الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ﴾ ﴿وَأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ﴾ ﴿كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾ ﴿وَلا تَحاضُّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ ﴿وَتَأْكُلُونَ التُراثَ أكْلا لَمًّا﴾ ﴿وَتُحِبُّونَ المالَ حُبًّا جَمًّا﴾ ﴿كَلا إذا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ ﴿وَجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ ذَكَرَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ ما كانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُهُ وتَسْتَدِلُّ بِهِ عَلى إكْرامِ اللهِ تَعالى وإهانَتِهِ لِعَبْدِهِ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَرَوْنَ أنَّ مِن عِنْدِهِ الغِنى والثَرْوَةَ والأولادَ فَهو المُكَرَّمُ، وبِضِدِّهِ المُهانُ، ومِن حَيْثُ كانَ هَذا المَقْطَعُ غالِبًا عَلى كَثِيرٍ مِنَ الكُفّارِ جاءَ التَوْبِيخُ في هَذِهِ الآيَةِ لِاسْمِ الجِنْسِ؛ إذْ قَدْ يَقَعُ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ في شَيْءٍ مِن هَذا المَنزَعِ، ومِن ذَلِكَ حَدِيثُ الأعْرابِ الَّذِينَ كانُوا يَقْصِدُونَ المَدِينَةَ عَلى النَبِيِّ ﷺ، فَمَن نالَ خَيْرًا قالَ: هَذا دِينٌ حَسَنٌ، ومَن نالَهُ شَرٌّ قالَ هَذا دِينُ سُوءٍ. و"ابْتَلاهُ" مَعْناهُ: اخْتَبَرَهُ، و"نَعَّمَهُ" مَعْناهُ: جَعَلَهُ ذا نِعْمَةٍ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "أكْرَمَنِي" بِالياءِ في وصْلٍ ووَقْفٍ، وحَذَفَها عاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ في الوَجْهَيْنِ، وقَرَأ نافِعٌ بِالياءِ في الوَصْلِ وحَذَفَها في الوَقْفِ، وكَذَلِكَ "أهانَنِي"، وخَيْرٌ في الوَجْهَيْنِ أبُو عَمْرٍو، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "فَقَدَرَ" بِتَخْفِيفِ الدالِ، بِمَعْنًى ضَيِّقٍ، وقَرَأ الحَسَنُ بِخِلافٍ- وأبُو جَعْفَرٍ، وعِيسى، وخالِدٌ: "فَقَدَّرَ" "بِشَدِّ الدالِ"، بِمَعْنى: جَعَلَهُ عَلى قَدْرٍ، وقِيلَ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ في مَعْنى التَضْيِيقِ؛ لِأنَّهُ ضَعَّفَ "قَدَّرَ" (p-٦١١)مُبالَغَةً لا تَعْدِيَةً، ويَقْتَضِي قَوْلُ الإنْسانِ "أهانَنِ"؛ لِأنَّ "قَدْرَ" مُعَدًّى إنَّما مَعْناهُ: أعْطاهُ ما يَكْفِيهِ، ولا إهانَةَ مَعَ ذَلِكَ. ثُمَّ قالَ تَعالى: "كَلّا" رَدًّا عَلى قَوْلِهِمْ ومُعْتَقَدِهِمْ، أيْ لَيْسَ إكْرامُ اللهِ تَعالى وإهانَتُهُ كَذَلِكَ، وإنَّما ذَلِكَ ابْتِلاءٌ فَحَقُّ مَنِ ابْتُلِيَ بِالغِنى أنْ يَشْكُرَ ويُطِيعَ، ومَنِ ابْتُلِيَ بِالفَقْرِ أنْ يَشْكُرَ ويَصْبِرَ، وأمّا إكْرامُ اللهِ تَعالى فَهو بِالتَقْوى، وإهانَتُهُ فَبِالمَعْصِيَةِ، ثُمَّ أخْبَرَهم بِأعْمالِهِمْ مِن أنَّهم لا يُكْرِمُونَ اليَتِيمَ وهو -مِن بَنِي آدَمَ- الَّذِي فَقَدَ أباهُ وكانَ غَيْرَ بالِغٍ، ومِنَ البَهائِمِ ما فَقَدَ أمَّهُ، وقالَ النَبِيُّ ﷺ: « "أحَبُّ البُيُوتِ إلى اللهِ، بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ مُكْرَّمٌ".» وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: "تَحُضُّونَ" بِمَعْنى: يَحُضُّ بَعْضُكم بَعْضًا، أو تَحُضُّونَ أنْفُسَكُمْ، وقَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "تَحاضُّونَ" بِفَتْحِ التاءِ، بِمَعْنى: يَتَحاضُّونَ، أيْ يَحُضُّ قَوْمٌ قَوْمًا، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: "يَحُضُّونَ" بِياءٍ مِن تَحْتٍ مَفْتُوحَةٍ وبِغَيْرِ ألِفٍ، وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبارَكِ: "تُحاضُّونِ" بِضَمِّ التاءِ -عَلى وزْنِ تُقاتِلُونَ-، أيْ أنْفُسَكُمْ، أيْ بَعْضُكم بَعْضًا، ورَواها الشَيْرَزِيُّ عَنِ الكِسائِيِّ، وقَدْ يَجِيءُ "فاعَلَتْ" بِمَعْنى "فَعَلَّتْ" وهَذا مِنهُ، وإلى هَذا ذَهَبَ أبُو عَلِيٍّ، وأنْشَدَ: ؎ تَحاسَنْتُ بِهِ................... أيْ حَسُنَتْ وأنْشَدُ أيْضًا: ؎ إذا تَخازَرْتُ وما بِي مِن خَزَرْ (p-٦١٢)وَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُفاعَلَةً، ويَتَّجِهُ ذَلِكَ عَلى رَجَفَ، فَتَأمَّلْهُ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "تَتَحاضُّون" بِتاءَيْنِ. و"طَعامِ" في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنى إطْعامٍ، وقالَ قَوْمٌ: أرادَ نَفْسَ طَعامِهِ الَّذِي يَأْكُلُ، فَفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: عَلى بَذْلِ طَعامِ المِسْكِينِ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِي[سُورَةِ بَراءَةَ] في المِسْكِينِ والفَقِيرِ بِما يُغْنِي عن إعادَتِهِ. وعَدَّدَ تَعالى عَلَيْهِمْ جِدَّهم في أكْلِ التُراثِ لِأنَّهم لا يُورِّثُونَ النِساءَ ولا صِغارَ الأولادِ، وإنَّما كانَ يَأْخُذُ المالَ مَن يُقاتِلُ ويَحْمِي الحَوْزَةَ. و"اللَمُّ": الجَمْعُ واللَفُّ. قالَ الحَسَنُ: هو أنْ يَأْخُذَ في المِيراثِ حَظَّهُ وحَظَّ غَيْرِهِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: "لَمَمْتُ ما عَلى الخَوّانِ" إذا أكَلْتُ جَمِيعَ ما عَلَيْهِ بِأسْرِهِ، ومِنهُ "لَمُّ الشَعْثِ"، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ولِسْتُ بِمُسْتَبِقٍ أخًا لا تَلُمُّهُ ∗∗∗ عَلى شَعَثِ أيِّ الرِجالِ المُهَذَّبِ و"الجَمُّ": الكَثِيرُ الشَدِيدُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ إنْ تَغْفِرِ اللهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا ∗∗∗ ∗∗∗ وأيُّ عَبْدٍ لَكَ لا ألَمّا؟ (p-٦١٣)وَمِنهُ الجَمُّ مِنَ الناسِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كَلا﴾ رَدًّا عَلى أفْعالِهِمْ هَذِهِ، وتَوْطِئَةً لِلْوَعِيدِ، أيْ سَتَرَوْنَ أنَّ أفْعالَهم لَيْسَتْ عَلى قِوامٍ إذا دُكَّتِ الأرْضُ، ودَكُّها هو تَسْوِيَتُها بِذَهابِ جِبالِها، والناقَةُ الدَكّاءُ الَّتِي لا سَنامَ لَها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجاءَ رَبُّكَ﴾ مَعْناهُ: وجاءَ قَدَرُهُ وسُلْطانُهُ وقَضاؤُهُ، وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: مَعْناهُ: ظُهُورُهُ لِلْخَلْقِ هُنالِكَ، لَيْسَ مَجِيءُ نَقْلَةٍ، وكَذَلِكَ مَجِيءُ الصاخَّةِ ومَجِيءُ الطامَّةِ. و"المَلَكُ" اسْم جِنْسٍ، يُرِيدُ جَمِيعَ المَلائِكَةِ، ورُوِيَ أنَّ مَلائِكَةَ كُلِّ سَماءٍ يَكُونُونَ صَفًّا حَوْلَ الأرْضِ في يَوْمِ القِيامَةِ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ في ذَلِكَ حَدِيثًا طَوِيلًا اخْتَصَرُتُهُ، وبِهَذا المَعْنى يَتَفَسَّرُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ التَنادِ﴾ [غافر: ٣٢] عَلى قِراءَةٍ مِن شَدَّ الدالَ، وقَوْلُهُ تَعالى في [سُورَةِ الرَحْمَنِ]: ﴿إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا﴾ [الرحمن: ٣٣] الآيَةُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ في هَذِهِ الآيَةِ: "تُكْرِمُونَ" بِالتاءِ، وكَذَلِكَ سائِرُ الأفْعالِ بَعْدَها عَلى الخِطابِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو والحَسَنُ ومُجاهِدٌ وأبُو رَجاءٍ وقَتادَةُ والجَحْدَرِيُّ: "يُكْرِمُونَ" بِالياءِ في جَمِيعِها، عَلى ذِكْرِ الغائِبِ إذْ قَدْ تَقَدَّمَ اسْمُ جِنْسِ الإنْسانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب