الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكم إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عنهم فَأعْرِضُوا عنهم إنَّهم رِجْسٌ ومَأْواهم جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ﴿يَحْلِفُونَ لَكم لِتَرْضَوْا عنهم فَإنْ تَرْضَوْا عنهم فَإنْ اللهَ لا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ ﴿الأعْرابُ أشَدُّ كُفْرًا ونِفاقًا وأجْدَرُ ألا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن أوَّلِ ما نَزَلَ في شَأْنِ المُنافِقِينَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وذَلِكَ «أنَّ بَعْضَ المُنافِقِينَ اعْتَذَرُوا إلى النَبِيِّ ﷺ، واسْتَأْذَنُوهُ في القُعُودِ قَبْلَ مَسِيرِهِ فَأذِنَ لَهُمْ، فَخَرَجُوا مِن عِنْدِهِ وقالَ أحَدُهُمْ: واللهِ ما هو إلّا شَحْمَةٌ لِأوَّلِ آكِلٍ، فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، نَزَلَ فِيهِمُ القُرْآنُ، فانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ فَقالَ لِلْمُنافِقِينَ في مَجْلِسٍ مِنهُمْ: واللهِ لَقَدْ نَزَلَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ فِيكم قُرْآنٌ، فَقالُوا لَهُ: وما ذَلِكَ؟ فَقالَ: لا أحْفَظُ إلّا أنِّي سَمِعْتُ وصْفَكم فِيهِ بِالرِجْسِ، فَقالَ لَهم مَخْشِيٌّ: واللهِ لَوَدِدْتُ أنْ أُجْلَدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ ولا أكُونُ مَعَكُمْ، فَخَرَجَ حَتّى لَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ لَهُ: ما جاءَ بِكَ؟ فَقالَ: وجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ تَسْفَعُهُ الرِيحُ وأنا في الكِنِّ، فَرُوِيَ أنَّهُ مِمَّنْ تابَ.» وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَأعْرِضُوا عنهُمْ﴾ أُمِرْنا بِانْتِهارِهِمْ وعُقُوبَتِهِمْ بِالإعْراضِ والوَصْمِ بِالنِفاقِ، وهَذا مَعَ إجْمالٍ لا مَعَ تَعْيِينٍ مُصَرَّحٍ مِنَ اللهِ ولا مِن رَسُولِهِ، بَلْ كانَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهم مَيْدانُ المُغالَطَةِ مَبْسُوطًا، وقَوْلُهُ: ﴿رِجْسٌ﴾ أيْ نَتَنٌ وقَذَرٌ، وناهِيكَ بِهَذا (p-٣٨٨)الوَصْفِ مَحَطَّةً دُنْياوِيَّةً، ثُمَّ عَطَفَ بِمَحَطَّةِ الآخِرَةِ فَقالَ: ﴿وَمَأْواهم جَهَنَّمُ﴾ أيْ مَسْكَنُهم. ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ جَزاءً بِتَكَسُّبِهِمُ المَعاصِيَ والكُفْرَ مَعَ أنَّ ذَلِكَ مِمّا قَدَّرَهُ اللهُ وقَضاهُ لا رَبَّ غَيْرُهُ ولا مَعْبُودَ سِواهُ. وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ «عن كَعْبِ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِن تَبُوكَ جَلَسَ لِلنّاسِ فَجاءَهُ المُخَلَّفُونَ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ ويَحْلِفُونَ، وكانُوا بِضْعَةً وثَمانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنهم رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلانِيَتَهم وبايَعَهم واسْتَغْفَرَ لَهُمْ، ووَكَلَ سَرائِرَهم إلى اللهِ تَعالى.» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَحْلِفُونَ لَكم لِتَرْضَوْا عنهُمْ﴾ هَذِهِ الآيَةُ والَّتِي قَبْلَها مُخاطَبَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ الرَسُولِ، والمَعْنى: يَحْلِفُونَ لَكم مُبْطِلِينَ ومَقْصِدُهم أنْ تَرْضَوْا لا أنَّهم يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللهِ ولا لِلْبَرِّ. وقَوْلُهُ: ﴿فَإنْ تَرْضَوْا﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ شَرْطٌ يَتَضَمَّنُ النَهْيَ عَنِ الرِضى عنهُمْ، وحُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ يَسْتَمِرُّ في كُلِّ مَغْمُوصٍ عَلَيْهِ بِبِدْعَةٍ ونَحْوِها، فَإنَّ المُؤْمِنَ يَنْبَغِي أنْ يُبْغِضَهُ ولا يَرْضى عنهُ لِسَبَبٍ مِن أسْبابِ الدُنْيا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الأعْرابُ أشَدُّ كُفْرًا ونِفاقًا وأجْدَرُ ألا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللهُ﴾ الآيَةُ، "الأعْرابُ" لَفْظَةٌ عامَّةٌ، ومَعْناهُ الخُصُوصُ فِيمَنِ اسْتَثْناهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وهَذا مَعْلُومٌ بِالوُجُودِ وكَيْفَ كانَ الأمْرُ، وإنَّما انْطَلَقَ عَلَيْهِمْ هَذا الوَصْفُ بِحَسَبِ بُعْدِهِمْ عَنِ الحَواضِرِ ومَواضِعِ العِلْمِ والأحْكامِ والشَرْعِ، وهَذِهِ الآيَةُ إنَّما نَزَلَتْ في مُنافِقِينَ كانُوا في البَوادِي، ولا مَحالَةَ أنَّ خَوْفَهم هُناكَ أقَلُّ مِن خَوْفِ مُنافِقِي المَدِينَةِ، فَألْسِنَتُهم لِذَلِكَ مُطْلَقَةٌ، ونِفاقُهم أنْجَمُ. (p-٣٨٩)وَأسْنَدَ الطَبَرِيُّ أنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحانَ كانَ يُحَدِّثُ أصْحابَهُ بِالعِلْمِ وعِنْدَهُ أعْرابِيٌّ، وكانَ زَيْدٌ قَدْ أُصِيبَتْ يَدُهُ اليُسْرى يَوْمَ نَهاوَنْدَ، فَقالَ الأعْرابِيُّ: واللهِ إنَّ حَدِيثَكَ لَيُعْجِبُنِي وإنَّ يَدَكَ لَتُرِيبُنِي، وقالَ زَيْدٌ: وما يُرِيبُكَ مِن يَدِي وهي الشِمالُ؟ فَقالَ الأعْرابِيُّ: واللهُ ما أدْرِي ألْيَمِينَ تَقْطَعُونَ أمِ الشِمالَ؟ فَقالَ زَيْدٌ: صَدَقَ اللهُ، ﴿الأعْرابُ أشَدُّ كُفْرًا ونِفاقًا وأجْدَرُ ألا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ﴾. و"أجْدَرُ" مَعْناهُ: أحْرى وأقْمَنُ، والحُدُودُ هُنا: السُنَنُ والأحْكامُ ومَعالِمُ الشَرِيعَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب