الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تُتْرَكُوا ولَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنكم ولَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهُ ولا رَسُولِهِ ولا المُؤْمِنِينَ ولِيجَةً واللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم وفي النارِ هم خالِدُونَ﴾
"أمْ" في هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَتِ المُعادِلَةَ، وإنَّما هي المُتَوَسِّطُ في الكَلامِ، وهي عِنْدُ سِيبَوَيْهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ إضْرابًا عَنِ اللَفْظِ لا مَعْناهُ، واسْتِفْهامًا، فَهي تَسُدُّ مَسَدَّ "بَلْ وألِفِ الِاسْتِفْهامِ"، وهي الَّتِي في قَوْلِهِمْ: "إنَّها لَإبِلٌ أمْ شاءٌ"، التَقْدِيرُ: بَلْ أهِيَ شاءٌ؟ وقَوْلُهُ: ﴿أنْ تُتْرَكُوا﴾ يَسُدُّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "حَسِبَ"، وقالَ المُبَرِّدُ: "أنْ" وما بَعْدَها مَفْعُولٌ أوَّلُ، والثانِي مَحْذُوفٌ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
كَأنَّ تَقْدِيرَهُ: مُهْمَلِينَ، أو سُدًى، ونَحْوُ ذَلِكَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "وَلَمّا" هي "ما" دَخَلَتْ عَلى "لَمْ" وفِيها مُبالَغَةٌ، ومَعْنى الآيَةِ: (p-٢٧٥)أظْنَنْتُمْ أنْ تُتْرَكُوا دُونَ اخْتِبارٍ وامْتِحانٍ؟ فَـ "لَمّا" في هَذِهِ الآيَةِ بِمَنزِلَةِ قَوْلِ الشاعِرِ:
؎ بِأيْدِي رِجالٍ لَمْ يَشِيمُوا سُيُوفَهم ∗∗∗ ولَمْ تَكْثُرِ القَتْلى بِها حِينَ سُلَّتِ
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَمّا يَعْلَمِ﴾ لَمّا يَعْلَمْ ذَلِكَ مَوْجُودًا كَما عَلِمَهُ أزَلًا بِشَرْطِ الوُجُودِ، ولَمّا يَظْهَرْ فِعْلُكم واكْتِسابُكُمُ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الثَوابُ والعِقابُ، فَفي العِبارَةِ تَجَوُّزٌ، وإلّا فَحَتْمٌ أنَّهُ قَدْ عَلِمَ اللهُ في الأزَلِ الَّذِينَ وصَفَهم بِهَذِهِ الصِفَةِ مَشْرُوطًا وُجُودُهُمْ، ولَيْسَ يَحْدُثُ لَهُ عِلْمٌ تَبارَكَ وتَعالى عن ذَلِكَ.
و﴿وَلِيجَةً﴾ مَعْناهُ: بِطانَةً ودَخِيلَةً، وقالَ عُبادَةُ بْنُ صَفْوانَ الغَنَوِيُّ:
؎ ولائِجُهم في كُلِّ مَبْدى ومَحْضَرِ ∗∗∗ ∗∗∗ إلى كُلِّ مَن يُرْجى ومَن يُتَخَوَّفُ
وهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الوُلُوجِ، فالمَعْنى: أمْرًا باطِنًا مِمّا يُنْكِرُهُ الحَقُّ.
وهَذِهِ الآيَةُ مُخاطِبَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعْناها أنَّهُ لا بُدَّ مِنِ اخْتِبارِهِمْ، فَهي كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَأْتِكم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٤]، وكَقَوْلِهِ: ﴿الم﴾ [العنكبوت: ١] ﴿أحَسِبَ الناسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهم لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ٢]، وفي هَذِهِ الآيَةِ طَعْنٌ عَلى المُنافِقِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الوَلائِجَ لا سِيَّما عِنْدَما فُرِضَ القِتالُ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "واللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ" بِالتاءِ عَلى المُخاطَبَةِ، وقَرَأ الحَسَنُ، ويَعْقُوبُ -فِي رِوايَةِ رُؤَيْسٍ- وسَلامٍ بِالياءِ عَلى الحِكايَةِ عَنِ الغائِبِ. (p-٢٧٦)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الآيَةُ، مَعْناهُ: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ بِحَقِّ الواجِبِ أنْ يَعْمُرُوا، وهَذا هو الَّذِي نَفى اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وإلّا فَقَدْ عَمَّرُوا مَساجِدَهُ قَدِيمًا وحَدِيثًا وتَغَلُّبًا وظُلْمًا، وقَرَأ حَمّادُ بْنُ أبِي سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، والجَحْدَرِيِّ: "مَسْجِدَ اللهِ" بِالإفْرادِ في المَوْضِعَيْنِ، وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، والأعْرَجُ، وشَيْبَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وغَيْرُهُمْ: "مَساجِدَ" بِالجَمْعِ في المَوْضِعَيْنِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ أيْضًا، وأبُو عَمْرٍو: "مَسْجِدَ" بِالإفْرادِ في هَذا المَوْضِعِ الأوَّلِ، و"مَساجِدَ" بِالجَمْعِ في الثانِي، كَأنَّهُ ذَكَرَ أوَّلًا فِيهِ النازِلَةَ ذَلِكَ الوَقْتَ، ثُمَّ عَمَّمَ المَساجِدَ ثانِيًا في الحُكْمِ الثابِتِ ما بَقِيَتِ الدُنْيا، ولَفْظُ الجَمْعِ يَقْتَضِي عُمُومَ المَساجِدِ كُلِّها، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ المَسْجِدُ الحَرامُ في المَوْضِعَيْنِ وحْدَهُ عَلى أنْ يُقَدَّرَ كُلُّ مَوْضِعِ سُجُودٍ فِيهِ مَسْجِدًا ثُمَّ يُجْمَعُ، ولَفْظُ الإفْرادِ في المَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي خُصُوصَ المَسْجِدِ الحَرامِ وحْدَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ الجِنْسُ فَيَعُمَّ المَساجِدَ كُلَّها، ولا يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ إضافَتُهُ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ مَن لا بَصَرَ لَهُ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ: الثانِي في هَذِهِ القِراءَةِ يُرادُ بِهِ الأوَّلُ وسائِرُ المَساجِدِ كُلُّها حُكْمُها حُكْمُ المَسْجِدِ الحَرامِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ﴾ إشارَةٌ إلى حالِهِمْ، إذْ أقْوالُهم وأفْعالُهم تَقْتَضِي الإقْرارَ بِالكُفْرِ والتَحَلِّيَ بِهِ، وقِيلَ: الإشارَةُ إلى قَوْلِهِمْ في التَلْبِيَةِ: "إلّا شَرِيكٌ هو لَكَ، تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ" ونَحْوُ ذَلِكَ، وحَكى الطَبَرِيُّ عَنِ السُدِّيِّ أنَّهُ قالَ: الإشارَةُ إلى أنَّ النَصْرانِيَّ كانَ يَقُولُ: أنا نَصْرانِيٌّ، واليَهُودِيُّ كَذَلِكَ، والوَثَنِيُّ يَقُولُ: أنا مُشْرِكٌ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا لَمْ يُحْفَظْ، ثُمَّ حَكَمَ اللهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بِأنَّ أعْمالَهم قَدْ حَبِطَتْ، أيْ: بَطَلَتْ، ولا أحْفَظُها تُسْتَعْمَلُ إلّا في السَعْيِ والعَمَلِ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ مِنَ الحَبَطِ وهو داءٌ قاتِلٌ (p-٢٧٧)يَأْخُذُ السائِمَةَ إذا رَعَتْ وبِيلًا، وهو الَّذِي في قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "إنَّ مِمّا يَنْبُتُ الرَبِيعُ ما يَقْتُلُ حَبَطًا أو يُلِمُّ"» الحَدِيثُ.
{"ayahs_start":16,"ayahs":["أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تُتۡرَكُوا۟ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَلَمۡ یَتَّخِذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَلِیجَةࣰۚ وَٱللَّهُ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ","مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِینَ أَن یَعۡمُرُوا۟ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ شَـٰهِدِینَ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِم بِٱلۡكُفۡرِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ وَفِی ٱلنَّارِ هُمۡ خَـٰلِدُونَ"],"ayah":"مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِینَ أَن یَعۡمُرُوا۟ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ شَـٰهِدِینَ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِم بِٱلۡكُفۡرِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ وَفِی ٱلنَّارِ هُمۡ خَـٰلِدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق