الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهم بِما في قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ﴾ ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم لَيَقُولُنَّ إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أبِاللهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكم إنْ نَعْفُ عن طائِفَةٍ مِنكم نُعَذِّبْ طائِفَةٍ بِأنَّهم كانُوا مُجْرِمِينَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى:" يَحْذَرُ" خَبْرٌ عن حالِ قُلُوبِهِمْ، وحَذَرُهم إنَّما هو أنْ تُتْلى سُورَةٌ، ومُعْتَقَدُهم -هَلْ تَنْزِلُ أمْ لا- لَيْسَ بِنَصٍّ في الآيَةِ لَكِنَّهُ ظاهِرٌ، فَإنْ حُمِلَ عَلى مُقْتَضى نِفاقِهِمْ واعْتِقادِهِمْ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِن عِنْدِ اللهِ فَوَجْهٌ بَيِّنٌ، وإنْ قِيلَ: إنَّهم يَعْتَقِدُونَ نُزُولَ ذَلِكَ مِن عِنْدِ اللهِ وهم يُنافِقُونَ مَعَ ذَلِكَ فَهَذا كُفْرٌ وعِنادٌ. وقالَ الزَجّاجُ وبَعْضُ مِن ذَهَبَ إلى التَحَرُّزِ مِن هَذا الِاحْتِمالِ: مَعْنى "يَحْذَرُ": الأمْرُ وإنْ كانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الخَبَرِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: "لِيَحْذَرْ". (p-٣٥٥)وَقَرَأ أبُو عَمْرٍو وجَماعَةٌ مَعَهُ: "أنْ تَنْزِلَ"، ساكِنَةَ النُونِ خَفِيفَةَ الزايِ، وقَرَأ بِفَتْحِ النُونِ مُشَدَّدَةَ الزايِ الحَسَنُ، والأعْرَجُ، وعاصِمٌ، والأعْمَشُ، وعِيسى: و"أنْ" مِن قَوْلِهِ: "أنْ تُنَزَّلَ" مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّ "يَحْذَرُ" عامِلٌ فَهي مَفْعُولُهُ، وقالَ غَيْرُهُ: "حَذِرَ" إنَّما هي مِن هَيْئاتِ النَفْسِ الَّتِي لا تَتَعَدّى، مِثْلُ "فَزِعَ"، وإنَّما التَقْدِيرُ: "يَحْذَرُ المُنافِقُونَ مِن أنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اسْتَهْزِئُوا﴾ لَفْظُهُ الأمْرُ ومَعْناهُ التَهْدِيدُ، ثُمَّ ابْتَدَأ الإخْبارَ عن أنَّهُ يَخْرُجُ لَهم إلى حَيِّزِ الوُجُودِ ما يَحْذَرُونَهُ، وفَعَلَ ذَلِكَ تَبارَكَ وتَعالى في سُورَةِ التَوْبَةِ فَهي تُسَمّى الفاضِحَةَ؛ لِأنَّها فَضَحَتِ المُنافِقِينَ. وقالَ الطَبَرِيُّ: «كانَ المُنافِقُونَ إذا عابُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ وذَكَرُوا شَيْئًا مِن أمْرِهِ قالُوا: "لَعَلَّ اللهَ لا يُفْشِي سِرَّنا"، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ.» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا يَقْتَضِي كُفْرَ العِنادِ الَّذِي قُلْناهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ﴾ الآيَةُ، نَزَلَتْ -عَلى ما ذَكَرَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ- في ودِيعَةَ بْنِ ثابِتٍ، وذَلِكَ أنَّهُ مَعَ قَوْمٍ مِنَ المُنافِقِينَ كانُوا يَسِيرُونَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: هَذا يُرِيدُ أنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الشامِ ويَأْخُذَ حُصُونَ بَنِي الأصْفَرِ، هَيْهاتَ هَيْهاتَ. فَوَقَفَهم رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلى ذَلِكَ، وقالَ لَهُمْ: قُلْتُمْ كَذا وكَذا، فَقالُوا: "إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ"، يُرِيدُونَ: كُنّا غَيْرَ مُجِدِّينَ، وذَكَرَ ابْنُ إسْحاقَ «أنَّ قَوْمًا مِنهم تَقَدَّمُوا النَبِيَّ ﷺ، وقالَ بَعْضُهُمْ: كَأنَّكم واللهِ غَدًا في الحِبالِ أسْرى لِبَنِي الأصْفَرِ، إلى نَحْوِ هَذا مِنَ القَوْلِ، فَقالَ النَبِيُّ ﷺ: "أدْرِكِ القَوْمَ فَقَدِ احْتَرَقُوا، وأخْبِرْهم بِما قالُوا"، ونَزَلَتِ الآيَةُ.» ورُوِيَ أنَّ ودِيعَةَ بْنَ ثابِتٍ المَذْكُورَ قالَ في جَماعَةٍ مِنَ المُنافِقِينَ: (p-٣٥٦)ما رَأيْتُ كَقُرّائِنا هَؤُلاءِ، لا أرْغَبُ بُطُونًا ولا أكْثَرُ كَذِبًا ولا أجْبَنُ عِنْدَ اللِقاءِ، فَعَنَّفَهم رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلى هَذِهِ المَقالَةِ فَقالُوا: إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ، ثُمَّ أمَرَهُ بِتَقْرِيرِهِمْ: ﴿أبِاللهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ وفي ضِمْنِ هَذا التَقْرِيرِ وعِيدٌ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ «عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: رَأيْتُ قائِلَ هَذِهِ المَقالَةِ ودِيعَةَ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ ناقَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يُماشِيها تَنْكُبُهُ وهو يَقُولُ: "إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ"، والنَبِيُّ يَقُولُ: ﴿أبِاللهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ ؟»، وذَكَرَ النَقّاشُ أنَّ هَذا المُتَعَلِّقَ كانَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ، وذَلِكَ خَطَأٌ لِأنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ تَبُوكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَعْتَذِرُوا﴾ الآيَةُ، المَعْنى: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: "لا تَعْتَذِرُوا" عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ، كَأنَّهُ قالَ: لا تَفْعَلُوا ما لا يَنْفَعُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ فَقالَ: قُلْ لَهُمْ: ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ الَّذِي زَعَمْتُمُوهُ ونَطَقْتُمْ بِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿عن طائِفَةٍ مِنكُمْ﴾ يُرِيدُ -فِيما ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ- رَجُلًا واحِدًا، قِيلَ اسْمُهُ مِخْشَنُ بْنُ حُمَيِّرٍ، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ، وقالَ ابْنُ هِشامٍ، ومُقاتِلٌ: مَخْشِيُّ، وقالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيّاطٍ في تارِيخِهِ: مُخاشِنُ بْنُ حُمَيِّرٍ، وذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: مُخاشِنُ الحِمْيَرِيُّ، وذَكَرَ جَمِيعُهم أنَّهُ اسْتُشْهِدَ بِاليَمامَةِ، وكانَ قَدْ تابَ وتَسَمّى عَبْدَ الرَحْمَنِ، فَدَعا اللهَ أنْ يُسْتَشْهَدَ، ويُجْهَلَ أمْرُهُ فَكانَ ذَلِكَ بِاليَمامَةِ، ولَمْ يُوجَدْ جَسَدُهُ، وذَكَرَ أيْضًا ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيْرٍ بِضَمِّ الحاءِ وفَتْحِ المِيمِ وسُكُونِ الياءِ، ولَمْ يُتْقِنِ القِصَّةَ. وكانَ مَخْشِيٌّ مَعَ المُنافِقِينَ الَّذِينَ قالُوا: "إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ"، فَقِيلَ: كانَ مُنافِقًا ثُمَّ تابَ تَوْبَةً صَحِيحَةً، وقِيلَ: كانَ مُسْلِمًا مُخْلِصًا إلّا أنَّهُ سَمِعَ كَلامَ المُنافِقِينَ فَضَحِكَ لَهم ولَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَعَفا اللهُ عنهُ في كِلا الوَجْهَيْنِ، ثُمَّ أوجَبَ العَذابَ لِباقِي المُنافِقِينَ الَّذِينَ قالُوا ما تَقَدَّمَ. (p-٣٥٧)وَقَرَأ جَمِيعُ السَبْعَةِ سِوى عاصِمٍ: "إنْ يُعْفَ عن طائِفَةٍ" بِالياءِ "تُعَذَّبْ" بِالتاءِ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: "إنْ يَعْفُ" بِالياءِ المَفْتُوحَةِ عَلى تَقْدِيرِ: إنْ يَعْفُ اللهُ، "يُعَذِّبْ" اللهُ، "طائِفَةً" بِالنَصْبِ، وقَرَأ عاصِمٌ، وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ: "إنْ نَعْفُ" بِالنُونِ "نُعَذِّبْ" بِنُونِ الجَمِيعِ أيْضًا، وقَرَأ مُجاهِدٌ: "إنْ تُعْفَ" بِالتاءِ المَضْمُومَةِ عَلى تَقْدِيرِ: إنْ تُعْفَ هَذِهِ الذُنُوبُ "تُعَذَّبْ" بِالتاءِ أيْضًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب