الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَما كانَ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ لأبِيهِ إلا عن مَوْعِدَةٍ وعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأ مِنهُ إنَّ إبْراهِيمَ لأوّاهٌ حَلِيمٌ﴾ ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُونَ إنَّ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ﴿إنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَماواتِ والأرْضِ يُحْيِي ويُمِيتُ وما لَكم مِن دُونِ اللهَ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾
المَعْنى: لا حُجَّةَ أيُّها المُؤْمِنُونَ في اسْتِغْفارِ إبْراهِيمَ الخَلِيلِ لِأبِيهِ فَإنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ (p-٤٢٤)إلّا عن مَوْعِدَةٍ، واخْتُلِفَ في ذَلِكَ فَقِيلَ: عن مَوْعِدَةٍ مِن إبْراهِيمَ في أنْ يَسْتَغْفِرَ لِأبِيهِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿سَأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم: ٤٧]، وقِيلَ: عن مَوْعِدَةٍ مِن أبِيهِ لَهُ مِن أنَّهُ سَيُؤْمِنُ، فَكانَ إبْراهِيمُ قَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ في إيمانِهِ فَحَمَلَهُ عَلى الِاسْتِغْفارِ لَهُ حَتّى نُهِيَ عنهُ، وقَرَأ طَلْحَةُ: "وَما يَسْتَغْفِرُ إبْراهِيمُ" ورُوِيَ عنهُ: "وَما اسْتَغْفَرَ إبْراهِيمُ"، و"مَوْعِدَةٌ" مَفْعِلَةٌ مِنَ الوَعْدِ، وأمّا تَبَيُّنُهُ أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، فَقِيلَ: بِمَوْتٍ آزَرَ عَلى الكُفْرِ، وقِيلَ: ذَلِكَ بِأنَّهُ نُهِيَ عنهُ وهو حَيٌّ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذَلِكَ كُلُّهُ يَوْمَ القِيامَةِ، وذَلِكَ أنَّ في الحَدِيثِ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ يَلْقاهُ فَيَعْرِفُهُ ويَتَذَكَّرُ قَوْلَهُ: "سَأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي" فَيَقُولُ لَهُ: الزَمْ حَقْوِي فَلَنْ أدَعَكَ اليَوْمَ لِشَيْءٍ، فَيَلْزَمُهُ حَتّى يَأْتِيَ الصِراطَ فَيَلْتَفِتُ إلَيْهِ فَإذا هو قَدْ مُسِخَ ضِبْعانًا أمْذَرَ، فَيَتَبَرَّأُ مِنهُ حِينَئِذٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ورَبْطُ أمْرِ الِاسْتِغْفارِ بِالآخِرَةِ ضَعِيفٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ إبْراهِيمَ لأوّاهٌ حَلِيمٌ﴾ ثَناءٌ مِنَ اللهِ تَعالى عَلى إبْراهِيمَ، والأوّاهُ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هو الدَعّاءُ، وقِيلَ: هو الداعِي بِتَضَرُّعٍ، وقِيلَ: هو المُوقِنُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وقِيلَ: هو الرَحِيمُ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أيْضًا، وقِيلَ: هو المُؤْمِنُ التَوّابُ، وقِيلَ: هو المُسَبِّحُ، وقِيلَ: هو الكَثِيرُ الذِكْرِ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقِيلَ: هو التَلّاءُ لِلْقُرْآنِ، وقِيلَ: هو الَّذِي يَقُولُ مِن خَوْفِهِ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ أبَدًا: أوّاهُ ويُكْثِرُ ذَلِكَ. ورُوِيَ «أنَّ أبا ذَرٍّ سَمِعَ رَجُلًا يُكْثِرُ ذَلِكَ في طَوافِهِ فَشَكاهُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقالَ: "دَعْهُ (p-٤٢٥)فَإنَّهُ أوّاهُ"»، والتَأوُّهُ: التَفَجُّعُ الَّذِي يَكْثُرُ حَتّى يَنْطِقَ الإنْسانُ مَعَهُ بِـ "أوهِ"، قالَ المُؤَلِّفُ: ويُقالُ: أوَّهْ، فَمِنَ الأوَّلِ «قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِبِلالٍ في بَيْعٍ أو شِراءٍ أنْكَرَهُ عَلَيْهِ: (أوهِ، ذَلِكَ الرِبا بِعَيْنِهِ)،» ومِنَ الثانِي قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ فَأوهٍ لِذِكْراها إذا ما ذَكَرْتُها ∗∗∗ ومِن بُعْدِ أرْضٍ بَيْنَنا وسَماءِ
ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ المُثَقَّبِ العَبْدِيِّ:
؎ إذا ما قُمْتُ أرْحَلُها بِلَيْلٍ ∗∗∗ ∗∗∗ تَأوَّهَ آهَةَ الرَجُلِ الحَزِينِ
ويُرْوى: آهَّةَ، ومِن ذَلِكَ «قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: "أوَّهِ لِأفْراخِ مُحَمَّدٍ"»، وحَلِيمٌ مَعْناهُ: صابِرٌ مُحْتَمِلٌ عَظِيمُ العَقْلِ، والحِلْمُ العَقْلُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا﴾ الآيَةُ مَعْناهُ: التَأْنِيسُ لِلْمُؤْمِنِينَ، (p-٤٢٦)وَقِيلَ: إنَّ بَعْضَهم خافَ عَلى نَفْسِهِ مِنَ الِاسْتِغْفارِ لِلْمُشْرِكِينَ دُونَ أمْرٍ مِنَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى فَنَزَلَتِ الآيَةُ مُؤْنِسَةً، أيْ: ما كانَ اللهُ -بَعْدَ أنْ هَدى إلى الإسْلامِ وأنْقَذَ مِنَ النارِ- لِيُحْبِطَ ذَلِكَ ويُضِلَّ أهْلَهُ لِمُواقَعَتِهِمْ ذَنْبًا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنهُ نَهْيٌ عنهُ، فَأمّا إذا بَيَّنَ لَهم ما يَتَّقُونَ مِنَ الأُمُورِ ويَتَجَنَّبُونَ مِنَ الأشْياءِ فَحِينَئِذٍ مَن واقَعَ -بَعْدَ النَهْيِ- اسْتَوْجَبَ العُقُوبَةَ. وقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ كانُوا غَيْبًا فَحُوِّلَتِ القِبْلَةُ فَصَلَّوْا -قَبْلَ أنْ يَصِلَهم ذَلِكَ- إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وآخَرِينَ شَرِبُوا الخَمْرَ بَعْدَ تَحْرِيمِها قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ، فَخافُوا عَلى أنْفُسِهِمْ وتَكَلَّمُوا في ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الآيَةُ، والقَوْلُ الأوَّلُ أصْوَبُ وألْيَقُ بِالآيَةِ.
وذَهَبَ الطَبَرِيُّ إلى أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّها يَجِبُ أيُّها المُؤْمِنُونَ ألّا تَجْزَعُوا مِن عَدُوٍّ وإنْ كَثُرَ، ولا تَهابُوا أحَدًا فَإنَّ المَوْتَ المَخُوفَ والحَياةَ المَحْبُوبَةَ إنَّما هُما بِيَدِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والمَعْنى الَّذِي قالَ صَحِيحٌ في نَفْسِهِ، ولَكِنَّ قَوْلَهُ: "إنَّ القَصْدَ بِالآيَةِ إنَّما هو لِهَذا" قَوْلٌ يَبْعُدُ، والظاهِرُ في الآيَةِ إنَّما هو لَمّا نَصَّ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ نِعْمَتَهُ وفَضْلَهُ عَلى عَبِيدِهِ في أنَّهُ مَتى مَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِدايَةٍ فَفَضْلُهُ أسْبَغُ مِن أنْ يَصْرِفَهم ويُضِلَّهم قَبْلَ أنْ تَقَعَ مِنهم مَعْصِيَةٌ ومُخالَفَةُ أمْرٍ أتْبَعَ ذَلِكَ بِأوصافٍ فِيها تَمْجِيدُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وتَعْظِيمُهُ وبَعْثُ النُفُوسِ عَلى إدْمانِ شُكْرِهِ والإقْرارِ بِعُبُودِيَّتِهِ.
{"ayahs_start":114,"ayahs":["وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَ ٰهِیمَ لِأَبِیهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةࣲ وَعَدَهَاۤ إِیَّاهُ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥۤ أَنَّهُۥ عَدُوࣱّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَ ٰهِیمَ لَأَوَّ ٰهٌ حَلِیمࣱ","وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ یُبَیِّنَ لَهُم مَّا یَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ","إِنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یُحۡیِۦ وَیُمِیتُۚ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرࣲ"],"ayah":"إِنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یُحۡیِۦ وَیُمِیتُۚ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق