الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وارْتابَتْ قُلُوبُهم فَهم في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ ﴿وَلَوْ أرادُوا الخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ولَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهم فَثَبَّطَهم وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾ ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلا خَبالا ولأوضَعُوا خِلالَكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكم سَمّاعُونَ لَهم واللهُ عَلِيمٌ بِالظالِمِينَ﴾ هَذِهِ الآيَةُ تَنُصُّ عَلى أنَّ المُسْتَأْذِنِينَ إنَّما هم مُخْلَصُونَ لِلنِّفاقِ، ﴿وارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ مَعْناهُ: شَكَّتْ، والرَيْبُ نَحْوُ الشَكِّ، ويَتَرَدَّدُونَ أيْ: يَتَحَيَّرُونَ ولا يَتَّجِهُ لَهم هُدًى، ومِن هَذِهِ الآيَةِ نَزَعَ أهْلُ الكَلامِ في حَدِّ الشَكِّ أنَّهُ تَرَدُّدٌ بَيْنَ أمْرَيْنِ، والصَوابُ في حَدِّهِ أنَّهُ تَوَقُّفٌ بَيْنَ أمْرَيْنِ، والتَرَدُّدُ في الآيَةِ إنَّما هو في رَيْبِ هَؤُلاءِ (p-٣٢٤)المُنافِقِينَ، إذْ كانُوا تَخْطُرُ لَهم صِحَّةُ أمْرِ النَبِيِّ ﷺ أحْيانًا، وأنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ أحْيانًا، ولَمْ يَكُونُوا شاكِّينَ طالِبِينَ لِلْحَقِّ؛ لِأنَّهُ كانَ يَتَّضِحُ لَهم لَوْ طَلَبُوهُ، بَلْ كانُوا مُذَبْذَبِينَ لا إلى هَؤُلاءِ ولا إلى هَؤُلاءِ كالشاةِ العائِرَةِ بَيْنَ الغَنْمَيْنِ، وأيْضًا فَبَيْنَ الشَكِّ والرَيْبِ فَرْقٌ ما، وحَقِيقَةُ الرَيْبِ إنَّما هو الأمْرُ يَسْتَرِيبُ بِهِ الناظِرُ، فَيَخْلِطُ عَلَيْهِ عَقِيدَتَهُ، ورُبَّما أدّى إلى شَكٍّ وحَيْرَةٍ، ورُبَّما أدّى إلى عِلْمِ النازِلَةِ الَّتِي هو فِيها، ألا تَرى أنَّ قَوْلَ الهُذَلِيِّ: كَأنِّي أرَبْتُهُ بِرَيْبِ لا يَتَّجِهُ أنْ يُفَسَّرَ بِشَكٍّ. قالَ الطَبَرِيُّ: وكانَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ يَرَوْنَ أنَّ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مَنسُوخَتانِ بِالآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنا في سُورَةِ النُورِ، وأسْنَدَ عَنِ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ أنَّهُما قالا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ٤٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَهم في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾: مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ النُورِ: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ورَسُولِهِ﴾ [النور: ٦٢] إلى ﴿إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٦٢]. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا غَلَطٌ وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ أرادُوا الخُرُوجَ﴾ الآيَةُ، حُجَّةٌ عَلى المُنافِقِينَ، أيْ: ولَوْ (p-٣٢٥)أرادُوا الخُرُوجَ بِنِيّاتِهِمْ، لَنَظَرُوا في ذَلِكَ واسْتَعَدُّوا لَهُ قَبْلَ كَوْنِهِ. والعُدَّةُ: ما يُعَدُّ لِلْأمْرِ ويُرْوى لَهُ مِنَ الأشْياءِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "عُدَّةً" بِضَمِّ العَيْنِ وتاءِ تَأْنِيثٍ، وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوانَ وابْنُهُ مُعاوِيَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ: "عُدَّهُ" بِضَمِّ العَيْنِ وهاءِ إضْمارٍ، يُرِيدُ: "عُدَّتَهُ" فَحُذِفَتْ تاءُ التَأْنِيثِ لَمّا أضافَ، كَما قالَ: "وَإقامِ الصَلاةِ" يُرِيدُ: "وَإقامَةِ الصَلاةِ"، هَذا قَوْلُ الفَرّاءِ، وضَعَّفَهُ أبُو الفَتْحِ وقالَ: إنَّما حَذَفَ تاءَ التَأْنِيثِ وجَعَلَ هاءَ الضَمِيرِ عِوَضًا مِنها، وقالَ أبُو حاتِمٍ: هو جَمْعُ "عُدَّةٌ" عَلى "عُدٍّ" كَبُرَّةٍ وبُرٍّ ودُرَّةٍ ودُرٍّ، والوَجْهُ فِيهِ عُدَّدَ ولَكِنْ لا يُوافِقُ خَطَّ المُصْحَفِ، وقَرَأ عاصِمٌ فِيما رَوى عنهُ أبانُ، وزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: "عِدَّهُ" بِكَسْرِ العَيْنِ وهاءِ إضْمارٍ، وهو عِنْدِي اسْمٌ لِما يُعَدُّ كالذِبْحِ والقِتْلِ، لِأنَّ العَدُوَّ سُمِّيَ قِتْلًا إذْ حَقُّهُ أنْ يُقْتَلَ، هَذا في مُعْتَقَدِ العَرَبِ حِينَ سَمَّتْهُ. وانْبِعاثَهم نُفُوذَهم لِهَذِهِ الغَزْوَةِ، والتَثْبِيطُ: التَكْسِيلُ وكَسْرُ العَزْمِ، وقَوْلُهُ: ﴿وَقِيلَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حِكايَةً عَنِ اللهِ تَعالى، أيْ: قالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى في سابِقِ قَضائِهِ: ﴿وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حِكايَةً عنهُمْ، أيْ: كانَتْ هَذِهِ مَقالَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، إمّا لَفْظًا وإمّا مَعْنًى، فَحُكِيَ في هَذِهِ الألْفاظِ الَّتِي تَقْتَضِي لَهم مَذَمَّةً، إذِ القاعِدُونَ النِساءُ والأطْفالُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عِبارَةً عن إذْنِ مُحَمَّدٍ ﷺ في القُعُودِ، أيْ: لَمّا كَرِهَ اللهُ خُرُوجَهم يَسَّرَ أنْ قُلْتَ لَهُمْ: ﴿اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾، والقُعُودُ هُنا عِبارَةٌ عَنِ التَخَلُّفِ والتَراخِي كَما هو في قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ ............................... ∗∗∗ واقْعُدْ فَإنَّكَ أنْتَ الطاعِمُ الكاسِي (p-٣٢٦)وَلَيْسَ لِلْهَيْئَةِ في هَذا كُلِّهِ مَدْخَلٌ، وكَراهِيَةُ اللهِ انْبِعاثَهم رِفْقٌ بِالمُؤْمِنِينَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ﴾ الآيَةُ... خَبَرٌ بِأنَّهم لَوْ خَرَجُوا لَكانَ خُرُوجُهم مَضَرَّةً، وقَوْلُهُ: "إلّا خَبالًا" اسْتِثْناءٌ مِن غَيْرِ الأوَّلِ، وهَذا قَوْلُ مَن قَدَّرَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ في عَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ خَبالٌ فَيَزِيدُ المُنافِقُونَ فِيهِ، فَكَأنَّ المَعْنى: ما زادُوكم قُوَّةً ولا شِدَّةَ لَكِنْ خَبالًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الِاسْتِثْناءُ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، وذَلِكَ أنَّ عَسْكَرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ في غَزْوَةِ تَبُوكَ كانَ فِيهِ مُنافِقُونَ كَثِيرٌ ولَهم لا مَحالَةَ خَبالٌ، فَلَوْ خَرَجَ هَؤُلاءِ، لالتَأمُوا مَعَ الخارِجِينَ فَزادَ الخَبالُ، والخَبالُ: الفَسادُ في الأشْياءِ المُؤْتَلِفَةِ المُلْتَحِمَةِ كالمَوَدّاتِ وبَعْضِ الأجْرامِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ يا بَنِي لُبَيْنى لَسْتُما بِيَدٍ ∗∗∗ ∗∗∗ إلّا يَدًا مَخْبُولَةَ العَضُدِ وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "ما زادَكُمْ" بِغَيْرِ واوٍ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "لَأوضَعُوا" ومَعْناهُ: لَأسْرَعُوا السَيْرَ. و"خِلالَكُمْ" مَعْناهُ: فِيما بَيْنَكم مِن هُنا إلى هُنا لِسَدِّ المَوْضِعِ الخَلَّةِ بَيْنَ الرَجُلَيْنِ، والإيضاعُ: سُرْعَةُ السَيْرِ، وقالَ الزَجّاجُ: "خِلالَكُمْ" مَعْناهُ: فِيما يُخِلُّ بِكم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ، وماذا يَقُولُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَجاسُوا خِلالَ الدِيارِ﴾ [الإسراء: ٥]، وقَرَأ مُجاهِدٌ فِيما حَكى النَقّاشُ عنهُ: "وَلَأوفَضُوا"، وهو بِمَعْنى الإسْراعِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ [المعارج: ٤٣]، وحُكِيَ عَنِ الزُبَيْرِ أنَّهُ قَرَأ: "وَلَأرْفَضُوا"، قالَ أبُو الفَتْحِ: هَذِهِ مِن (p-٣٢٧)"رَفَضَ البَعِيرُ" إذا أسْرَعَ في مَشْيِهِ رَفَضًا ورَفَضانًا، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ بْنِ ثابِتٍ: ؎ بِزُجاجَةٍ رَفَضَتْ بِما في قَعْرِها ∗∗∗ ∗∗∗ رَفَضَ القَلُوصِ بِراكِبٍ مُسْتَعْجِلِ ووَقَعَتْ "وَلا أوضَعُوا" بِألِفٍ بَعْدَ "لا" في المُصْحَفِ، وكَذَلِكَ وقَعَتْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أو لأذْبَحَنَّهُ﴾ [النمل: ٢١]، قِيلَ: وذَلِكَ لِخُشُونَةِ هِجاءِ الأوَّلِينَ، قالَ الزَجّاجُ: وإنَّما وقَعُوا في ذَلِكَ لِأنَّ الفَتْحَةَ في العِبْرانِيَّةِ وكَثِيرٌ مِنَ الألْسِنَةِ تَكْتُبُ ألِفًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَمْطُلَ حَرَكَةُ اللامِ فَيَحْدُثُ بَيْنَ اللامِ والهَمْزَةِ الَّتِي مِن "أوضَعَ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ﴾ أيْ: يَطْلُبُونَ لَكُمُ الفِتْنَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿وَفِيكم سَمّاعُونَ﴾ قالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ: مَعْناهُ: جَواسِيسُ يَسْتَمِعُونَ الأخْبارَ ويَنْقُلُونَها إلَيْهِمْ، ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ، وقالَ النَقّاشُ: بِناءُ المُبالِغَةِ يُضْعِفُ هَذا القَوْلَ. وقالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: مَعْناهُ: وفِيكم مُطِيعُونَ سامِعُونَ لَهُمْ، وقَوْلُهُ: ﴿واللهُ عَلِيمٌ بِالظالِمِينَ﴾ تَوَعُّدٌ لَهم ولِمَن كانَ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَلى هَذِهِ الصِفَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب