الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أو مَغاراتٍ أو مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وهم يَجْمَحُونَ﴾ ﴿وَمِنهم مَن يَلْمِزُكَ في الصَدَقاتِ فَإنْ أُعْطُوا مِنها رَضُوا وإنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنها إذا هم يَسْخَطُونَ﴾ ﴿وَلَوْ أنَّهم رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ ورَسُولُهُ وقالُوا حَسْبُنا اللهُ سَيُؤْتِينا اللهُ مِن فَضْلِهِ ورَسُولُهُ إنّا إلى اللهُ راغِبُونَ﴾
المَلْجَأُ: مِن لَجَأ يَلْجَأُ إذا أوى واعْتَصَمَ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أو مَغاراتٍ" بِفَتْحِ المِيمِ، وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: "أو مُغاراتٍ" بِضَمِّ المِيمِ، وهي الغِيرانُ في أعْراضِ الجِبالِ، فَفَتْحُ المِيمِ مِن: "غارَ الشَيْءُ" إذا دَخَلَ، كَما تَقُولُ: "غارَتِ العَيْنُ"، إذا دَخَلَتْ في الحِجاجِ، وضَمُّ المِيمِ مِن: "أغارَ الشَيْءُ غَيْرَهُ" إذا أدْخَلَهُ، فَهَذا وجْهٌ مِنِ اشْتِقاقِ اللَفْظَةِ، وقِيلَ: إنَّ العَرَبَ تَقُولُ: "غارَ الرَجُلُ وأغارَ" بِمَعْنًى واحِدٍ، أيْ: دَخَلَ، قالَ الزَجّاجُ: إذا دَخَلَ الغَوْرَ، فَيُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ اللَفْظَةُ أيْضًا مِن هَذا.
(p-٣٣٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويَصِحُّ في قِراءَةٍ ضَمِّ المِيمِ أنْ تَكُونَ مِن قَوْلِهِمْ: "حَبْلٌ مُغارٌ" أيْ مَفْتُولٌ، ثُمَّ يُسْتَعارُ ذَلِكَ في الأمْرِ المُحْكَمِ المُبْرَمِ فَيَجِيءُ التَأْوِيلُ عَلى هَذا: لَوْ يَجِدُونَ عَصْرَةً أو أُمُورًا مُرْتَبِطَةً مُشَدَّدَةً تَعْصِمُهم مِنكم.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أو مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إلَيْهِ﴾ وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "مُدَّخَلًا" أصْلُهُ مُفْتَعَلٌ، وهو بِناءُ تَأْكِيدٍ ومُبالَغَةٍ، ومَعْناهُ: السِرْبُ والنَفَقُ في الأرْضِ، وبِما ذَكَرْناهُ في "المَلْجَإ والمَغاراتِ والمُدَّخَلِ" فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وقالَ الزَجّاجُ: المُدَّخَلُ: مَعْناهُ: قَوْمًا يُدْخِلُونَهم في جُمْلَتِهِمْ. وقَرَأ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحارِبٍ، والحَسَنُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وابْنُ كَثِيرٍ بِخِلافٍ عنهُ: "أو مَدْخَلًا" فَهَذا مِن دَخَلَ، وقَرَأ قَتادَةُ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ، والأعْمَشُ: "أو مُدَّخَّلًا" بِتَشْدِيدِهِما، وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "مُنْدَخَلًا" بَنُونٍ، قالَ أبُو الفَتْحِ: هَذا كَقَوْلِ الشاعِرِ:
؎ ............................... ∗∗∗ ولا يَدِي في حَمِيتِ السَمْنِ تَنْدَخِلُ
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وقالَ أبُو حاتِمٍ: قِراءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "مُتْدَخَلًا" بِتاءٍ مَفْتُوحَةٍ، ورُوِيَ عَنِ الأعْمَشِ، وعِيسى: "مُدْخَلًا" بِضَمِّ المِيمِ فَهو مَن أدْخَلَ.
وقَرَأ الناسُ: "لَوَلَّوْا"، وقَرَأ جَدُّ أبِي عُبَيْدَةَ بْنِ قَرْمَلَ: "لَوالَوْا" مِنَ المُوالاةِ، (p-٣٣٨)وَأنْكَرَها سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وقالَ: أظُنُّها: "لَوَألُوا" بِمَعْنى "لَجَؤُوا"، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "يَجْمَحُونَ"، مَعْناهُ: يُسْرِعُونَ مُصَمِّمِينَ غَيْرَ مُنْثَنِينَ، ومِنهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ:
؎ لَقَدْ جَمَحْتُ جِماحًا في دِمائِهِمُ ∗∗∗ ∗∗∗ حَتّى رَأيْتُ ذَوِي أحِسابِهِمْ خَمَدُوا
وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: "يَجْمَزُونَ" ومَعْناهُ: يَهْرُبُونَ، ومِنهُ قَوْلُهم في حَدِيثِ الرَجْمِ: "فَلَمّا أذْلَقَتْهُ الحِجارَةُ جَمَزَ".
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنهم مَن يَلْمِزُكَ﴾ الآيَةُ، الضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "وَمِنهُمْ" عائِدٌ عَلى المُنافِقِينَ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ إلى أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ أنَّهُ قالَ: «جاءَ ابْنُ ذِي الخُوَيْصِرَةِ التَمِيمِيُّ ورَسُولُ اللهِ ﷺ يُقَسِّمُ قَسْمًا فَقالَ: "اعْدِلْ يا مُحَمَّدُ"» الحَدِيثُ المَشْهُورُ بِطُولِهِ، وفِيهِ: قالَ أبُو سَعِيدٍ: فَنَزَلَتْ في ذَلِكَ ﴿وَمِنهم مَن يَلْمِزُكَ في الصَدَقاتِ﴾، ورَوى داوُدُ بْنُ أبِي عاصِمٍ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِصَدَقَةٍ فَقَسَّمَها ووَراءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ فَقالَ: "ما هَذا بِالعَدْلِ" فَنَزَلَتِ الآيَةُ.»
(p-٣٣٩)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذِهِ نَزْعَةُ مُنافِقٍ، وكَذَلِكَ رُوِيَ مِن غَيْرِ ما طَرِيقٍ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ كَلامِ المُنافِقِينَ إذْ لَمْ يُعْطَوْا بِحَسَبِ شَطَطِ آمالِهِمْ.
و﴿يَلْمِزُكَ﴾ مَعْناهُ: يَعِيبُكَ ويَأْخُذُ مِنكَ في الغَيْبَةِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ إذا لَقِيتُكَ تُبْدِي لِي مُكاشَرَةً ∗∗∗ ∗∗∗ وإنْ أغِيبُ فَأنْتَ الهامِزُ اللَمِزُ
ومِنهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
؎ ................................ ∗∗∗ ∗∗∗ في ظِلِّ عَصْرَيْ باطِلِي ولَمْزِي
والهَمْزُ أيْضًا في نَحْوِ ذَلِكَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١]، وقِيلَ لِبَعْضِ العَرَبِ: أتُهْمَّزُ الفَأْرَةُ؟ فَقالَ: إنَّها تَهْمِزُها الهِرَّةُ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: فَجَعَلَ الأكْلَ هَمْزًا، وهَذِهِ اسْتِعارَةٌ كَما اسْتَعارَ حَسّانُ بْنُ ثابِتٍ الغَرْثَ في قَوْلِهِ:
؎ ................................. ∗∗∗ ∗∗∗ وتُصْبِحُ غَرْثى مِن لُحُومِ الغَوافِلِ
(p-٣٤٠)تَرْكِيبًا عَلى اسْتِعارَةِ الأكْلِ في الغَيْبَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولَمْ يَجْعَلِ الأعْرابِيُّ الهَمْزَ الأكْلَ، وإنَّما أرادَ ضَرْبَها إيّاها بِالنابِ والظُفْرِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "يَلْمِزُكَ" بِكَسْرِ المِيمِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ فِيما رَوى عنهُ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ "يَلْمُزُكَ" بِضَمِّ المِيمِ، وهي قِراءَةُ أهْلِ مَكَّةَ وقِراءَةُ الحَسَنِ، وأبِي رَجاءٍ، وغَيْرِهِمْ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "يُلَمِّزُكَ"، ورَوى أيْضًا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: "يُلامِزُكَ"، وهي مُفاعَلَةٌ مِن واحِدٍ لِأنَّهُ فِعْلٌ لَمْ يَقَعْ مِنَ النَبِيِّ ﷺ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ أنَّهم رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ ورَسُولُهُ﴾ الآيَةُ.
وصْفٌ لِلْحالِ الَّتِي يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ عَلَيْها المُسْتَقِيمُونَ، يَقُولُ تَعالى: "وَلَوْ أنَّ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ رَضُوا قِسْمَةَ اللهِ الرِزْقَ لَهم وما أعْطاهم عَلى يَدَيْ رَسُولِهِ ورَجَّوْا أنْفُسَهم فَضْلَ اللهِ ورَسُولِهِ، وأقَرُّوا بِالرَغْبَةِ إلى اللهِ، لَكانَ خَيْرًا لَهم وأفْضَلَ مِمّا هم فِيهِ". وحُذِفَ الجَوابُ مِنَ الآيَةِ لِدَلالَةِ ظاهِرِ الكَلامِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ مِن فَصِيحِ الكَلامِ وإيجازِهِ.
{"ayahs_start":57,"ayahs":["لَوۡ یَجِدُونَ مَلۡجَـًٔا أَوۡ مَغَـٰرَ ٰتٍ أَوۡ مُدَّخَلࣰا لَّوَلَّوۡا۟ إِلَیۡهِ وَهُمۡ یَجۡمَحُونَ","وَمِنۡهُم مَّن یَلۡمِزُكَ فِی ٱلصَّدَقَـٰتِ فَإِنۡ أُعۡطُوا۟ مِنۡهَا رَضُوا۟ وَإِن لَّمۡ یُعۡطَوۡا۟ مِنۡهَاۤ إِذَا هُمۡ یَسۡخَطُونَ","وَلَوۡ أَنَّهُمۡ رَضُوا۟ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَقَالُوا۟ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ سَیُؤۡتِینَا ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥۤ إِنَّاۤ إِلَى ٱللَّهِ رَ ٰغِبُونَ"],"ayah":"وَمِنۡهُم مَّن یَلۡمِزُكَ فِی ٱلصَّدَقَـٰتِ فَإِنۡ أُعۡطُوا۟ مِنۡهَا رَضُوا۟ وَإِن لَّمۡ یُعۡطَوۡا۟ مِنۡهَاۤ إِذَا هُمۡ یَسۡخَطُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











