الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ألَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ وقَوْمِ إبْراهِيمَ وأصْحابِ مَدْيَنَ والمُؤْتَفِكاتِ أتَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهم ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ (p-٣٦٠)المُنْكَرِ ويُقِيمُونَ الصَلاةَ ويُؤْتُونَ الزَكاةَ ويُطِيعُونَ اللهَ ورَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهَ إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتٍ عَدْنٍ ورِضْوانٌ مِن اللهُ أكْبَرُ ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ يَقُولُ عَزَّ وجَلَّ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ألَمْ يَأْتِ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ خَبَرُ الأُمَمِ السالِفَةِ الَّتِي عَصَتِ اللهَ بِتَكْذِيبِ رُسُلِهِ فَأهْلَكَها؟ وعادٌ وثَمُودُ قَبِيلَتانِ، وقَوْمُ إبْراهِيمَ: نَمْرُودٌ وأصْحابُهُ وتُبّاعُ دَوْلَتِهِ، وأصْحابُ مَدْيَنَ: قَوْمُ شُعَيْبٍ، والمُؤْتَفِكاتُ: أهْلُ القُرى الأرْبَعَةِ، وقِيلَ: السَبْعَةُ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ لُوطٌ ﷺ، ومَعْنى المُؤْتَفِكاتِ: المُنْصَرِفاتُ والمُنْقَلِباتُ، أفِكَتْ فائْتَفَكَتْ لِأنَّهُ جَعَلَ أعالِيَها أسافِلَها، وقَدْ جاءَتْ في القُرْآنِ مُفْرَدَةً تَدُلُّ عَلى الجَمْعِ، ومِن هَذِهِ اللَفْظَةِ قَوْلُ عِمْرانَ بْنِ حَطّانِ: ؎ بِمَنطِقٍ مُسْتَبِينٍ غَيْرِ مُلْتَبِسٍ ∗∗∗ بِهِ اللِسانُ وإنِّي غَيْرُ مُؤْتَفِكِ أيْ: غَيْرُ مُنْقَلِبٍ مُنْصَرِفٍ مُضْطَرِبٍ، ومِنهُ يُقالُ لِلرِّيحِ: مُؤْتَفِكَةٌ لِتَصَرُّفِها، ومِنهُ: ( أنّى يُؤْفَكُونَ )، والإفْكُ صَرْفُ القَوْلِ مِنَ الحَقِّ إلى الكَذِبِ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿أتَتْهم رُسُلُهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى هَذِهِ الأُمَمِ المَذْكُورَةِ، وقِيلَ: عَلى المُؤْتَفِكاتِ خاصَّةً، وجَعَلَ لَهم رُسُلًا وإنَّما كانَ نَبِيُّهم واحِدًا لِأنَّهُ كانَ يُرْسِلُ إلى كُلِّ قَرْيَةٍ رَسُولًا داعِيًا، فَهم رُسُلُ رَسُولِ اللهِ، ذَكَرَهُ الطَبَرِيُّ، والتَأْوِيلُ الأوَّلُ في عَوْدِ الضَمِيرِ عَلى جَمِيعِ الأُمَمِ أبْيَنُ. وقَوْلُهُ: ﴿بِالبَيِّناتِ﴾ يُرِيدُ: بِالمُعْجِزاتِ، وهي بَيِّنَةٌ في نَفْسِها بِالإضافَةِ إلى الحَقِّ لا بِالإضافَةِ إلى المُكَذِّبِينَ بِها. ولَمّا فَرَغَ مِن ذِكْرِ المُنافِقِينَ بِالأشْياءِ الَّتِي يَنْبَغِي أنْ تَصْرِفَ عَنِ النِفاقِ وتَنْهى عنهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ المُؤْمِنِينَ بِالأشْياءِ الَّتِي تُرَغِّبُ في الإيمانِ وتُنَشِّطُ إلَيْهِ تَلَطُّفًا مِنهُ تَبارَكَ وتَعالى بِعِبادِهِ لا رَبَّ غَيْرُهُ، وذُكِرَتْ هُنا الوِلايَةُ إذْ لا وِلايَةَ بَيْنَ المُنافِقِينَ، ولا شَفاعَةَ لَهُمْ، ولا يَدْعُو بَعْضُهم لِبَعْضٍ، وكَأنَّ المُرادَ هُنا الوِلايَةُ في اللهِ خاصَّةً، وقَوْلُهُ: ﴿بِالمَعْرُوفِ﴾ يُرِيدُ: بِعِبادَةِ اللهِ وتَوْحِيدِهِ وكُلِّ ما اتَّبَعَ ذَلِكَ، وقَوْلِهِ: ﴿عَنِ المُنْكَرِ﴾ يُرِيدُ عن عِبادَةِ الأوثانِ وكُلِّ ما اتَّبَعَ ذَلِكَ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عن أبِي العالِيَةِ أنَّهُ قالَ: كَلُّ (p-٣٦١)ما ذَكَرَ اللهُ في القُرْآنِ مِنَ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ فَهو دُعاءٌ مِنَ الشِرْكِ إلى الإسْلامِ، وكُلُّ ما ذُكِرَ مِنَ النَهْيِ عَنِ المُنْكَرِ فَهو النَهْيُ عن عِبادَةِ الأوثانِ والشَياطِينِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَلاةَ﴾ هي الصَلَواتُ الخَمْسُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وبِحَسَبِ هَذا تَكُونُ الزَكاةُ المَفْرُوضَةُ، والمَدْحُ عِنْدِي بِالنَوافِلِ أبْلَغُ، إذْ مَن يُقِيمُ النَوافِلَ أحْرى بِإقامَةِ الفَرْضِ، وقَوْلُهُ: ﴿وَيُطِيعُونَ اللهَ ورَسُولَهُ﴾ جامِعٌ لِلْمَندُوباتِ، والسِينُ في قَوْلِهِ: ﴿سَيَرْحَمُهُمُ﴾ مَدْخَلٌ في الوَعْدِ مُهْلَةً، لِتَكُونَ النُفُوسُ تَنْعَمُ بِرَجائِهِ، وفَضْلُهُ تَعالى زَعِيمٌ بِالإنْجازِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ﴾ الآيَةُ، وعْدُهُ في هَذِهِ الآيَةِ صَرِيحٌ نَصٌّ في الخَيْرِ، وقَوْلُهُ: ﴿مِن تَحْتِها﴾ إمّا مِن تَحْتِ أشْجارِها، وإمّا مِن تَحْتِ عُلِّيّاتِها، وإمّا مِن تَحْتِ مَجالِسِها بِالإضافَةِ إلى هَذا، كَما تَقُولُ في دارَيْنِ مُتَجاوِرَتَيْنِ مُتَساوِيَتَيِ المَكانَ: هَذِهِ تَحْتَ هَذِهِ. وذَكَرَ الطَبَرِيُّ «فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَساكِنَ طَيِّبَةً﴾ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: سَألْتُ عنها عِمْرانَ بْنَ الحُصَيْنِ وأبا هُرَيْرَةَ فَقالا: عَلى الخَبِيرِ سَقَطْتَ، سَألْنا عنها رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقالَ: "قَصْرٌ في الجَنَّةِ مِنَ اللُؤْلُؤِ، فِيهِ سَبْعُونَ دارًا مِن ياقُوتَةٍ حَمْراءَ، في كُلِّ دارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِن زُمُرُّدَةٍ خَضْراءَ، في كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا"،» ونَحْوُ هَذا مِمّا يُشْبِهُ هَذِهِ الألْفاظَ أو يَقْرُبُ مِنها فاخْتَصَرْتُها طَلَبَ الإيجازِ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿فِي جَنّاتِ عَدْنٍ﴾ فَمَعْناهُ: في جَنّاتِ إقامَةٍ وثُبُوتٍ، يُقالُ: عَدَنَ الشَيْءُ في المَكانِ إذا أقامَ بِهِ وثَبَتَ، ومِنهُ المَعْدِنُ، أيْ مَوْضِعُ ثُبُوتِ الشَيْءِ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎ وإنْ يَسْتَضِيفُوا إلى حِلْمِهِ ∗∗∗ ∗∗∗ يُضافُوا إلى راجِحٍ قَدْ عَدَنْ (p-٣٦٢)هَذا الكَلامُ اللُغَوِيُّ، وقالَ كَعْبُ الأحْبارِ: جَنّاتُ عَدْنٍ هي بِالفارِسِيَّةِ: جَنّاتُ الكُرُومِ والأعْنابِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وأظُنُّ هَذا وهْمًا اخْتَلَطَ بِالفِرْدَوْسِ، وقالَ الضَحّاكُ: جَنّاتُ عَدْنٍ هِيَ: مَدِينَةُ الجَنَّةِ وعُظْمُها، فِيها الأنْبِياءُ والعُلَماءُ والشُهَداءُ وأئِمَّةُ العَدْلِ والناسُ حَوْلَهم بَعْدُ والجَنّاتُ حَوْلَها، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَدْنٌ هي بُطْنانُ الجَنَّةِ وسُرَّتُها، وقالَ عَطاءٌ: عَدْنٌ: نَهْرٌ في الجَنَّةِ جَنّاتُهُ عَلى حافَّتِهِ، وقالَ الحَسَنُ: عَدْنٌ: قَصْرٌ في الجَنَّةِ لا يَدْخُلُهُ إلّا نَبِيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شَهِيدٌ أو حَكَمٌ عَدْلٌ، ومَدَّ بِها صَوْتَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والآيَةُ تَأْبى هَذا التَخْصِيصَ إذْ قَدْ وعَدَ اللهُ بِها جَمْعَ المُؤْمِنِينَ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أكْبَرُ﴾ فَرُوِيَ فِيهِ «أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ لِعِبادِهِ إذا اسْتَقَرُّوا في الجَنَّةِ: "هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وكَيْفَ لا نَرْضى يا رَبَّنا؟ فَيَقُولُ: إنِّي سَأُعْطِيكم أفْضَلَ مِن هَذا كُلِّهِ، رِضْوانِي، أرْضى عَلَيْكُمْ، فَلا أسْخَطُ عَلَيْكم أبَدًا".» الحَدِيثُ. وقَوْلُهُ: ﴿أكْبَرُ﴾ يُرِيدُ: أكْبَرَ مِن كُلِّ ما تَقَدَّمَ، ومَعْنى الآيَةِ والحَدِيثِ مُتَّفِقٌ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: وصَلَ إلى قُلُوبِهِمْ بِرِضْوانِ اللهِ مِنَ اللَذَّةِ والسُرُورِ (p-٣٦٣)ما هو ألَذُّ عِنْدَهم وأقَرُّ لِأعْيُنِهِمْ مِن كُلِّ شَيْءٍ أصابُوهُ مِن لَذَّةِ الجَنَّةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَظْهَرُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أكْبَرُ﴾ إشارَةً إلى مَنازِلِ المُقَرَّبِينَ الشارِبِينَ مِن تَسْنِيمِ الَّذِينَ يُرَوْنَ كَما يُرى النَجْمُ الغائِرُ في الأُفُقِ، وجَمِيعُ مَن في الجَنَّةِ راضٍ والمَنازِلُ مُخْتَلِفَةٌ، وفَضْلُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى مُتَّسِعٌ، والفَوْزُ: النَجاةُ والخَلاصُ ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فازَ﴾ [آل عمران: ١٨٥]، والمُقَرَّبُونَ هم في الفَوْزِ العَظِيمِ، والعِبارَةُ عِنْدِي عن حالِهِمْ بِسُرُورٍ وكَمالٍ أجْوَدُ مِنَ العِبارَةِ عنها بِلَذَّةٍ، واللَذَّةُ أيْضًا مُسْتَعْمَلَةٌ في هَذا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب