الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ هَلْ يَراكم مِن أحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهم بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكم عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إلَهَ إلا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ الضَمِيرُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( بَعْضُهم ) عائِدٌ عَلى المُنافِقِينَ، والمَعْنى: وإذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فِيها فَضِيحَةُ أسْرارِهِمْ نَظَرَ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ، يَفْهَمُ مِن تِلْكَ النَظْرَةِ التَقْرِيرَ، هَلْ مَعَكم مَن يَنْقُلُ عنكُمْ؟ هَلْ يَراكم مِن أحَدٍ حِينَ تُدَبِّرُونَ أُمُورَكُمْ؟ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾ مَعْناهُ: عن طَرِيقِ الِاهْتِداءِ، وذَلِكَ أنَّهم حِينَما يُبَيَّنُ لَهم كَشْفُ أسْرارِهِمْ والإعْلامُ بِمُغَيَّباتِ أُمُورِهِمْ يَقَعُ لَهم لا مَحالَةَ تَعَجُّبٌ وتَوَقُّفٌ ونَظَرٌ، فَلَوِ اهْتَدَوْا لَكانَ ذَلِكَ الوَقْتُ مَظِنَّةَ ذَلِكَ، فَهم إذْ يُصَمِّمُونَ عَلى الكُفْرِ ويَرْتَبِكُونَ فِيهِ كَأنَّهُمُ انْصَرَفُوا عن تِلْكَ الحالِ الَّتِي كانَتْ مَظِنَّةً لِلنَّظَرِ الصَحِيحِ والِاهْتِداءِ، وابْتَدَأ (p-٤٤٠)بِالفِعْلِ المُسْنَدِ إلَيْهِمْ إذْ هو تَعْدِيدُ ذَنْبٍ عَلى ما قَدْ بَيَّناهُ. وقَوْلُهُ: ﴿صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ دُعاءً عَلَيْهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا، أيِ اسْتَوْجَبُوا ذَلِكَ ﴿بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ أيْ لا يَفْهَمُونَ عَنِ اللهِ ولا عن رَسُولِهِ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّهُ قالَ: "لا تَقُولُوا: انْصَرَفْنا مِنَ الصَلاةِ، فَإنَّ قَوْمًا انْصَرَفُوا فَصَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ، ولَكِنْ قُولُوا: قَضَيْنا الصَلاةَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذا النَظَرُ الَّذِي في هَذِهِ الآيَةِ هو إيماءٌ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن بَعْضِهِمْ أنَّهُ قالَ: "نَظَرَ" في هَذِهِ الآيَةِ في مَوْضِعِ: "قالَ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ﴾ مُخاطَبَةٌ لِلْعَرَبِ في قَوْلِ الجُمْهُورِ، وهَذا عَلى جِهَةِ تَعْدِيدِ النِعْمَةِ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ، إذْ جاءَ بِلِسانِهِمْ وبِما يَفْهَمُونَهُ مِنَ الأغْراضِ والفَصاحَةِ وشُرِّفُوا بِهِ غابِرَ الأيّامِ. وقالَ الزَجّاجُ: هي مُخاطَبَةٌ لِجَمِيعِ العالَمِ، والمَعْنى: لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِنَ البَشَرِ، والأوَّلُ أصْوَبُ. وقَوْلُهُ: ﴿مِن أنْفُسِكُمْ﴾ يَقْتَضِي مَدْحًا لِنَسَبِ النَبِيِّ ﷺ وأنَّهُ مِن صَمِيمِ العَرَبِ وأشْرَفِها، ويَنْظُرُ إلى هَذا المَعْنى قَوْلُهُ ﷺ: « "إنَّ اللهَ اصْطَفى كِنانَةَ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ، واصْطَفى قُرَيْشًا مِن كِنانَةَ، واصْطَفى بَنِي هاشِمٍ مِن قُرَيْشٍ، واصْطَفانِي مِن بَنِي هاشِمٍ"»، ومِنهُ قَوْلُهُ ﷺ: « "إنِّي مِن نِكاحٍ ولَسْتُ مِن سِفاحٍ"»، مَعْناهُ: أنَّ نَسَبَهُ ﷺ إلى آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمْ يَكُنِ النَسْلُ فِيهِ إلّا مِن نِكاحٍ، ولَمْ يَكُنْ فِيهِ زِنًى، وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ قُسَيْطٍ المَكِّيُّ: "مِن أنْفَسِكُمْ" (p-٤٤١)بِفَتْحِ الفاءِ مِنَ النَفاسَةِ، ورُوِيَتْ عَنِ النَبِيِّ ﷺ وعن فاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وذَكَرَ أبُو عَمْرٍو أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما رَواها عَنِ النَبِيِّ ﷺ. وقَوْلُهُ: ﴿ما عَنِتُّمْ﴾ مَعْناهُ: عُنَتُكُمْ، فَـ "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، وهي ابْتِداءٌ، و"عَزِيزٌ" خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ "ما عَنِتُّمْ" فاعِلًا بِـ "عَزِيزٌ" و"عَزِيزٌ" صِفَةٌ لِلرَّسُولِ ﷺ، وهَذا أصْوَبُ مِنَ الأوَّلِ. والعَنَتُ: المَشَقَّةُ، وهي هُنا لَفْظَةٌ عامَّةٌ، أيْ: ما شَقَّ عَلَيْكم مِن كُفْرٍ وضَلالٍ بِحَسَبِ الحَقِّ، ومِن قَتْلٍ أو إسارٍ وامْتِحانٍ بِسَبَبِ الحَقِّ واعْتِقادِكم أيْضًا مَعَهُ، وقالَقَتادَةُ: المَعْنى: عَنَتُ مُؤْمِنِيكم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وتَعْمِيمُ عَنَتِ الجَمِيعِ أوجَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ يُرِيدُ: عَلى إيمانِكم وهُداكُمْ، وقَوْلِهِ: رَؤُفٌ مَعْناهُ: مُبالِغٌ في الشَفَقَةِ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الرَأْفَةُ أرَقُّ مِنَ الرَحْمَةِ. وقَرَأ "رَؤُفٌ" دُونَ مَدٍّ؛ الأعْمَشُ، وأهْلُ الكُوفَةِ، وأبُو عَمْرٍو. ثُمَّ خاطَبَ النَبِيَّ ﷺ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِعْمَةَ فَقالَ: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا﴾ يا مُحَمَّدُ، أيْ (p-٤٤٢)أعْرَضُوا بَعْدَ هَذِهِ الحالِ المُتَقَرِّرَةِ الَّتِي مَنَّ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى عَلَيْهِمْ بِها ﴿فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ﴾ مَعْناهُ: وأعْمالُكَ بِحَسَبِ قَوْلِكَ مِنَ التَفْوِيضِ إلى اللهِ والتَوَكُّلِ عَلَيْهِ والجِدِّ في قِتالِهِمْ. ولَيْسَتْ بِآيَةِ مُوادَعَةٍ لِأنَّها مِن آخِرِ ما نَزَلَ، وخُصِّصَ العَرْشُ بِالذِكْرِ إذْ هو أعْظَمُ المَخْلُوقاتِ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "العَظِيمُ" بِرَفْعِ المِيمِ صِفَةٌ لِلرَّبِّ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وهاتانِ الآيَتانِ لَمْ تُوجَدا حِينَ جُمِعَ المُصْحَفُ إلّا في حِفْظِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثابِتٍ، "وَوَقَعَ في البُخارِيِّ: أو أبِي خُزَيْمَةَ"، فَلَمّا جاءَ بِهِما تَذَكَّرَهُما كَثِيرٌ مِنَ الصَحابَةِ، وقَدْ كانَ زَيْدٌ يَعْرِفُهُما ولِذَلِكَ قالَ: "فَقَدْتُ آيَتَيْنِ مِن آخَرِ سُورَةِ التَوْبَةِ". ولَوْ لَمْ يَعْرِفْهُما لَمْ يَدْرِ هَلْ فَقَدَ شَيْئًا أمْ لا، فَإنَّما ثَبَتَتِ الآيَةُ بِالإجْماعِ لا بِخُزَيْمَةَ وحْدَهُ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ في كِتابِهِ قالَ: كانَ عُمَرُ لا يُثْبِتُ آيَةً في المُصْحَفِ إلّا أنْ يَشْهَدَ عَلَيْها رَجُلانِ، فَلَمّا جاءَ خُزَيْمَةُ بِهاتَيْنِ الآيَتَيْنِ قالَ: واللهِ لا أسْألُكَ عَلَيْهِما بَيِّنَةً أبَدًا فَإنَّهُ هَكَذا كانَ ﷺ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: يَعْنِي صِفَةَ النَبِيِّ ﷺ الَّتِي تَضَمَّنَتْها الآيَةُ، وهَذا -واللهُ أعْلَمُ- قالَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ في مُدَّةِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ حِينَ الجَمْعِ الأوَّلِ، وحِينَئِذٍ فُقِدَتِ الآيَتانِ، ولَمْ يُجْمَعْ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ في خِلافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وخُزَيْمَةُ بْنُ ثابِتٍ هو المَعْرُوفُ بِذِي الشَهادَتَيْنِ، وعُرِفَ بِذَلِكَ لِأنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أمْضى شَهادَتَهُ وحْدَهُ في ابْتِياعِ فَرَسٍ وحَكَمَ بِها لِنَفْسِهِ ﷺ، وهَذا خُصُوصٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ. وذَكَرَ النَقّاشُ (p-٤٤٣)عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّهُ قالَ: أقْرَبُ القُرْآنِ عَهْدًا بِاللهِ تَعالى هاتانِ الآيَتانِ: ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ﴾ إلى آخِرِ السُورَةِ. انْتَهى بِعَوْنِ اللهِ تَعالى وتَوْفِيقِهِ سُورَةُ التَوْبَةِ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب