الباحث القرآني
(p-٤٠٧)قوله عزّ وجلّ:
﴿لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا واللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾ ﴿أفَمَن أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ ورِضْوانٍ خَيْرٌ أمْ مِنَ أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فانْهارَ بِهِ في نارِ جَهَنَّمَ واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظالِمِينَ﴾
ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمّا نَزَلَتْ: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا﴾ كانَ لا يَمُرُّ بِالطَرِيقِ الَّتِي فِيها المَسْجِدُ، وهَذا النَهْيُ إنَّما هو لِأنَّ البانِينَ لِمَسْجِدِ الضِرارِ قَدْ كانُوا خادَعُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ وقالُوا: بَنَيْنا مَسْجِدًا لِلضَّرُوراتِ والسَيْلِ الحايِلِ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا فَنُرِيدُ أنْ تُصَلِّي لَنا فِيهِ وتَدْعُوَ بِالبَرَكَةِ، فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالمَشْيِ مَعَهم إلى ذَلِكَ، واسْتَدْعى قَمِيصَهُ لِيَنْهَضَ فَنَزَلَتِ الآيَةُ: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا﴾. وقَوْلُهُ: ﴿لَمَسْجِدٌ﴾ قِيلَ: إنَّ اللامَ لامُ قَسَمٍ، وقِيلَ: هي لامُ الِابْتِداءِ كَما تَقُولُ: لَزَيْدٌ أحْسَنُ الناسِ فِعْلًا، وهي مُقْتَضِيَةٌ تَأْكِيدًا.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وفِرْقَةٌ مِنَ الصَحابَةِ والتابِعَيْنِ:رَضِيَ اللهُ عنهُمُ:المُرادُ بِالمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلى التَقْوى: هو مَسْجِدُ قُباءٍ. ورُوِيَ عن عُمَرَ، وأبِي سَعِيدٍ، وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّهُ مَسْجِدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالمَدِينَةِ، ويَلِيقُ القَوْلُ الأوَّلُ بِالقِصَّةِ، إلّا أنَّ القَوْلَ الثانِيَ رُوِيَ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ، ولا نَظَرَ مَعَ الحَدِيثِ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ في ذَلِكَ عن أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّهُ قالَ: «اخْتَلَفَ رَجُلٌ مِن بَنِي خُدْرَةَ ورَجُلٌ مَن بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَقالَ الخُدْرِيُّ: هو مَسْجِدُ الرَسُولِ ﷺ، وقالَ الآخَرُ: هو مَسْجِدُ قُباءٍ، فَأتَيا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَسَألاهُ فَقالَ: "هُوَ مَسْجِدِي هَذا، وفي الآخَرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ"» إلى كَثِيرٍ مِنَ الآثارِ في هَذا عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ومَسْجِدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ كانَ في بُقْعَتِهِ نَخْلٌ وقُبُورُ مُشْرِكِينَ ومِرْبَدٍ لِيَتِيمَيْنِ كانا في (p-٤٠٨)حِجْرِ أسْعَدَ بْنِ زُرارَةَ، وبَناهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ ثَلاثَ مَرّاتٍ: الأولى بِالسَمِيطِ وهي لَبِنَةٌ أمامَ لَبِنَةٍ، والثانِيَةُ بِالصَعِيدَةِ، وهي لَبِنَةٌ ونِصْفٌ في عَرْضِ الحائِطِ، والثالِثَةُ بِالأُنْثى والذَكَرِ، وهي لَبِنَتانِ تُعْرَضُ عَلَيْهِما لَبِنَتانِ، وكانَ في طُولِهِ سَبْعُونَ ذِراعًا، وكانَ عُمُدُهُ النَخْلُ، وكانَ عَرِيشًا يَكُفُّ المَطَرَ، وعُرِضَ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ بُنْيانُهُ ورَفْعُهُ فَقالَ: « "لا، بَلْ يَكُونُ عَرِيشًا كَعَرِيشِ أخِي مُوسى كانَ إذا قامَ ضَرَبَ رَأْسُهُ في سَقْفِهِ".» وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَنْقُلُ فِيهِ اللَبِنَ عَلى صَدْرِهِ، ويُقالُ إنَّ أوَّلَ مَن وضَعَ في أساسِهِ حَجَرًا رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ وضَعَ أبُو بَكْرٍ حَجَرًا، ثُمَّ وضَعَ عُمَرُ حَجَرًا، ثُمَّ وضَعَ عُثْمانُ حَجَرًا، ثُمَّ رَمى الناسُ بِالحِجارَةِ فَتَفاءَلَ بِذَلِكَ بَعْضُ الصَحابَةِ في أنَّها الخِلافَةُ فَصَدَقَ فَأْلُهُ.
قَوْلُهُ: ﴿مِن أوَّلِ يَوْمٍ﴾ قِيلَ: مَعْناهُ: مُنْذُ أوَّلِ يَوْمٍ، وقِيلَ: مَعْناهُ: مِن تَأْسِيسِ أوَّلِ يَوْمٍ، وإنَّما دَعا إلى هَذا الِاخْتِلافِ أنَّ مِن أُصُولِ النَحْوِيِّينَ أنَّ "مِن" لا تُجَرُّ بِها الأزْمانُ، وإنَّما تُجَرُّ الأزْمانُ بِمُنْذُ، تَقُولُ: ما رَأيْتُهُ مُنْذُ يَوْمَيْنِ أو سَنَةٍ أو يَوْمٍ، ولا تَقُولُ: مِن شَهْرٍ ولا مِن سَنَةٍ، ولا مِن يَوْمٍ، فَإذا وقَعَتْ "مِن" في الكَلامِ وهي تَلِي زَمَنًا فَيُقَدَّرُ مُضْمَرٌ يَلِيقُ أنْ تَجُرَّهُ "مِن" كَقَوْلِ الشاعِرِ:
؎ لِمَنِ الدِيارُ كَقُنَّةِ الحِجْرِ ∗∗∗ أقْوَيْنَ مِن حِجَجٍ ومِن دَهْرِ؟
و"مِن شَهْرٍ" رِوايَةٌ، فَقَدَّرُوهُ: "مِن مَرِّ حِجَجٍ ومِن مَرِّ دَهْرٍ"، ولَمّا كانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَّلِ يَوْمٍ﴾ يَوْمًا وهو اسْمُ زَمانٍ احْتاجُوا فِيهِ إلى تَقْدِيرِ "مِن تَأْسِيسِ"، ويَحْسُنُ عِنْدِي (p-٤٠٩)أنْ يُسْتَغْنى في هَذِهِ الآيَةِ عن تَقْدِيرٍ، وأنْ تَكُونَ "مِن" تَجُرُّ لَفْظَةَ "أوَّلِ" لِأنَّها بِمَعْنى البُداءَةِ، كَأنَّهُ قالَ: مِن مُبْتَدَإ الأيّامِ، وهي هُنا- تَقُومُ مَقامَ "المَرِّ" في البَيْتِ المُتَقَدِّمِ، وهي كَما تَقُولُ: "جِئْتُ مِن قَبْلِكَ ومِن بَعْدِكَ" وأنْتَ لا تَدُلُّ بِهاتَيْنِ اللَفْظَتَيْنِ إلّا عَلى الزَمَنِ، وقَدْ حُكِيَ لِي هَذا الَّذِي اخْتَرْتُهُ عن بَعْضِ أئِمَّةِ النَحْوِ.
ومَعْنى ﴿أنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ أيْ بِصَلاتِكَ وعِبادَتِكَ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ" بِكَسْرِ الهاءِ، وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ: "أنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهُ" بِضَمِّ الهاءِ الثانِيَةِ عَلى الأصْلِ، ويُحَسِّنُهُ تَجَنُّبُ تَكْرارِ لَفْظٍ واحِدٍ، وقالَ قَتادَةُ وغَيْرُهُ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى مَسْجِدِ الرَسُولِ ﷺ، والرِجالُ: جَماعَةُ الأنْصارِ.
ورُوِيَ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ لَهُمْ: "يا مَعْشَرَ الأنْصارِ إنِّي رَأيْتُ اللهَ أثْنى عَلَيْكم بِالطُهُورِ فَماذا تَفْعَلُونَ؟" فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ: إنّا رَأيْنا جِيرانَنا مِنَ اليَهُودِ يَتَطَهَّرُونَ بِالماءِ، (قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: يُرِيدُ الِاسْتِنْجاءَ بِالماءِ)، فَفَعَلْنا نَحْنُ ذَلِكَ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ لَمْ نَدَعْهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "فَلا تَدَعُوهُ أبَدًا".»
وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلّامٍ وغَيْرُهُ ما مَعْناهُ: إنَّ الضَمِيرَ عائِدٌ عَلى مَسْجِدِ قُباءٍ، والمُرادُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ إنَّما قالَ المُقالَةَ المُتَقَدِّمَةَ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، والأوَّلُ أكْثَرُ. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في الأفْضَلِ بَيْنَ الِاسْتِنْجاءِ بِالماءِ أو بِالحِجارَةِ، فَقِيلَ هَذا وقِيلَ هَذا، ورَأتْ فِرْقَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ الجَمْعَ بَيْنَهُما، فَيُنَقِّي بِالحِجارَةِ ثُمَّ يُتْبِعُ بِالماءِ، وحَدَّثَنِي أبِي رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ بَعْضَ عُلَماءِ القَيْرَوانِ كانُوا يَتَّخِذُونَ في مُتَوَضَّياتِهِمْ أحْجارًا في تُرابٍ يُنَقُّونَ بِها ثُمَّ يَسْتَنْجُونَ بِالماءِ أخْذًا بِهَذا القَوْلِ.
(p-٤١٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وإنَّما يُتَصَوَّرُ الخِلافُ في البِلادِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيها أنْ تُنَقَّيَ الحِجارَةُ، وابْنُ حَبِيبٍ لا يُجِيزُ الِاسْتِنْجاءَ بِالحِجارَةِ حَيْثُ يُوجَدُ الماءُ، وهو قَوْلٌ شَذَّ فِيهِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "يَتَطَهَّرُوا"، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، والأعْمَشُ: "يَطَّهَّرُوا" بِالإدْغامِ، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "المُتَطَهِّرِينَ" بِالتاءِ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ عن عَطاءٍ أنَّهُ قالَ: أحْدَثَ قَوْمٌ مِن أهْلِ قُباءٍ الِاسْتِنْجاءَ بِالماءِ فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِمْ، ورُوِيَ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: "مِنهم عُوَيْمُ بْنُ ساعِدَةَ» " ولَمْ يُسَمَّ أحَدٌ مِنهم غَيْرُ عُوَيْمٍ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَمَن أسَّسَ بُنْيانَهُ﴾ الآيَةُ اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى تَقْرِيرٍ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وجَماعَةٌ: "أُسِّسَ بُنْيانُهُ" عَلى بِناءِ "أسَّسَ" لِلْمَفْعُولِ ورَفْعِ "بُنْيانٌ" فِيهِما، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ، وجَماعَةٌ: "أسَّسَ بُنْيانَهُ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ ونَصْبِ "بُنْيانٌ" فِيهِما، وقَرَأ عِمارَةُ بْنُ ضَبّا -رَواهُ يَعْقُوبُ- الأوَّلُ عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ والثانِي عَلى بِنائِهِ لِلْفاعِلِ، والآيَةُ تَتَضَمَّنُ مُعادَلَةً بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَإمّا بَيْنَ البِناءَيْنِ وإمّا بَيْنَ البانِينَ، فالمُعادَلَةُ الأولى هي بِتَقْدِيرٍ: "أبِناءُ مَن أسَّسَ؟". وقَرَأ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ -وَرُوِيَتْ عن نَصْرِ بْنِ عاصِمٍ -: "أفَمَن أسَّ بُنْيانَهُ" عَلى إضافَةِ "أسَّ" إلى "بُنْيانٍ"، وقَرَأ نَصْرُ بْنُ عاصِمٍ، وأبُو حَيَوَةَ أيْضًا: "أساسُ بُنْيانِهِ"، وقَرَأ نَصْرُ بْنُ عاصِمٍ أيْضًا: "أُسُسُ بُنْيانِهِ" عَلى وزْنِ "فُعُلُ" بِضَمِّ الفاءِ والعَيْنِ، وهو جَمْعُ أساسٍ كَقَذالٍ وقُذُلٍ، حَكى ذَلِكَ أبُو الفَتْحِ، وذَكَرَ أبُو حاتِمٍ أنَّ (p-٤١١)هَذِهِ القِراءَةَ لِنَصْرٍ إنَّما هِيَ: "أسَسٌ" بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وسِينٍ مَفْتُوحَةٍ وسِينٍ مَضْمُومَةٍ، وعَلى الحِكايَتَيْنِ فالإضافَةُ إلى البُنْيانِ، وقَرَأ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أيْضًا: "أساسٌ" عَلى جَمْعِ "أُسٍّ"، والبُنْيانُ مَصْدَرٌ، يُقالُ: بَنى يَبْنِي بِناءً وبُنْيانًا كالغُفْرانِ والطُغْيانِ فَسُمِّيَ بِهِ المَبْنى مِثْلُ الخَلْقِ إذا أرَدْتَ بِهِ المَخْلُوقَ، وقِيلَ: هو جَمْعٌ واحِدُهُ بُنْيانَةٌ، وأنْشَدَ في ذَلِكَ أبُو عَلِيٍّ:
؎ كَبُنْيانَةِ القارِي مَوْضِعُ رِجْلِها ∗∗∗ ∗∗∗ وآثارِ نَسْعَيْها مِنَ الدَفِّ أبْلَقُ
وقَرَأ الجُمْهُورُ: "عَلى تَقْوى"، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: "عَلى تَقْوًى" بِتَنْوِينِ الواوِ، حَكى هَذِهِ القِراءَةَ سِيبَوَيْهِ ورَدَّها الناسُ، قالَ أبُو الفَتْحِ: قِياسُها أنْ تَكُونَ الألْفُ لِلْإلْحاقِ كَأرْطى ونَحْوِهِ.
وأمّا المُرادُ بِالبُنْيانِ الَّذِي أُسِّسَ عَلى التَقْوى والرِضْوانِ فَهو -فِي ظاهِرِ اللَفْظِ وقَوْلِ الجُمْهُورِ- المَسْجِدُ المَذْكُورُ قَبْلُ، ويَطَّرِدُ فِيهِ الخِلافُ المُتَقَدِّمُ، ورُوِيَ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أنَّهُ قالَ: المُرادُ بِالمَسْجِدِ المُؤَسَّسِ عَلى التَقْوى هو مَسْجِدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، والمُرادُ بِأنَّهُ أُسِّسَ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ، ورِضْوانٍ خَيْرٌ هو مَسْجِدٌ قُباءٍ، وأمّا البُنْيانُ الَّذِي أُسِّسَ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَهو مَسْجِدُ الضِرارِ بِإجْماعٍ. (p-٤١٢)والشَفا: الحاشِيَةُ والشَفِيرُ. والجُرُفُ: الحَفِيرُ حَوْلَ البِئْرِ ونَحْوُهُ مِمّا جَرَفَتْهُ السُيُولُ والنَدْوَةُ والبِلى. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ، وجَماعَةٌ: "جُرُفٍ" بِضَمِّ الراءِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، وجَماعَةٌ: "جُرْفٍ" بِسُكُونِ الراءِ، واخْتُلِفَ عن عاصِمٍ، وهُما لُغَتانِ، وقِيلَ: الأصْلُ بِضَمِّ الراءِ وتَخْفِيفِها بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ. و"هارٍ" مَعْناهُ: مُتَهَدِّمٌ مُنْهالٌ، مَن هارَ يَهُورُ، ويُقالُ: هارَ يَهِيرُ ويَهارُ، وأصْلُهُ: هايِرٌ أو هاوِرٌ، فَقِيلَ: قُلِبَتْ راؤُهُ قَبْلَ حَرْفِ العِلَّةِ فَجاءَ هارُو أو هارِي، فَصُنِعَ بِهِ ما صُنِعَ بِقاضٍ وغازٍ، وعَلى هَذا يُقالُ في حالِ النَصْبِ: هارِيًا، ومِثْلُهُ "فِي يَوْمٍ راحٍ" أصْلُهُ: رائِحٍ، ومِثْلُهُ "شاكِي السِلاحِ" أصْلُهُ: شائِكٌ، ومِثْلُهُ قَوْلُ العَجّاجِ:
لاثٍ بِهِ الأشاءُ والعُبْرِي
أصْلُهُ: لائِثٌ. ومِثْلُهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ ...................... ∗∗∗ ∗∗∗ خَفَضُوا أسِنَّتَهم فَكُلٌّ ناعٍ
عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَإنَّهُ يَحْتَمِلُ أنَّهُ مِن "نَعى يَنْعِي" والمُرادُ أنَّهم يَقُولُونَ: "يا ثارّاتِ فُلانٍ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: "فَكُلُّهم نائِعٌ" أيْ عاطِشٌ كَما قالَ عُمَيْرُ بْنُ شِيَيْمِ: (p-٤١٣)
؎ ......................... ∗∗∗ ∗∗∗ والأسَلَ النِياعا
وقِيلَ في "هارٍ": إنَّ حَرْفَ عِلَّتِهِ حُذِفَ حَذْفًا، فَعَلى هَذا يَجْرِي بِوُجُوهِ الإعْرابِ فَتَقُولُ: جَرْفٌ هارٌ، ورَأيْتَ جَرْفًا هارًا، ومَرَرْتُ بِحَرْفٍ هارٍ. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في إمالَةِ "هارٍ" و"انْهارَ".
وتَأْسِيسُ البِناءِ عَلى تَقْوى إنَّما هو بِحُسْنِ النِيَّةِ فِيهِ وقَصْدِ وجْهِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى وإظْهارِ شَرْعِهِ، كَما صَنَعَ في مَسْجِدِ النَبِيِّ ﷺ وفي مَسْجِدِ قُباءٍ. والتَأْسِيسُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ إنَّما هو بِفَسادِ النِيَّةِ وقَصْدِ الرِياءِ والتَفْرِيقِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، فَهَذِهِ تَشْبِيهاتٌ صَحِيحَةٌ بارِعَةٌ. و"خَيْرٌ" في هَذِهِ الآيَةِ تَفْضِيلٌ، ولا شَرِكَةَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ في خَيْرٍ إلّا عَلى مُعْتَقَدِ بانِي مَسْجِدِ الضِرارِ، فَبِحَسَبِ ذَلِكَ المُعْتَقَدِ صَحَّ التَفْضِيلُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فانْهارَ بِهِ في نارِ جَهَنَّمَ﴾ الظاهِرُ مِنهُ ومِمّا صَحَّ مِن خَبَرِهِمْ وهَدْمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَسْجِدَهم أنَّهُ خارِجٌ مَخْرَجَ المَثَلِ، أيْ: مَثَلُ هَؤُلاءِ المُضارِّينَ مِنَ المُنافِقِينَ في قَصْدِهِمْ مَعْصِيَةَ اللهِ وحُصُولِهِمْ مِن ذَلِكَ عَلى سُخْطِهِ كَمَن يَنْهارُ بُنْيانُهُ في نارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ اقْتُضِبَ الكَلامُ اقْتِضابًا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُهُ. وقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ وإنَّ ذَلِكَ المَسْجِدَ بِعَيْنِهِ انْهارَ في نارِ جَهَنَّمَ، قالَهُ قَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ. ورُوِيَ «عن جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وغَيْرِهِ أنَّهُ قالَ: رَأيْتُ الدُخانَ يَخْرُجُ مِنهُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.» ورُوِيَ في بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَآهُ حِينَ انْهارَ حَتّى بَلَغَ الأرْضَ السابِعَةَ فَفَزِعَ لِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ. ورُوِيَ أنَّهم لَمْ يُصَلُّوا فِيهِ أكْثَرَ مِن ثَلاثَةِ أيّامٍ، أكْمَلُوهُ يَوْمَ الجُمْعَةِ وصَلَّوْا فِيهِ يَوْمَ الجُمْعَةِ ولَيْلَةَ السَبْتِ وانْهارَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
(p-٤١٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا كُلُّهُ بِإسْنادٍ لَيِّنٍ، وما قَدَّمْناهُ أصْوَبُ وأصَحُّ، وكَذَلِكَ بَقِيَ أمْرُهُ والصَلاةُ فِيهِ مِن قَبْلِ سَفَرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إلى تَبُوكَ إلى أنْ أقْفَلَ مِنها.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظالِمِينَ﴾ طَعْنٌ عَلى هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ وإشارَةٌ إلَيْهِمْ، والمَعْنى: لا يَهْدِيهِمْ مِن حَيْثُ هم ظالِمُونَ، أو يَكُونُ المُرادُ الخُصُوصَ فِيمَن يُوافِي عَلى ظُلْمِهِ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ عن خَلَفِ بْنِ ياسِينَ أنَّهُ قالَ: رَأيْتُ مَسْجِدَ المُنافِقِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُ اللهُ في القُرْآنِ فَرَأيْتُ فِيهِ مَكانًا يَخْرُجُ مِنهُ الدُخانُ، وذَلِكَ في زَمَنِ أبِي جَعْفَرٍ المَنصُورِ. ورُوِيَ شَبِيهٌ بِهَذا أو نَحْوِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أسْنَدَهُ الطَبَرِيُّ.
{"ayahs_start":108,"ayahs":["لَا تَقُمۡ فِیهِ أَبَدࣰاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ یَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِیهِۚ فِیهِ رِجَالࣱ یُحِبُّونَ أَن یَتَطَهَّرُوا۟ۚ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِینَ","أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡیَـٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰنٍ خَیۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡیَـٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارࣲ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِی نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"],"ayah":"أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡیَـٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰنٍ خَیۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡیَـٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارࣲ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِی نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق