الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إلا إحْدى الحُسْنَيَيْنِ ونَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكم أنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِن عِنْدِهِ أو بِأيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إنّا مَعَكم مُتَرَبِّصُونَ﴾ ﴿قُلْ أنْفِقُوا طَوْعًا أو كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنكم إنَّكم كُنْتُمْ قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ فالمَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ الرَدُّ عَلى المُنافِقِينَ في مُعْتَقَدِهِمْ في المُؤْمِنِينَ، وإزالَةُ ظَنِّهِمْ أنَّ المُؤْمِنِينَ تَنْزِلُ بِهِمْ مَصائِبُ، والإعْلامُ بِأنَّها حُسْنى كَيْفَ تَصَرَّفَتْ. وتَرَبَّصُونَ مَعْناهُ: تَنْتَظِرُونَ، والحُسْنَيانِ: الشَهادَةُ والظَفَرُ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "إلّا احْدى الحُسْنَيَيْنِ" بِوَصْلِ ألِفِ "إحْدى". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ لُغَةٌ ولَيْسَتْ بِالقِياسِ، وهَذا مِثْلُ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ يا بالمُغِيرَةِ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ وقَوْلِ الآخَرِ: ؎ إنْ لَمْ أُقاتِلْ فالبِسِينِي بُرْقُعا (p-٣٣٣)وَقَوْلُهُ: ﴿بِعَذابٍ مِن عِنْدِهِ﴾ يُرِيدُ المَوْتَ بِإحْداثِ الأسَفِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَوَعُّدًا بِعَذابِ الآخِرَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿أو بِأيْدِينا﴾ يُرِيدُ القَتْلَ. وقِيلَ: ﴿بِعَذابٍ مِن عِنْدِهِ﴾ يُرِيدُ أنْواعَ المَصائِبِ والقَوارِعِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَتَرَبَّصُوا إنّا مَعَكم مُتَرَبِّصُونَ﴾ وعِيدٌ وتَهْدِيدٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ أنْفِقُوا طَوْعًا أو كَرْهًا﴾ سَبَبُها أنَّ الجَدَّ بْنَ قَيْسٍ حِينَ قالَ: ﴿ائْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] قالَ: "إنِّي أُعِينُكَ بِمالٍ" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيهِ، وهي عامَّةٌ بَعْدَهُ. والطَوْعُ والكُرْهُ يَعُمّانِ كُلَّ إنْفاقٍ، وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ: "أو كُرْهًا" بِضَمِّ الكافِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَتَّصِلُ هُنا ذِكْرُ أفْعالِ الكافِرِ إذا كانَتْ بِرًّا كَصِلَةِ القَرابَةِ وجَبْرِ الكَسِيرِ وإغاثَةِ المَظْلُومِ، هَلْ يَنْتَفِعُ بِها أمْ لا؟ فاخْتِصارُ القَوْلِ في ذَلِكَ أنَّ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "إنَّ ثَوابَ الكافِرِ عَلى أفْعالِهِ البَرَّةِ هو في الطُعْمَةِ يُطْعَمُها"» ونَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذا مُقْنِعٌ لا يُحْتاجُ مَعَهُ إلى نَظَرٍ، وأمّا أنْ يَنْتَفِعَ بِها في الآخِرَةِ فَلا دَلِيلَ، ذَلِكَ «أنَّ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ قالَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: يا رَسُولَ اللهِ، أرَأيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ جُدْعانَ، أيَنْفَعُهُ ما كانَ يُطْعِمُ ويَصْنَعُ مِن خَيْرٍ؟ فَقالَ: "لا، إنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِينِ"»، ودَلِيلٌ آخَرُ في قَوْلِ عَمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ لِابْنِهِ: "ذاكَ العاصِي بْنُ وائِلٍ لا جَزاهُ اللهُ خَيْرًا"، وكانَ هَذا القَوْلُ بَعْدَ مَوْتِ العاصِي، الحَدِيثُ بِطُولِهِ، ودَلِيلٌ ثالِثٌ في حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزامٍ عَلى أحَدِ التَأْوِيلَيْنِ، أعْنِي في قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: « "أسَلَمْتَ عَلى ما سَلَفَ لَكَ مِن خَيْرٍ"،» ولا حُجَّةَ في أمْرِ أبِي طالِبٍ وكَوْنِهِ في ضَحْضاحٍ مِن نارٍ لِأنَّ ذَلِكَ إنَّما هو بِشَفاعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وبِأنَّهُ وجَدَهُ في غَمْرَةٍ مِنَ النارِ فَأخْرَجَهُ، ولَوْ (p-٣٣٤)فَرَضْنا أنَّ ذَلِكَ بِأعْمالِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلى شَفاعَةٍ. وأمّا أفْعالُ الكافِرِ القَبِيحَةُ، فَإنَّها تَزِيدُ في عَذابِهِ، وبِذَلِكَ تَفاضُلُهم في عَذابِ جَهَنَّمَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْفِقُوا﴾ أمْرٌ في ضِمْنِهِ جَزاءٌ، وهَذا مُسْتَمِرٌّ في كُلِّ أمْرٍ مَعَهُ جَوابٌ، فالتَقْدِيرُ: "إنْ تُنْفِقُوا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنكُمْ"، وأمّا إذا عُرِّيَ الأمْرُ مِن جَوابٍ، فَلَيْسَ يُصِبْهُ تَضَمُّنُ الشَرْطِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب