الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ألَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللهَ هو يَقْبَلُ التَوْبَةَ عن عِبادِهِ ويَأْخُذُ الصَدَقاتِ وأنَّ اللهَ هو التَوّابُ الرَحِيمُ﴾ ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكم ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَهادَةِ فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ قَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "ألَمْ يَعْلَمُوا" عَلى ذِكْرِ الغائِبِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ -بِخِلافٍ عنهُ-: "ألَمْ تَعْلَمُوا" عَلى مَعْنى: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ ألَمْ تَعْلَمُوا؟، وكَذَلِكَ هي في مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِالتاءِ مِن فَوْقٍ، والضَمِيرُ في "يَعْلَمُوا" قالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُرادُ بِهِ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنَ المُتَخَلِّفِينَ، وذَلِكَ أنَّهم لَمّا تِيبَ عَلى بَعْضِهِمْ قالَ الغَيْرُ: ما هَذِهِ الخاصَّةُ الَّتِي خُصَّ بِها هَؤُلاءِ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ في "يَعْلَمُوا" يُرادُ بِهِ الَّذِينَ تابُوا ورَبَطُوا أنْفُسَهم. وقَوْلُهُ: "هُوَ" تَأْكِيدٌ لِانْفِرادِ اللهِ بِهَذِهِ الأُمُورِ وتَحْقِيقٌ لِذَلِكَ، لِأنَّهُ لَوْ قالَ: "أنَّ اللهَ يَقْبَلُ التَوْبَةَ" لاحْتَمَلَ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ قَبُولُ رَسُولِهِ قَبُولًا مِنهُ، فَبَيَّنَتِ الآيَةُ أنَّ ذَلِكَ مِمّا لا يَصِلُ إلَيْهِ نَبِيٌّ ولا مَلَكٌ، وقَوْلُهُ: ﴿وَيَأْخُذُ الصَدَقاتِ﴾ مَعْناهُ: يَأْمُرُ بِها ويُشَرِّعُها كَما تَقُولُ: أخَذَ السُلْطانُ مِنَ الناسِ كَذا، إذا حَمَلَهم عَلى أدائِهِ. وقالَ الزَجّاجُ: مَعْناهُ: ويَقْبَلُ الصَدَقاتِ، وقَدْ ورَدَتْ أحادِيثُ في أخْذِ اللهِ صَدَقَةً مِن عَبِيدِهِ، مِنها قَوْلُهُ ﷺ الَّذِي رَواهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أبِي قَتادَةَ المُحارِبِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عنهُ: "إنَّ العَبْدَ إذا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ وقَعَتْ في يَدِ اللهِ قَبْلَ أنْ تَقَعَ في يَدِ السائِلِ"، ومِنها قَوْلُهُ الَّذِي رَواهُ أبُو هُرَيْرَةَ: "إنَّ الصَدَقَةَ تَكُونُ قَدْرَ اللُقْمَةِ يَأْخُذُها اللهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيها لِأحَدِكم كَما يُرَبِّي أحَدُكم فَلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ حَتّى يَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ"، وغَيْرُ هَذا مِنَ الأحادِيثِ الَّتِي هي عِبارَةٌ عَنِ القَبُولِ والتَحَفِّي بِصَدَقَةِ العَبْدِ، فَقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ تُخَرَّجَ لَفْظَةُ "وَيَأْخُذُ" عَلى هَذا. (p-٤٠١)وَيَتَعَلَّقُ في هَذِهِ الآيَةِ القَوْلُ في قَبُولِ التَوْبَةِ، وتَلْخِيصُ ذَلِكَ أنَّ قَبُولَ التَوْبَةِ مِنَ الكُفْرِ يَقْطَعُ بِهِ عَنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ إجْماعًا، وهَذِهِ نازِلَةُ هَذِهِ الآيَةِ، وهَذِهِ الفِرْقَةُ التائِبَةُ مِنَ النِفاقِ تائِبَةٌ مِن كُفْرٍ، وأمّا قَبُولُ التَوْبَةِ مِنَ المَعاصِي فَيَقْطَعُ بِأنَّ اللهَ تَعالى يَقْبَلُ مِن طائِفَةٍ مِنَ الأُمَّةِ تَوْبَتَهُمْ، واخْتُلِفَ هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَةُ الجَمِيعِ؟،وَأمّا إذا عُيِّنَ إنْسانٌ تائِبٌ فَيُرْجى قَبُولُ تَوْبَتِهِ ولا يَقْطَعُ بِها عَلى اللهِ. وأمّا إذا فَرَضْنا تائِبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ صَحِيحَ التَوْبَةِ، فَهَلْ يَقْطَعُ عَلى اللهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ أمْ لا؟ فاخْتُلِفَ -فَقالَتْ فِرْقَةٌ فِيها الفُقَهاءُ والمُحَدِّثُونَ- وهو كانَ مَذْهَبَ أبِي رَضِيَ اللهُ عنهُ-: يَقْطَعُ عَلى اللهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ لِأنَّهُ تَعالى أخْبَرَ بِذَلِكَ عن نَفْسِهِ، وعَلى هَذا يَلْزَمُ أنْ تُقْبَلَ تَوْبَةُ جَمِيعِ التائِبِينَ، وذَهَبَ أبُو المَعالِي وغَيْرُهُ مِنَ الأئِمَّةِ إلى أنَّ ذَلِكَ لا يُقْطَعُ بِهِ عَلى اللهِ تَعالى، بَلْ يَقْوى فِيهِ الرَجاءُ، ومِن حُجَّتِهِمْ أنَّ الإنْسانَ إذا قالَ في الجُمْلَةِ: إنِّي لا أغْفِرُ لِمَن ظَلَمَنِي، ثُمَّ جاءَ مَن قَدْ سَبَّهُ وآذاهُ، فَلَهُ تَعَقُّبُ حَقِّهِ، وبِالغُفْرانِ لِقَوْمٍ يَصْدُقُ وعْدُهُ ولا يَلْزَمُهُ الغُفْرانُ لِكُلِّ ظالِمٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ونَحْوُ هَذا مِنَ القَوْلِ، والقَوْلُ الأوَّلُ أرْجَحُ، واللهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عن عِبادِهِ﴾ هي بِمَعْنى "مِن"، وكَثِيرًا ما يُتَوَصَّلُ في مَوْضِعٍ واحِدٍ بِهَذِهِ وهَذِهِ، تَقُولُ: لا صَدَقَةَ إلّا عن غِنًى، ومِن غِنًى، وفَعَلَ فُلانٌ ذَلِكَ مِن أشَرِهِ وبَطَرِهِ، وعن أشَرِهِ وبَطَرِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ يَعْلَمُوا﴾ تَقْرِيرٌ، والمَعْنى: حُقَّ لَهم أنْ يَعْلَمُوا، وقَوْلُهُ: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾ الآيَةُ، صِيغَةُ أمْرٍ مُضَمَّنُها الوَعِيدُ، وقالَ الطَبَرِيُّ: المُرادُ بِها الَّذِينَ اعْتَذَرُوا مِنَ المُتَخَلِّفِينَ وتابُوا. (p-٤٠٢)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والظاهِرُ أنَّ المُرادَ بِها الَّذِينَ اعْتَذَرُوا ولَمْ يَتُوبُوا، وهُمُ المُتَوَعَّدُونَ، وهُمُ الَّذِينَ في ضَمِيرِ قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ يَعْلَمُوا﴾ إلّا عَلى الِاحْتِمالِ الثانِي مِن أنَّ الآياتِ كُلَّها في الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا، ومَعْنى ﴿فَسَيَرى اللهُ﴾ أيْ مَوْجُودًا مُعَوَّضًا لِلْجَزاءِ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ أو شَرٍّ، وأمّا الرَسُولُ والمُؤْمِنُونَ فَرُؤْيَتُهم رُؤْيَةُ حَقِيقَةٍ لا تَجَوُّزٍ، وقالَ ابْنُ المُبارَكُ: رُؤْيَةُ المُؤْمِنِينَ هي شَهادَتُهم عَلى المَرْءِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وهي ثَناؤُهم عِنْدَ الجَنائِزِ. وقالَ الحَسَنُ ما مَعْناهُ أنَّهم حَذَّرُوا مِن فِراسَةِ المُؤْمِنِ الَّتِي قالَ فِيها النَبِيُّ ﷺ: « "اتَّقَوْا فِراسَةَ المُؤْمِنِ فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ".» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَهادَةِ فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يُرِيدُ البَعْثَ مِنَ القُبُورِ، ومَعْنى الغَيْبِ والشَهادَةِ: ما غابَ وما شُوهِدَ، وهي حالَتانِ تَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ، وقَوْلُهُ: فَيُنَبِّئُكم عِبارَةٌ عن حُضُورِ الأعْمالِ وإظْهارِها لِلْجَزاءِ عَلَيْها وهَذا وعِيدٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب