الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ وأنّى لَهُ الذِكْرى﴾ ﴿يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾ ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أحَدٌ﴾ ﴿وَلا يُوثِقُ وثاقَهُ أحَدٌ﴾ ﴿يا أيَّتُها النَفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ ﴿وادْخُلِي جَنَّتِي﴾
رُوِيَ «فِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ أنَّها تُساقُ إلى الحَشْرِ بِسَبْعِينَ ألْفِ (p-٦١٤)زِمامٍ، يُمْسِكُ كُلَّ زِمامٍ مِنها سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ، فَيَخْرُجُ مِنها عُنُقٌ فَتَنْتَقِي الجَبابِرَةُ مِنَ الكُفّارِ...» في حَدِيثٍ طَوِيلٍ مُخْتَلِفِ الألْفاظِ، و"جَهَنَّمُ" هُنا: هي النارُ بِجُمْلَتِها، ورُوِيَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ "وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ" تَغَيُّرُ لَوْنِ النَبِيِّ ﷺ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ﴾ مَعْناهُ: يَتَذَكَّرُ عِصْيانَهُ وطُغْيانَهُ، ويَنْظُرُ ما فاتَهُ مِنَ العَمَلِ الصالِحِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وَأنّى لَهُ الذِكْرى﴾ أيْ: وأنّى لَهُ نَفْعُ الذِكْرى؟ ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى عنهُ أنَّهُ يَقُولُ: ﴿يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾، واخْتُلِفَ في مَعْنى قَوْلِهِ: "لِحَياتِي" فَقالَ جُمْهُورٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: مَعْناهُ: لِحَياتِي الباقِيَةِ، يُرِيدُ الآخِرَةَ، وقالَ قَوْمٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: المَعْنى: لِحَياتِي في قَبْرِي عِنْدَ بَعْثِي الَّذِي كُنْتُ أكْذِبُ بِهِ وأعْتَقِدُ أنِّي لَنْ أعُودَ حَيًّا، وقالَ: "لِحَياتِي" هُنا مَجازًا، أيْ: لَيْتَنِي قَدَّمْتُ عَمَلًا صالِحًا لِأنْعَمَ بِهِ اليَوْمَ وأحْيا حَياةً طَيِّبَةً، فَهَذا كَما يَقُولُ الإنْسانُ: أحْيِنِي في هَذا الأمْرِ، وقالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: المَعْنى لِوَقْتٍ أو لِمُدَّةِ حَياتِي الماضِيَةِ في الدُنْيا، وهَذا كَما تَقُولُ: جِئْتُ لِطُلُوعِ الشَمْسِ ولِتارِيخِ كَذا ونَحْوِهِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ: "يُعَذِّبُ" و"يُوثِقُ" بِكَسْرِ الذالِ والثاءِ، وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ في الضَمِيرِ في "عَذابِهِ" و"وِثاقِهِ" لِلَّهِ تَعالى، والمَصْدَرُ مُضافٌ إلى الفاعِلِ ولِذَلِكَ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما أنَّ اللهَ تَعالى لا يَكِلُ عَذابَ الكُفّارِ يَوْمَئِذٍ إلى أحَدٍ، والآخَرُ أنَّ عَذابَهُ مِنَ الشِدَّةِ في حَيِّزٍ لَمْ يُعَذَّبْ قَطُّ أحَدٌ بِمِثْلِهِ في الدُنْيا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ لِلْكافِرِ، والمَصْدَرُ مُضافٌ
(p-٦١٥)إلى المَفْعُولِ. وقَرَأ الكِسائِيُّ، وابْنُ سِيرِينَ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وسَوادُ القاضِي: "يُعَذَّبُ" و"يُوثَقُ" بِفَتْحِ الذالِ والثاءِ ورَوَيْتُ كَثِيرًا عَنِ النَبِيِّ ﷺ، فالضَمِيرانِ -عَلى هَذا- لِلْكافِرِ الَّذِي هو بِمَنزِلَةِ جِنْسِهِ كُلِّهِ والمَصْدَرُ مُضافٌ إلى المَفْعُولِ ووَضَعَ "عَذابَ" مَوْضِعَ "تَعْذِيبٍ" كَما قالَ:
؎ وبَعْدَ عَطائِكَ المِائَةَ الرَتّاعا؟
ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرانِ في هَذِهِ القِراءَةِ لِلَّهِ تَعالى، كَأنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: لا يُعَذِّبُ أحَدٌ قَطُّ في الدُنْيا عَذابَ اللهِ تَعالى لِلْكُفّارِ، فالمَصْدَرُ مُضافٌ إلى الفاعِلِ، وفي هَذا التَأْوِيلِ تَحامُلٌ. وقَرَأ الخَلِيلُ بْنُ أحْمَدَ: "وِثاقَهُ" بِكَسْرِ الواوِ.
ولَمّا فَرَغَ ذَكَرُ هَؤُلاءِ المُعَذَّبِينَ عَقَّبَ تَعالى بِذِكْرِ نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ وحالِهِمْ فَقالَ تَعالى: ﴿يا أيَّتُها النَفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ الآيَةُ، و"المُطْمَئِنَّةُ" مَعْناهُ: المُوقِنَةُ غايَةَ اليَقِينِ، ألا تَرى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ قالَ: "وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" ؟ فَهي دَرَجَةٌ زائِدَةٌ عَلى
(p-٦١٦)الإيمانِ، وهي ألّا يَبْقى عَلى النَفْسِ في يَقِينِها مَطْلَبٌ يُحَرِّكُها إلى تَحْصِيلِهِ.
واخْتَلَفَ الناسُ في هَذا النِداءِ مَتى يَقَعُ؟ فَقالَ ابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهُ: هو عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِ المُؤْمِنِ مِن جَسَدِهِ في الدُنْيا، ورُوِيَ «أنَّ أبا بَكْرٍ الصَدِيقَ رَضِيَ اللهُ عنهُ سَألَ عن ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقالَ لَهُ: "إنَّ المَلِكَ سَيَقُولُها لَكَ يا أبا بَكْرٍ عِنْدَ مَوْتِكَ"»، ومَعْنى ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ-: ارْجِعِي بِالمَوْتِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي عِبادِي﴾ مَعْناهُ: في عِدادِ عِبادِي الصالِحِينَ، وهَذِهِ قِراءَةُ الجُمْهُورِ بِجَمْعِ "عِبادِي". وقِيلَ: النِداءُ عِنْدَ قِيامِ الأجْسادِ مِنَ القُبُورِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾ مَعْناهُ: بِالبَعْثِ مِن مَوْتِكَ ارْجِعِي إلى اللهِ تَعالى، وقِيلَ: "الرَبُّ" هُنا: الإنْسانُ ذُو النَفْسِ، أيِ: ادْخُلِي في الأجْسادِ، و"النَفْسُ" اسْمُ جِنْسٍ، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: هَذا النِداءُ هو الآنَ لِلْمُؤْمِنِينَ، كَما ذَكَرَ اللهُ تَعالى حالَ الكافِرِينَ قالَ: يا مُؤْمِنُونَ دُومُوا وجِدُّوا حَتّى تَرْجِعُوا راضِينَ مَرْضِيِّينَ، فالنَفْسُ -عَلى هَذا- اسْمُ الجِنْسِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وأبُو شَيْخٍ، والضَحّاكُ، واليَمانِيُّ، ومُجاهِدٌ، وأبُو جَعْفَرٍ: "فادْخُلِي في عَبْدِي"، والنَفْسُ -عَلى هَذا- لَيْسَتْ بِاسْمِ الجِنْسِ، وإنَّما خاطَبَ مُفْرَدَةً. قالَ أبُو شَيْخٍ: الرُوحُ تَدْخُلُ في البَدَنِ، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "يا أيَّتُها النَفْسُ الآمِنَةُ المُطْمَئِنَّةُ، الَّتِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فارْجِعِي في عَبْدِي"، وقَرَأ سالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ "فادْخُلِي في عِبادِي ولِجِي جَنَّتِي"، وتَحْتَمِلُ قِراءَةُ "عَبْدِي" أنْ يَكُونَ "العَبْدُ" اسْمَ جِنْسٍ، جَعَلَ عِبادَهُ كالشَيْءِ الواحِدِ دَلالَةً عَلى الِالتِحامِ، كَما قالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "وَهم يَدٌ عَلى مَن سِواهُمْ".» وقالَ (p-٦١٧)آخَرُونَ: هَذا النِداءُ إنَّما هو في المَوْقِفِ عِنْدَ ما يَنْطَلِقُ بِأهْلِ النارِ إلى النارِ، فَنِداءُ النُفُوسِ -عَلى هَذا- إنَّما هو نِداءُ أرْبابِ النُفُوسِ مَعَ النُفُوسِ. ومَعْنى ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾ -عَلى هَذا- إلى رَحْمَةِ رَبِّكِ، و"العِبادُ" هُنا: الصالِحُونَ المُتَّقُونَ.
كَمُلَ تَفْسِيرُ [سُورَةِ الفَجْرِ] والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ
{"ayahs_start":23,"ayahs":["وَجِا۟یۤءَ یَوۡمَىِٕذِۭ بِجَهَنَّمَۚ یَوۡمَىِٕذࣲ یَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَـٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكۡرَىٰ","یَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی قَدَّمۡتُ لِحَیَاتِی","فَیَوۡمَىِٕذࣲ لَّا یُعَذِّبُ عَذَابَهُۥۤ أَحَدࣱ","وَلَا یُوثِقُ وَثَاقَهُۥۤ أَحَدࣱ","یَـٰۤأَیَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَىِٕنَّةُ","ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِیَةࣰ مَّرۡضِیَّةࣰ","فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی","وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی"],"ayah":"فَیَوۡمَىِٕذࣲ لَّا یُعَذِّبُ عَذَابَهُۥۤ أَحَدࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق