ثُمَّ فَسَّرَ تَعالى اقْتِحامَ العَقَبَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ وذَلِكَ أنَّ التَقْدِيرَ: وما أدْراكَ ما اقْتِحامُ العَقَبَةِ؟ هَذا عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ "فَكُّ رَقَبَةٍ" بِالرَفْعِ عَلى المَصْدَرِ، وأمّا مَن قَرَأ "فَكَّ" عَلى الفِعْلِ، ونَصَبَ "الرَقَبَةَ"، فَلَيْسَ يَحْتاجُ أنْ يُقَدِّرَ: "وَما أدْراكَ ما اقْتِحامُ" بَلْ يَكُونُ التَعْظِيمُ لِلْعَقَبَةِ نَفْسِها، ويَجِيءُ "فَكَّ" بَدَلًا مِنِ "اقْتَحَمَ" ومُبِينًا. وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ ﴿أو إطْعامٌ﴾، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: "فَكَّ رَقَبَةً أو أطْعَمَ"، وقَرَأ بَعْضُ التابِعِينَ "فَكِّ رَقَبَةٍ" بِالخَفْضِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، والكِسائِيُّ، وأبُو عَمْرٍو أيْضًا "فَكَّ رَقَبَةٍ" بِالنَصْبِ "أو إطْعامٌ"، وتَرْتِيبُ هَذِهِ القِراءاتِ ووُجُوهُها بَيِّنَةٌ. و"فَكُّ الرَقَبَةِ" مَعْناهُ: بِالعِتْقِ مِن رَقَبَةِ الأُسَرِ والرِقِّ، وفي الحَدِيثِ عَنِ (p-٦٢٣)النَبِيِّ ﷺ: « "مَن أعْتَقَ نَسَمَةً مُؤْمِنَةً أعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنها عُضْوًا مِنهُ مِنَ النارِ"». «وَقالَ أعْرابِيٌّ لِلنَّبِيِّ ﷺ: دُلَّنِي عَلى عَمَلٍ أنْجُو بِهِ، فَقالَ: "لَئِنْ قَصَرْتَ القَوْلَ لَقَدْ عَرَضْتَ المَسْألَةَ، فُكَّ الرَقَبَةَ وأعْتِقِ النَسَمَةَ"، فَقالَ الأعْرابِيُّ: ألَيْسَ هَذا واحِدًا؟ فَقالَ النَبِيُّ ﷺ: "لا، عِتْقُ النَسَمَةِ أنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِها، وفَكُّ الرَقَبَةِ أنْ تُعِينَ في ثَمَنِها".» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكَذَلِكَ فَكُّ الأسِيرِ إنْ شاءَ اللهُ، وفِداؤُهُ أنْ يَنْفَرِدَ الفادِي. «ثُمَّ قالَ النَبِيُّ ﷺ لِلْأعْرابِيِّ: "وَأبْقِ عَلى ذِي الرَحِمِ الظالِمِ، فَإنْ لَمْ تُطِقْ هَذا كُلَّهُ، فَكُفَّ لِسانَكَ إلّا مِن خَيْرٍ".» و" المَسْغَبَة ": المَجاعَةُ، والساغِبُ: الجائِعُ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ عَلى نَعْتِ "يَوْمٍ"، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، والحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ: "ذا مَسْغَبَةٍ" عَلى أنْ يَعْمَلَ فِيها "أطْعَمَ" أو "إطْعامَ" عَلى القِراءَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ، وفي هَذا حَذْفُ المَوْصُوفِ وإقامَةُ الصِفَةِ مَقامَهُ؛ لِأنَّ التَقْدِيرَ إنْسانًا ذا مَسْغَبَةٍ و"يَتِيمًا" يَدُلُّ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ تَعالى ذا مَسْغَبَة، ووَصَفَتِ الصِفَةُ لَمّا قامَتْ مَقامَ مَوْصُوفِها المَحْذُوفِ فَأشْبَهَتِ الأسْماءَ، و"المَسْغَبَةُ": الجُوعُ العامُّ، وقَدْ يُقالُ في الخاصِّ: سَغَبَ الرَجُلُ إذا جاعَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذا مَقْرَبَةٍ﴾ مَعْناهُ: ذا مَقْرُبَةٍ لِتَجْتَمِعَ الصَدَقَةُ والصِلَةُ، وهَذا نَحْوُ ما قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِزَيْنَبَ امْرَأةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: « "تَصَدَّقِي عَلى زَوْجِكِ فَهي لَكِ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ"»، و"أو" في قَوْلِهِ ﴿أو مِسْكِينًا﴾ فِيها مَعْنى الإباحَةِ ومَعْنى (p-٦٢٤)التَخْيِير؛ لِأنَّ الكَلامَ يَتَضَمَّنُ مَعْنى الحَضِّ والأمْرِ، وفِيها أيْضًا مَعْنى التَفْضِيلِ المُجَرَّدِ؛ لِأنَّ الكَلامَ يَجْرِي مَجْرى الخَبَرِ الَّذِي لا تَكُونُ أو فِيهِ إلّا مُفَصَّلَةً، وأمّا مَعْنى الشَكِّ أوِ الإبْهامِ فَلا مَدْخَلَ لَها في هَذِهِ الآيَةِ، والإبْهامُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنّا أو إيّاكُمْ﴾ [سبإ: ٢٤]، وقَوْل أبِي الأُسُودِ: ؎ أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا وعَبّاسًا وحَمْزَةَ أو عَلِيًّا و﴿ذا مَتْرَبَةٍ﴾ مَعْناهُ: مُدْقِعًا قَدْ لَصِقَ بِالتُرابِ، وهَذا مِمّا يَنْحُو إلى أنَّ المِسْكِينَ أشَدُّ فاقَةً مِنَ الفَقِيرِ، قالَ سُفْيانُ: هُمُ المَطْرُوحُونَ عَلى ظَهْرِ الطَرِيقِ قُعُودًا عَلى التُرابِ لا بُيُوتَ لَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو الَّذِي يَخْرُجُ مِن بَيْتِهِ ثُمَّ يُقَلِّبُ وجْهَهُ إلى بَيْتِهِ مُسْتَيْقِنًا أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلّا التُرابُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ كانَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اقْتَحَمَ﴾ ويُتَوَجَّهُ فِيهِ مَعانِي ﴿فَلا اقْتَحَمَ﴾ المَذْكُورَةُ مِنَ النَفْيِ والتَحْضِيضِ والدُعاءِ، ورَجَّحَ أبُو عَمْرٍو بْنُ العَلاءِ قِراءَتَهُ: "فَكُّ رَقَبَةٍ" بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ثُمَّ كانَ﴾، ومَعْنى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ كانَ﴾ أيْ كانَ وقْتَ (p-٦٢٥)اقْتِحامِهِ العَقَبَةَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، ولَيْسَ المَعْنى أنَّهُ يَقْتَحِمُ ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ الِاقْتِحامَ كانَ يَقَعُ مِن غَيْرِ مُؤْمِنٍ وذَلِكَ غَيْرُ نافِعٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتَواصَوْا بِالصَبْرِ﴾ مَعْناهُ: عَلى طاعَةِ اللهِ تَعالى وبَلائِهِ وقَضائِهِ، وعَنِ الشَهَواتِ والمَعاصِي. والمَرْحَمَةِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: كُلُّ ما يُؤَدِّي إلى رَحْمَةِ اللهِ تَعالى. وقالَ آخَرُونَ: هو التَراحُمُ وعَطْفُ بَعْضٍ مِنَ الناسِ عَلى بَعْضٍ، وفي ذَلِكَ قِوامُ الناسِ ولَوْ لَمْ يَتَراحَمُوا جُمْلَةً هَلَكُوا. والمَيْمَنَةِ مَفْعَلَةٌ، وهي -فِيما رُوِيَ- عن يَمِينِ العَرْشِ، وهو مَوْضِعُ الجَنَّةِ ومَكانُ المَرْحُومِينَ مِنَ الناسِ. والمَشْأمَةِ الجانِبُ الأشْأمُ، وهو الأيْسَرُ، وفِيهِ جَهَنَّمُ، وهو طَرِيقُ المُعَذَّبِينَ يُؤْخَذُ بِهِمْ ذاتُ الشِمالِ، وهَذا مَأْخُوذٌ مِنَ اليَمَنِ والشامِ، لِلْواقِفِ بِبابِ الكَعْبَةِ مُتَوَجِّهًا إلى مَطْلَعِ الشَمْسِ، واليَدُ الشُؤْمى هي اليُسْرى، وذَهَبَ الزَجّاجُ وقَوْمٌ إلى أنَّ ذَلِكَ مِنَ اليُمْنِ والشُؤْمِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، ونافِعٌ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ "مُوصَدَةٌ" عَلى وزْنِ "مَوْعِدَةٌ" وكَذَلِكَ في سُورَةِ الهُمَزَةِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، وحَفْصٌ، عن عاصِمٍ "مُؤْصَدَةٍ" بِالهَمْزِ في السُورَتَيْنِ، ومَعْناهُما جَمِيعًا، مُطْبَقَةً مُغْلَقَةً، يُقالُ: "أوصَدْتُ وآصَدْتُ" بِمَعْنى: أطْبَقْتُ وأغْلَقْتُ، فَمُوصَدَةٌ -دُونَ هَمْزٍ- مِن "أوصَدْتُ"، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ يَهْمِزَ مَن يَراها مِن "أوصَدْتُ" مِن حَيْثُ قِيلَ: الواوُ حَرْفٌ مَضْمُومٌ عَلى لُغَةِ مَن قَرَأ: "بِالسُوقِ"، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ لِحَبِّ المُؤْقِدانِ إلَيَّ مُؤَسى ∗∗∗......................... (p-٦٢٦)بِالهَمْزِ فِيهِما، و"مُؤْصَدَةٌ" مِن "آصَدْتُ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يُسَهِّلَ الهَمْزَةَ فَيَجِيءُ "مُوصَدَةً" مِن "آصَدْتُ" ومِنَ اللَفْظَةِ "الوَصِيدُ"، وقالَ الشاعِرُ: ؎ قَوْمًا يُعالِجُ قُمَّلًا أبْناؤُهم ∗∗∗ ∗∗∗ وسَلاسِلًا حَلْقًا وبابًا مُوصَدًا كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ البَلَدِ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب