الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا لا إلَهَ إلا هو سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأفْواهِهِمْ ويَأْبى اللهِ إلا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾
واحِدُ "الأحْبارِ" حِبْرٌ بِكَسْرِ الحاءِ، ويُقالُ: حَبْرٌ بِفَتْحِ الحاءِ، والأوَّلُ أفْصَحُ ومِنهُ مِدادُ الحِبْرِ، والحَبْرُ بِالفَتْحِ: العالِمُ، وقالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: لَمْ أسْمَعْهُ إلّا بِكَسْرِ الحاءِ، وقالَ الفَرّاءُ: سَمِعْتُ فَتْحَ الحاءِ وكَسْرَها في العالِمِ، وقالَ ابْنُ السِكِّيتِ: الحِبْرُ بِالكَسْرِ: المِدادُ، والحَبْرُ بِالفَتْحِ: العالِمُ، والرُهْبانُ: جَمْعُ راهِبٍ وهو الخائِفُ، مِنَ الرَهْبَةِ، وسَمّاهم أرْبابًا وهم لا يَعْبُدُوهم ولَكِنْ مِن حَيْثُ تَلَقَّوُا الحَلالَ والحَرامَ مِن جِهَتِهِمْ، وهو أمْرٌ لا يُتَلَقّى إلّا مِن جِهَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ونَحْوُ هَذا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وحُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ، وأبُو العالِيَةِ، وحَكى الطَبَرِيُّ «أنَّ عَدِيَّ بْنَ حاتِمٍ قالَ: جِئْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وفي عُنُقِي صَلِيبُ ذَهَبٍ، فَقالَ: يا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذا الصَلِيبَ مِن عُنُقِكَ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللهِ﴾، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ وكَيْفَ ولَمْ نَعْبُدْهُمْ؟ فَقالَ: ألَيْسَ تَسْتَحِلُّونَ ما أحَلُّوا وتُحَرِّمُونَ ما حَرَّمُوا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قالَ: فَذاكَ،» و"المَسِيحَ" عَطْفٌ عَلى الأحْبارِ والرُهْبانِ، (p-٢٩٨)وَ"سُبْحانَهُ" نَصْبٌ عَلى المَصْدَرِ والعامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مِنَ المَعْنى؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِن لَفْظِ "سُبْحانَ" فِعْلٌ، والتَقْدِيرُ: أُنَزِّهُهُ تَنْزِيهًا، فَمَعْنى: "سُبْحانَهُ": تَنْزِيهًا لَهُ، واحْتَجَّ مَن يَقُولُ إنَّ أهْلَ الكِتابِ مُشْرِكُونَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَمّا يُشْرِكُونَ﴾، والغَيْرُ يَقُولُ: إنَّ اتِّخاذَ هَؤُلاءِ الأرْبابِ ضَرْبٌ ما مِنَ الإشْراكِ، وقَدْ يُقالُ في المُرائِي: إنَّهُ أشْرَكَ، وفي ذَلِكَ آثارٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ( يُرِيدُونَ أنْ يُطْفئوُا نُورَ اللهِ ) الآيَةُ، نُورُ اللهِ في هَذِهِ الآيَةِ: هُداهُ الصادِرُ عَنِ القُرْآنِ والشَرْعُ المُثْبَتُ في قُلُوبِ الناسِ، فَمِن حَيْثُ سَمّاهُ نُورًا سَمّى مُحاوَلَةَ إفْسادِهِ والصَدَّ في وجْهِهِ إطْفاءً. وقالَتْ فِرْقَةٌ: النُورُ: القُرْآنُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولا مَعْنى لِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِمّا يَدْخُلُ تَحْتَ المَقْصُودِ بِالنُورِ. وقَوْلُهُ: ﴿بِأفْواهِهِمْ﴾ عِبارَةٌ عن قِلَّةِ حِيلَتِهِمْ وضَعْفِها، أخْبَرَ عنهم أنَّهم يُحاوِلُونَ مُقاوَمَةَ أمْرٍ جَسِيمٍ بِسَعْيٍ ضَعِيفٍ، فَكانَ الإطْفاءَ بِنَفْخِ الأفْواهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ: بِأقْوالٍ لا بُرْهانَ عَلَيْها، فَهي لا تُجاوِزُ الأفْواهَ إلى فَهْمِ سامِعٍ، وقَوْلُهُ: "وَيَأْبى" إيجابٌ يَقَعُ بَعْدَهُ أحْيانًا "إلّا" وذَلِكَ لِوُقُوعِهِ هو مَوْقِعَ الفِعْلِ المَنفِيِّ، لِأنَّ التَقْدِيرَ: ولا يُرِيدُ اللهُ إلّا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ، وقالَ الفَرّاءُ: "هُوَ إيجابٌ فِيهِ طَرَفٌ مِنَ النَفْيِ"، ورَدَّ الزَجّاجُ عَلى هَذِهِ العِبارَةِ وبَيانُهُ ما قُلْناهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ﴾ الآيَةُ، "رَسُولَهُ" يُرادُ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وقَوْلُهُ: "بِالهُدى" يَعُمُّ القُرْآنَ وجَمِيعَ الشَرْعِ، وقَوْلُهُ: "وَدِينِ (p-٢٩٩)الحَقِّ" إشارَةٌ إلى الإسْلامِ والمِلَّةِ بِجَمْعِها وهي الحَنِيفِيَّةُ، وقَوْلُهُ: "لِيُظْهِرَهُ" قالَ أبُو هُرَيْرَةَ، وأبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وجابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ما مَعْناهُ: إنَّ الضَمِيرَ عائِدٌ عَلى الدِينِ، وإظْهارُهُ عِنْدَ نُزُولِ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ وكَوْنُ الأدْيانِ كُلِّها راجِعَةً إلى دِينِ الإسْلامِ، فَذَلِكَ إظْهارُهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَكَأنَّ هَذِهِ الفِرْقَةَ رَأتِ الإظْهارَ عَلى أتَمِّ وُجُوهِهِ، أيْ: حَتّى لا يَبْقى مَعَهُ دِينٌ آخَرُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِينِ﴾ أيْ لِيَجْعَلَهُ أعْلاها وأظْهَرَها، وإنْ كانَ مَعَهُ غَيْرُهُ كانَ دُونَهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَهَذا لا يَحْتاجُ إلى نُزُولِ عِيسى، بَلْ كانَ هَذا في صَدْرِ الأُمَّةِ وهو حَتّى الآنَ إنْ شاءَ اللهُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى الرَسُولِ، ومَعْنى "لِيُظْهِرَهُ" لِيُطْلِعَهُ ويُعْلِّمَهُ الشَرائِعَ كُلَّها والحَلالَ والحَرامَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا التَأْوِيلُ وإنْ كانَ صَحِيحًا جائِزًا فالآخَرُ أبْرَعُ مِنهُ وألْيَقُ بِنِظامِ الآيَةِ وأجْرى مَعَ كَراهِيَةِ المُشْرِكِينَ، وخَصَّ المُشْرِكُونَ هُنا بِالذِكْرِ لَمّا كانَتْ كَراهِيَةً مُخْتَصَّةً بِظُهُورِ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَذُكِرَ العُظْمُ والأُوَّلُ مِمَّنْ كَرِهَ وصَدَّ فِيهِ، وذُكِرَ الكافِرُونَ في الآيَةِ قَبْلُ لِأنَّها كَراهِيَةُ إتْمامِ نُورِ اللهِ في قَدِيمِ الدَهْرِ وفي باقِيهِ فَعَمَّ الكُفْرُ مِن لَدُنْ خَلْقِ الدُنْيا إلى انْقِراضِها إذْ قَدْ وقَعَتِ الكَراهِيَةُ والإتْمامُ مِرارًا كَثِيرَةً.
{"ayahs_start":31,"ayahs":["ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ ٰحِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ","یُرِیدُونَ أَن یُطۡفِـُٔوا۟ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَیَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّاۤ أَن یُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ","هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ"],"ayah":"هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق