الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وقالَتِ النَصارى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهم بِأفْواهِهِمْ يُضاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهِ أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ الَّذِي كَثُرَ في كُتُبِ أهْلِ العِلْمِ أنَّ فِرْقَةً مِنَ اليَهُودِ تَقُولُ هَذِهِ المَقالَةَ، ورُوِيَ أنَّهُ لَمْ (p-٢٩٣)يَقُلْها إلّا فِنْحاصُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: قالَها أرْبَعَةٌ مِن أحْبارِهِمْ، سَلامُ بْنُ مِشْكَمٍ، ونُعْمانُ بْنُ أبِي أوفى، وشاسُ بْنُ قَيْسٍ، ومالِكُ بْنُ الصَيْفِ، وقالَ النَقّاشُ: لَمْ يَبْقَ يَهُودِيٌّ يَقُولُها بَلِ انْقَرَضُوا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَإذا قالَها واحِدٌ فَيَتَوَجَّهُ أنْ يَلْزَمَ الجَماعَةَ شُنْعَةُ المَقالَةِ لِأجْلِ نَباهَةِ القائِلِ فِيهِمْ، وأقْوالُ النُبَهاءِ أبَدًا مَشْهُورَةٌ في الناسِ يُحْتَجُّ بِها، فَمِن هُنا صَحَّ أنْ تَقُولَ الجَماعَةُ قَوْلَ نَبِيِّها. وقَرَأ عاصِمٌ، والكِسائِيُّ: "عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ" بِتَنْوِينِ "عُزَيْرٍ"، والمَعْنى أنَّ "ابْنًا" -عَلى هَذا- خَبَرُ ابْتِداءٍ عن "عُزَيْرٌ"، وهَذا هو أصَحُّ المَذاهِبِ لِأنَّهُ المَعْنى المَنعِيُّ عَلَيْهِمْ. و"عُزَيْرٌ" ونَحْوُهُ- يَنْصَرِفُ عَجَمِيًّا كانَ أو عَرَبِيًّا، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ" دُونَ تَنْوِينِ "عُزَيْرٌ"، فَقالَ بَعْضُهُمُ: "ابْنُ" خَبَرٌ عن "عُزَيْرٌ"، وإنَّما حُذِفَ التَنْوِينُ مِن "عُزَيْرٌ" لِاجْتِماعِ الساكِنِينَ، ونَحْوُهُ قِراءَةُ مَن قَرَأ: "أحَدُ اللهُ الصَمَدُ". قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهو كَثِيرٌ في الشِعْرِ، وأنْشَدَ الطَبَرِيُّ في ذَلِكَ: ؎ لِتَجِدَنِّي بِالأمِيرِ بَرّا وبِالقَناةِ مِدْعَسًا مِكَرّا إذا عُطَيْفُ السُلَمِيُّ فَرّا قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فالألِفُ -عَلى هَذِهِ القِراءَةِ والتَأْوِيلِ- ثابِتَةٌ في "ابْنِ"، وقالَ بَعْضُهُمُ: "ابْنُ" صِفَةٌ لِـ (p-٢٩٤)"عُزَيْرٌ"، كَما تَقُولُ: "زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو "، وجُعِلَتِ الصِفَةُ والمَوْصُوفُ بِمَنزِلَةِ اسْمٍ واحِدٍ، وحُذِفَ التَنْوِينُ إذا جاءَ الساكِنانِ كَأنَّهُما التَقَيا مِن كَلِمَةٍ واحِدَةٍ، والمَعْنى: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ مَعْبُودُنا وإلَهُنا، أوِ المَعْنى: مَعْبُودُنا أو إلَهُنا عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقِياسُ هَذِهِ القِراءَةِ والتَأْوِيلِ أنْ يُحْذَفَ الألِفُ مِنِ "ابْنُ" لَكِنَّها تَثْبُتُ في خَطِّ المُصْحَفِ، فَيَتَدَرَّجُ مِن هَذا كُلِّهِ أنَّ قِراءَةَ التَنْوِينِ في "عُزَيْرٌ" أقْواها. وحَكى الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ أصابَتْهم فِتَنٌ وبَلاءٌ -وَقِيلَ مَرَضٌ- وأذْهَبَ اللهُ عنهُمُ التَوْراةَ في ذَلِكَ ونَسُوها، وكانَ عُلَماؤُهم قَدْ دَفَنُوها أوَّلَ ما أحَسُّوا بِذَلِكَ البَلاءِ، فَلَمّا طالَتِ المُدَّةُ فُقِدَتِ التَوْراةُ جُمْلَةً فَحَفَّظَها اللهُ عُزَيْرًا كَرامَةً مِنهُ لَهُ، فَقالَ لِبَنِي إسْرائِيلَ: إنَّ اللهَ قَدْ حَفَّظَنِي التَوْراةَ فَجَعَلُوا يَدْرُسُونَها مِن عِنْدِهِ، ثُمَّ إنَّ التَوْراةَ المَدْفُونَةَ وُجِدَتْ فَإذا هي مُساوِيَةٌ لِما كانَ عُزَيْرٌ يَدْرُسُ، فَضَلُّوا عِنْدَ ذَلِكَ وقالُوا: إنَّ هَذا لَنْ يَتَهَيَّأ إلّا وهو ابْنُ اللهِ، وظاهِرُ قَوْلِ النَصارى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ أنَّها بُنُوَّةُ النَسْلِ كَما قالَتِ العَرَبُ في المَلائِكَةِ، وكَذَلِكَ يَقْتَضِي قَوْلُ الضَحّاكِ والطَبَرِيِّ وغَيْرِهِما، وهَذا أشْنَعُ في الكُفْرِ، قالَ أبُو المَعالِي: أطْبَقَتِ النَصارى عَلى أنَّ المَسِيحَ إلَهٌ وأنَّهُ ابْنُ الإلَهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُقالُ: إنَّ بَعْضَهم يَعْتَقِدُها بُنُوَّةَ حُنُوٍّ ورَحْمَةٍ، وهَذا المَعْنى أيْضًا لا يُحِلُّ أنْ تُطْلَقَ البُنُوَّةُ عَلَيْهِ، وهو كُفْرٌ لِمَكانِ الإشْكالِ الَّذِي يَدْخُلُ مِن جِهَةِ التَناسُلِ، وكَذَلِكَ كَفَرَتِ اليَهُودُ في قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وقَوْلُهُمْ: نَحْنُ أبْناءُ اللهِ، وإنَّما تُوجَدُ في كَلامِ العَرَبِ اسْتِعارَةُ البُنُوَّةِ عِبارَةً عن نَسَبٍ ومُلازِماتٍ تَكُونُ بَيْنَ الأشْياءِ إذا لَمْ يُشْكِلِ الأمْرُ وكانَ أمْرُ النَسْلِ مِنَ الِاسْتِحالَةِ، زَمَنَ ذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوانَ: وقَدْ زَبَنَتْنا الحَرْبُ وزَبَنّاها، فَنَحْنُ بَنُوها وهي أُمُّنا. يُرِيدُ المُلازَمَةَ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ حُرَيْثِ بْنِ مِحْصَنٍ: ؎ بَنُو المَجْدِ لَمْ تَقْعُدْ بِهِمْ أُمَّهاتُهم ∗∗∗ ∗∗∗ وآباؤُهم أبْناءُ صِدْقٍ فَأنْجَبُوا (p-٢٩٥)وَمِن ذَلِكَ: ابْنُ نَعْشٍ، وابْنُ ماءٍ، وابْنُ السَبِيلِ، ونَحْوُ ذَلِكَ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: والأرْضُ تَحْمِلُنا وكانَتْ أُمَّنا ومِنهُ أحَدُ التَأْوِيلاتِ في قَوْلِهِ ﷺ: « "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ ابْنُ زِنى"» أيْ مُلازِمُهُ، والتَأْوِيلُ الآخَرُ: أنْ لا يَدْخُلَها مُشْكَلُ الأمْرِ، والتَأْوِيلانِ في قَوْلِ النَصارى: المَسِيحُ ابْنُ اللهِ كَما تَقَدَّمَ مِنَ الصِفَةِ والخَبَرِ إلّا أنَّ شَغَبَ التَنْوِينِ ارْتَفَعَ هاهُنا، وعُزَيْرٌ نَبِيٌّ مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِأفْواهِهِمْ﴾ يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ؛ أحَدُهُما: إلْزامُهُمُ المَقالَةَ والتَأْكِيدُ في ذَلِكَ كَما قالَ: ﴿يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩]، وكَقَوْلِهِ: ﴿وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨]، والمَعْنى الثانِي في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿بِأفْواهِهِمْ﴾ أيْ هو ساذَجٌ لا حُجَّةَ عَلَيْهِ ولا بُرْهانَ، غايَةُ بَيانِهِ أنْ يُقالَ بِالأفْواهِ قَوْلًا مُجَرَّدًا نَفْسَ دَعْوى. و"يُضاهُونَ" قِراءَةُ الجَماعَةِ، ومَعْناهُ: يُحاكُونَ ويُبارُونَ ويُماثِلُونَ، وقَرَأ عاصِمٌ وحْدَهُ مِنَ السَبْعَةِ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "يُضاهِئُونَ" بِالهَمْزِ عَلى أنَّهُ مِن "ضاهَأ" وهي لُغَةُ ثَقِيفٍ بِمَعْنى "ضاهى". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومَن قالَ إنَّ هَذا مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمُ: "امْرَأةٌ ضَهْياءُ" وهي الَّتِي لا تَحِيضُ، وقِيلَ: (p-٢٩٦)الَّتِي لا ثَدْيَ لَها، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشَبَهِها بِالرِجالِ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ، قالَهُ أبُو عَلِيٍّ، لِأنَّ الهَمْزَةَ في "ضاهَأ" أصْلِيَّةٌ، وفي "ضَهْياءَ" زائِدَةٌ كَحَمْراءَ، وإنْ كانَ الضَمِيرُ في "يُضاهِئُونَ" لِلْيَهُودِ والنَصارى جَمِيعًا فالإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ﴾ هي إمّا لِمُشْرِكِي العَرَبِ إذْ قالُوا: "المَلائِكَةُ بَناتُ اللهِ"، وهم أوَّلُ كافِرٍ، وهو قَوْلُ الضَحّاكِ، وإمّا لِأُمَمٍ سالِفَةٍ قَبْلَهُما، وإمّا لِلصَّدْرِ الأوَّلِ مِن كَفَرَةِ اليَهُودِ والنَصارى، ويَكُونُ "يُضاهِؤُونَ" لِمُعاصِرِي مُحَمَّدٍ ﷺ، وإنْ كانَ الضَمِيرُ في "يُضاهِئُونَ" لِلنَّصارى فَقَطْ كانَتِ الإشارَةُ بِـ "الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ" إلى اليَهُودِ، وعَلى هَذا فَسَّرَ الطَبَرِيُّ، وحَكاهُ الزَهْراوِيُّ عن قَتادَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قاتَلَهُمُ اللهُ﴾ دُعاءٌ عَلَيْهِمْ عامٌّ لِأنْواعِ الشَرِّ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَن قاتَلَهُ اللهُ فَهو المَغْلُوبُ المَقْتُولُ، وحَكى الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ المَعْنى: لَعَنَهُمُ اللهُ. و﴿أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ مَقْصِدُهُ: أنّى تَوَجَّهُوا وأنّى ذَهَبُوا، وبُدِّلَ مَكانَ هَذا الفِعْلِ المَقْصُودِ فِعْلُ سُوءٍ يَحِلُّ بِهِمْ، وذَلِكَ فَصِيحٌ في الكَلامِ كَما تَقُولُ: "لَعَنَ اللهُ الكافِرَ أنّى هَلَكَ" كَأنَّكَ تُحَتِّمُ عَلَيْهِ بِهَلاكٍ، وكَأنَّهُ حَتْمٌ عَلَيْهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ بِأنَّهم يُؤْفَكُونَ، ومَعْناهُ: يُحْرَمُونَ ويُصْرَفُونَ عَنِ الخَيْرِ، والأرْضُ المَأْفُوكَةُ الَّتِي لَمْ يُصِبْها مَطَرٌ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ( يُؤْفَكُونَ ) مَعْناهُ: يَحُدُّونَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: يُرِيدُ: مِن قَوْلِكَ: "رَجُلٌ مَحْدُودٌ" أيْ: مَحْرُومٌ لا يُصِيبُ خَيْرًا، وكَأنَّهُ مِنَ الإفْكِ الَّذِي هو الكَذِبُ، فَكَأنَّ المَأْفُوكَ هو الَّذِي تُكَذِّبُهُ أراجِيهِ فَلا يَلْقى خَيْرًا. ويُحْتَمَلُ أنْ (p-٢٩٧)يَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ ابْتِداءُ تَقْرِيرٍ، أيْ: بِأيِّ سَبَبٍ ومِن أيِّ جِهَةٍ يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ بَعْدَما تَبَيَّنَ لَهُمْ؟ و"قاتَلَ" في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنى "قَتَلَ"، وهي مُفاعَلَةٌ مِن واحِدٍ، وهَذا كُلُّهُ بَيِّنٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب